هل تستند العلمانية إلى المنهج العلمي؟
التقيت بالعلمانية للمرة الأولى أثناء دراستي الجامعية، حيث كان عدد من أساتذتي يعرفون أنفسهم كعلمانيين في النقاشات الحرة خارج غرفات الدرس، وهي النقاشات التي كثيرًا ما كانت تتطرق لموضوعات عامة تتعلق بالمجتمع أو الثقافة. وكم كانت صدمتي عندما كانوا يتناولون أي مسألة تتعلق بالإسلام، إذ يبدو ساعتها وكأن تناولهم يقطر حقدًا وغلًا وكراهية، وهو إلى جانب ذلك يفتقر إلى الموضوعية والمنهجية التي يفترض بالأكاديمي تعودها والحرص عليها، إذ يعمدون إلى حوادث مفردة فيعمموها، وإلى مواقف شاذة فيجعلوها أصول يبنون عليها، وإلى نصوص يخرجوها عن معناها القريب الواضح إلى معنى يناسب دعاواهم، وغير ذلك مما لا ينبغي أن يفعله طالب علم مبتدأ، ناهيك أن يفعله أكاديمي محترف.
وقد دفعتني هذه الصدمة للتوقف كثيرًا أمام أسئلة ظلت تراوح في ذهني، عن ذلك الادعاء الذي يروجه العلمانيون دائمًا، ادعاء استناد العلمانية إلى المنهج العلمي. فإذا كانت العلمانية تستند إلى المنهج العلمي، فكيف يسوغ العلماني لنفسه التدليس على نفسه والآخرين، بتحيزه في اختيار الأدلة، أو لي أعناق هذه الأدلة لتناسب دعاواه؟ أهي مسألة فردية تخص شخص بعينه، أم أنها سلوك عام في مجموع العلمانيين، أم أنها طبيعة العلمانية نفسها؟ ومنذ ذلك الحين، بدأت رحلة البحث عن جواب لسؤال محدد “هل تستند العلمانية إلى المنهج العلمي؟”.
المنهج العلمي
لا يختلف المنهج العلمي سواء استخدم في التصميم المعماري أم في علم المحيطات أم في العلوم الاجتماعية، فهو يتكون من سلسلة من ثلاثة حلقات، الحلقة الأولى جمع البيانات، والثانية تفسير وتحليل هذه البيانات، والأخيرة صياغة نموذج يمكن من خلاله التنبؤ بسلوك الظاهرة التي تصفها هذه البيانات، وهو ما يتبين منه أن دقة نتيجة البحث العلمي تعتمد على دقة البيانات المدخلة إلى المنهج. لكن البيانات تعتمد على أدوات القياس، وقديمًا كانت أدوات القياس التي يعتمد عليها العلماء لا تزيد عن حواسهم الطبيعية، لذلك كان تفسيرهم للظواهر الطبيعية قاصر على ما توفره هذه الحواس من بيانات، ثم صنعوا أدوات جديدة حسنت وزادت من قوة حواسهم كالمجهر والمرقاب والحاسوب وغيرها من الأدوات العلمية، وبطريق هذه الأدوات، زادت دقة البيانات المتحصلة، فتوسعت نظرة العلماء للعالم بدورها، وأصبحت أكثر دقة. لقد كان العلماء فيما مضى ينظرون إلى الضوء، ويحسبونه أنهما يرونه منه، ثم جاء الألماني رونتجن فأكتشف الأشعة السينية، وقال إنها من نفس طبيعة الضوء، وأسماهما معًا الإشعاع الكهرومغناطيسي، فهل كانت الأشعة السينية غير موجودة قبل رونتجن، ثم أخترعها رونتجن، أم أن أدوات القياس التي استخدمها العلماء كانت قاصرة، ثم تطورت. وهذا يبين الحقيقة الأولى بشأن المنهج العلمي، إذا أنه يعتمد دائمًا على ما تيسر له من بيانات.
الحقيقة الثانية بشأن المنهج العلمي أن من يشتغلون به لا يزعمون أنهم باستخدامه يصلوا إلى الحقيقة المطلقة، بل يصلوا إلى ما يسمى بالإنجليزية Educational Guess، أي تخمين مدروس. ولعل قصة النظرية الذرية الحديثة هي انسب مثال في هذا الموضع، فمنذ القرن الثامن عشر، آمن العلماء بأن المادة مصنوعة من ذرات، ولكنهم لم يدركوا كنه هذه الذرات، ثم أتى الإنجليزي تومسون الذي اقترح بناءً على ما توفر له من بيانات، أن الذرة كتلة مصمتة، ليأتي بعده تلميذه رذرفورد ليعيد تفسير البيانات ويتحصل على بيانات جديدة تقوده إلى أن يقترح أن بنية الذرة تشبه بنية كوكب تدور حوله أقمار، حيث يمثل الكوكب نواة الذرة، بينما تمثل الكترونات الأقمار. ولاحقًا، ونتيجة أبحاث آينشتاين وماكس بلانك، قام بوهر بتعديلات أساسية على النموذج الذي اقترحه رذرفورد، مقدمًا الأساس لما عرف بالنموذج الذري الحديث، والذي لا يزال العلماء يعملون على تحسينه وتطويره إلى اليوم. وخلال هذا التاريخ الطويل، لم يزعم أي من هؤلاء العلماء بأنه قد وصل إلى نموذج نهائي بصف الذرة، بل سمى كل منهم ما يقدمه بنظرية Theory، إشارة إلى أنها لا تزيد عن تخمين مدروس. فالعلم يبحث دائمًا عن تخمين مدروس قادر على تفسير الظواهر أكثر من غيره من التخمينات المدروسة، دون أن يدعي عصمة أي من هذه التخمينات.
هل العلمانية علمية؟
أما العلمانية فهي تصور للمعرفة، يبحث عن إجابات لأسئلة مختلفة عن الإنسان والعالم والتاريخ، مسترشدة في ذلك بالعقل الذي اعتبرته السبيل الوحيد للحصول على إجابات هذه الأسئلة. ولا يخفى على القارئ، أن العلمانية قد نشئت كرد فعل سلبي، على إصرار الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا على ادعائها بأنها تمتلك الإجابات الوحيدة مطلقة الصحة عن هذه الأسئلة باعتبارها ممثل الرب على الأرض، وقمعت أي طرح يخالف “حقيقتها المطلقة” حتى حرقت أحد رهبانها، واسمه جوردانو برونو، بسبب أراءه في الفيزياء والفلك التي تختلف مع ما تقول به الكنيسة.
وقد تسبب هذا التزامن بين نشوء العلمانية وبين الطفرة العلمية في أوروبا، في توهم أن العلمانية والعلم وجهين لعملة واحدة، ولكن العلم يتعلق بالمسائل الطبيعية والمادية، بينما العلمانية تعني بالمسائل الإنسانية والاجتماعية، وهو التشوش الذي أدى إلى الزعم بأن العلمانية تستند على منهج علمي صلب، وأن العلمانية تنمو المناخ الطبيعي لنمو العلم. وهذا التشوش نلمسه لدى العلمانيين العرب خاصة، ومثال له كان قد ظهر في حلقة من برنامج “الاتجاه المعاكس” بثتها قناة الجزيرة في 15 مارس 2007، جمعت سيد القمني، العلماني المصري المعروف، بالراحل عبد الوهاب المسيري، إذ يوجه القمني عبارة إلى مقدم البرنامج، فيصل الحسيني، قال فيها: “أنت من نتاج العلمانية والتلفزيون إنتاج العلمانية والعربية اللي جاء بها الدكتور إنتاج العلمانية”، وفي عبارة أخرى يقول: “من يريد أن يواجه العلمانية عليه أن يواجهها بسلة علوم زي السلة اللي عندها “، ناسبًا في المرتين منتجات العلم والتقنية إلى العلمانية.
في واقع الحال، تطرح العلمانية منهجًا للمعرفة يقوم على التحسين والتقبيح العقليين، مع ادعاء أن نتاج هذا المنهج لابد أن يتوافق مع العالم بأكملة، لأن العقل واحد لدي كل البشر، وهذا ما يصادم المنهج العلمي، حيث دقة الحكم العقلي مرهون بدقة البيانات التي استند إليها هذا الحكم، ومن ثم ما قد يوافق عقل قد لا يوافق عقل آخر على أساس ما توفر لهما من بيانات. كان النازية حركة علمانية، وقد هيء لهم المنهج العلماني أن الشعب الألماني أرقى من غيره من الشعوب، فوافق هذا هواهم فزعموا أنه موافق لعقولهم، وكانت النتيجة أن سيق الشعب الألماني لمذبحة الحرب العالمية الثانية. وكذلك كانت الشيوعية في الاتحاد السوفيتي السابق حركة علمانية، وزعمت أن الشيوعية نتاج عقلي يتوافق موضوعيًا مع سنن الطبيعة والتاريخ، حتى ذهبوا في تدليسهم أن زعموا أن مدرستهم في العلمانية مدرسة الاشتراكية (العلمية)، ولكن كثير من سيء الحظ الذين عاشوا في ظل الاتحاد السوفيتي لم تستحسن عقولهم ما جاء به الشيوعيين، فكان مصيرهم القتل أو معتقلات سيبيريا.
وهنا يوجد ثمة سؤال يبحث عن إجابة، إذا كان منهج العلمانية في المعرفة يتوافق مع العالم لأنه نتاج موضوعي للعالم، فلماذا تتنوع المدارس العلمانية على الرغم من صدروها عن نفس العقل. إن العلمانية تناقض المنهج العلمي عندما تزعم بأن ما توصلت إليه هو بمثابة حقائق اقتصادية واجتماعية مطلقة تتوافق مع سنن التاريخ والعالم، حيث أن المنهج العلمي يعتمد على أن صورتنا عن العالم دائمًا صورة قاصرة ومنقوصة، ولذلك يجتهد العلماء في استكمال هذه الصورة بمزيد من البحث، فصورة العلم عن العالم هي “تخمين مدروس” للعالم، بينما تزعم العلمانية بأن الصورة التي تقدمها عن هذا العالم، صورة مطلقة الصحة.
الخلاصة
على الرغم من الوهم القائل بأن العلمانية تستند إلى المنهج العلمي، إلا أن الدراسة الموضوعية للعلمانية تبين أن العلمانية تناقض هذا المنهج العلمي في جوهره، حيث تزعم بأن الأحكام المستندة إلى التحسين والتقبيح العقليين، أحكامًا مطلقة الصحة، بينما يعتبر المنهج العلمي أن دقة الحكم العقلي رهن بدقة مدخلاته، ولذلك فإن الحكم العقلي في المنهج العلمي ليس حقيقة مطلقة ولكنه “تخمين مدروس”. كما أن زعم العلمانية بأنها المنهج النهائي للمعرفة الإنسانية تتناقض من جديد مع نظرة العلم للكون، والتي تعتبر أن صورة الكون تتسع وتتغير باستمرار وفق ما يتوفر من بيانات عن هذا الكون، وهذا الزعم بأن العلمانية هي المنهج النهائي للمعرفة الإنسانية، كفيل بأن يصيب البحث العلمي بالركود عندما يركن إلى أن ما بين يديه من نظريات ومفاهيم هي حقائق نهائية ومطلقة.