فيلم أثينا .. فرنسا على وشك الانفجار
الأفلام الغربية التي تتناول الإسلام والمسلمين من المنتجات الثقافية التي يجب على جماعة المُسلمين التعرف عليها؛ كما يتعرفون على باقي المنتجات الثقافية من كُتُب ومجلات وغيرهما. لمعرفة كيف تتغير صورة الإسلام والمسلمين في الذهنيَّة الغربيَّة، وما هي الصراعات التي يخوضها الإسلام في الخارج، ولمتابعة مستجدات التفاعل الغربي الإسلامي، وللتصدي لأيَّة أفكار قد تطرأ جديدًا، ولعرض النماذج المنصفة التي تناولت المسلمين. لكن يجب أن يتابع هذا الإنتاج فئة مؤهلة لهذا؛ كما كرَّرتُ من قبل مرات سابقة.
ومن أبرز النماذج الفيلمية التي تناولت مشكلة الوجود الإسلامي في فرنسا فيلم أثينا؛ الذي أحدث ضجة ضخمة حول العالَم، وتصدَّر المشاهدات في الأحيان الأخيرة. وفي هذا المقال سأهتم بعرض الفيلم، وتبيين أفكاره العميقة التي أتى بها، والمشاهد الرمزية التي فيه، مع التمثيل بالمشهد الأول كي أشرح كيف تؤثر الأفلام في المُشاهدين.
فيلم “أثينا”Athena 2022، ألَّفه بالاشتراك وأخرجه منفردًا “رومان جافراس”. ومَن شارك في التأليف هو “لادج لي” صاحب الفيلم القوي “البؤساء” الذي صدر في 2019 (كتبتُ عن الفيلم في حينه تحت عنوان “البؤساء .. هكذا يُصنع العنف في الأُمم”). والفيلمانِ يتناولانِ الموضوع نفسه؛ وهي قضية المواجهة التي تتخذ منحى العنف بين طبقات كثيفة من المجتمع الفرنسي؛ الذي يَرفع شعارَ “الأنا”، وبين المسلمين الأفارقة والعرب القاطنين للأراضي الفرنسية؛ الذين يُرفع شعارُ “الآخر” حيالهم.
قصة فيلم أثينا
في هذه السرديَّة التي فاجأت الكثيرين حول العالم نطالع مأساةً دراميَّةً؛ يُقتل فيها أربعة أشقاء في المجتمع الفرنسي؛ يُمثِّلون مَقولة “الآخر” لدى الضمير الثابت الراسخ داخل هذا المجتمع. قُتلوا مُرسلِين إرهاصات حرب أعظم، وربيعٍ من الغضب سيحلُّ على فرنسا عن قريب؛ يتنبئ به صنَّاع الفيلم، ويحذرون منه مجتمعهم.
يبدأ فيلم أثينا بأجواء حادثة مقتل طفل يدعى “إدير”، على يد ثلاثة أفراد من الشرطة؛ كما بُثَّ في مقطع مُصوَّر. حيث تم تقييد الطفل البالغ ثلاث عشرة سنة وضربه حتى الموت، وتصوير عملية الضرب من بعيد؛ لتظهر وكأنها تصوير مُستتر مُسرَّب إلى وسائل الإعلام.
الطفل فرنسي من أصول عربية، وهو مسلم. يقطن مجتمعًا صغيرًا مُتخيَّلًا -أيْ ليس موجودًا في باريس الحقيقية- يدعى “أثنيا”، يعيش فيه المنبوذون من المجتمع، هؤلاء “البؤساء” -كما وصفهم الفيلم السابق- من المسلمين أفارقةً وعربًا. تُحطم هذه الحادثة سدًّا لتتفجر أنهارٌ من الغضب في وجه الجميع؛ ونعرف أنها لم تكن الحادثة الأولى، بل هي الثالثة من الحوادث الوحشية التي تقوم بها الشرطة الفرنسية حيال المجتمع الأثيني في وقت قصير.
ويدور الفيلم فيما بعد الحادثة؛ راصدًا تداعياتها في إحداث ثورة من الشباب المُسلم ذوي الأصول المختلفة، في محاولة منهم لمعرفة الجُناة من الشرطة الذين أقدموا على هذا الفعل الشنيع. وما فعله الثوار من اقتحام لمركز الشرطة، وإغلاق للمجمع السكني، والإضراب واستخدام الألعاب النارية. ومن ضمن هؤلاء الأشقاء الثلاثة للطفل الصغير: عَبْدِل، وكريم، ومختار؛ كلٌّ في طريقه يمضي؛ صانعين اشتباكات درامية على خطوط الأحداث، كاشفين من خلالها الكثير من خبايا النفوس التي تعيش في هذا المجتمع، وصورة المجتمع الكبير لديهم وفي نظرهم.
شخصيات فيلم أثينا وفئات المجتمع
اعتمد بناء الفيلم على مركزية الشخصيات. وكان أبرز الشخصيات الأشقاء الأربعة: “إدير” وهو الطفل البريء الذي قامت على حادثته أعمدة الفيلم، والثاني هو “عبدل” ضابط الجيش الفرنسي، الذي يقوم بشخصية الأخ العاقل المُتفاهم المُتفاعل مع مجتمعه، والذي من صعيد آخر يُتَّهم من مجتمع المسلمين أنه حَرَكِيّ عميل، باع نفسه للجيش الفرنسي. والثالث “كريم” الثائر الغاضب الأصغر سنًّا الذي في طور براءته في رؤية الأمور، التي توحي له إيحاءً العُنفَ والتحرك الحاسم تجاه المُعتدين، وقد سئم كريم فكرة التبريرات المُجتمعية، وانتظار ردود الفعل المتأخرة وغير المُجدية من الحكومة الفرنسية التي لن تسفر عن أي تحرُّك سوى تجاهل آثار ما حدث. والرابع “مُختار” وهو الأكبر سنًّا، الشخص النفعيّ والأخ الفاسد؛ الذي عرف واستسلم لمبدأ تجاهل المجتمع له، فانصرف إلى نفعه الشخصي الذي رآه في تجارة المخدرات، بالتعاون مع بعض الفاسدين في الشرطة الفرنسية.
ونطالع أيضًا شخصية الشرطي الفرنسي الذي يمثل طوائف الشعب المعتدلة في نظرتهم للآخر؛ الذي يقف مدهوشًا ما الذي يحدث في بلده! ونراه يتفاجأ بالأحداث وتصرفات الثوار وكأنه يُسائلهم عن الدافع، وكأنه يُسائل نفسه عن سبب وجوده في قلب هذه المعركة، وهو يريد البقاء مع ابنته التي تصبغ أظافره بالطلاء وهو نائم مُلاعِبةً إيَّاه. ونراه هاربًا من المعركة التي لا يريدها، ونراه يذهل من قسوة زملائه وهُم يضربون الشباب الثائر بالعصي ويرشون عليهم رذاذ الفُلفل الحارق لعيونهم؛ وكأنه يستلهم منهم الشجاعة، ثم يضرب ضربة خائبة، ولا يجد له مبررًا فيهرع هاربًا مما يفعلون.
بعض ما أغضب المُشاهدين العرب
وإذا سأل القارئ: لماذا اختار الشخص الوحيد الفرنسي بريئًا، ونوَّع في النماذج العربية الإسلامية، وأتى بنموذج سيء (مختار تاجر المخدرات)؟ وهذا الأمر أغضب بعض الأُخوة المغاربة من الفيلم، وهاجموه عليه.
والجواب عن السؤال واضح من جهات: أولًا: لأن الفيلم فرنسي، صنعه فرنسيون لا عرب، مسيحيون لا مسلمون، ولأنهم يقابلون مجتمعًا شُوِّهت في عينيه صورة المُسلمين جدًّا. فهُم مركز الثقل والرؤية؛ لذلك صَنَّفَ المُجتمع المقابل شرائح؛ فجعل منها السيء والجيد، وجعل السيء نادرًا. بل رأى قضيتهم عادلةً منصفةً، وأن تجاهلها مؤذن بخراب البلاد. وثانيًا: لأنه أبان فساد كثير من الطوائف في المجتمع الفرنسي وانتقدهم: اليمين المتطرف الذي يشعل البلاد سعيًا وراء المسلمين، ضباط الشرطة الفرنسية الذين يتعاونون مع تجار المخدرات من هنا وهناك، الشرطة الفرنسية التي اقتحمت المكان وتعدَّت على الشباب (عن طريق المُباينة بينهم وبين فرد واحد كان ممثلًا للفئة المعتدلة). ورؤية الأمر بهذا الشكل مُنصفة. وإذا فكَّر أحد أن هذا غير منصف؛ فليشاهد بقية الأفلام عن المسلمين والإسلام وسيتفضل بنفسه بمعرفة ما هو المُنصف وغير المُنصف.
شخصية سباستيان وخصوصيتها
وأخيرًا نطالع شخصية سباستيان؛ وهي شخصية مُشكِلة (أيْ ذات إشكالات، وغير واضحة كبقية الشخصيات). سباستيان لا نعرف عنه الكثير، بل لا نعرف عنه شيئًا. تحذِّر منه نشرات الأخبار في المشهد الثاني بوصفه مطلوبًا من الشرطة، ونرى إمام المسجد يوصي بعزله لأنه تهديد. اسمه مسيحي، يتخفَّى في مجتمع أثينا الصغير، تكوينه فرنسي ذو ملامح وبشرة غربية صرفة. يلبس ملابس المسلمين (جلبابًا وطاقية)، ومُلتحٍ. يعرف الجميع بأمره، وواضح أنهم يتسترون عليه. وهو غير مُنشغل بشيء غير الحديقة الصغيرة. في أول ظهوره بدا؛ وكأنه معتوه سفيه مَسُوق من غيره، يطلب في وسط هذه المعمعة العارمة عصيرًا للأطفال.
لكنْ سرعان ما يتحوَّل إلى وحش حقيقيّ، وهو الذي يفجِّر المبنى في النهاية قاضيًا على آخر الأشقاء الأربعة. وفي مظهره الإسلامي، واسمه المسيحي رسالة من المخرج وصناع الفيلم أن الإرهاب الذي يريد النيل من الجميع لا دين له، ولا اسم له؛ بل قد يكون اسمه سباستيان، وقد يلبس جلباب المسلمين؛ لكنَّه مجنون هادم لكل كيان. وهذه رؤية منصفة أخرى تحسب للفيلم يزعزع بها الذي رسَّخه الإعلام الغربي بين أبنائه.
السر وراء تسمية الفيلم بأثينا
هنا قد يقف المُشاهد ليسأل: لماذا سُمِّي الفيلم بهذا الاسم المبتعد عن الواقع الباريسيّ؟ وهو سؤال منطقي تمامًا. وقد سبَّب المُخرج اختياره للفيلم بتأثُّره طوال حياته بالمأساة اليونانية، وطريقة سردها للأحداث. ولهذا أراد أن يُحاكيها صوريًّا في المشاهد الطويلة التي تعطي المشاهدين فرصة التفاعُل مع الشخصيات وما يحدث.
وعن نفسي ذكَّرتني أجواء الفيلم؛ خاصةً الأصوات الإنسانية التي تطلق الآهات بمسرحيات الكاتب التراجيدي العظيم “إيسخيلوس”، خاصةً مسرحيتَيْ: المُستجيرات، والفُرس. حيث نجد هذه الرُّوح النائحة على ما يحدث في الأولى، وفي الأخيرة يظهر الاستعداء بين جانبين متحاربين؛ أحدهما من الغرب (اليونان قديمًا، والضمير الغربي حديثًا) والآخر من الشرق (الفُرس قديمًا، والمسلمون من أصول مختلفة حديثًا). وكلا الأخيرَيْنِ يمثل تحديًّا حضاريًّا في الضمير الغربي.
ولعلي أرى أن هناك تشابهًا آخر -في تسبيبي الشخصي للعنوان- هو طبيعة المجتمع الأثيني؛ حيث كان مجتمع أثينا طبقيًّا، يُفرِّق بين الناس ابتداءً؛ وهي الحال التي نراها بيِّنةً واضحةً كل الوضوح في هذا المجتمع الفرنسيّ. كما كان لدى المجتمع الأثيني (والضمير الغربيّ طوال العصور) فكرة “البرابرة” هؤلاء الهمج المتوحشين الذين يطمعون فينا، ويريدون أن يقضوا علينا؛ لذا يجب أن نقيم بيننا سورًا حتى نمنعهم من التوغُّل إلينا. والأمر واضح للعيان لا يحتاج لشرح.
الأفكار في فيلم أثينا
فيلم أثينا مليء بالأفكار التي من الممكن استشفافها من وراء ما يحدث أمامنا. وسأورد هنا أهمها فقط:
1- لعلَّ أهم ما قرأته بين طيَّات الفيلم هو قانون الهويَّة في المنطق؛ أن: أ هي أ، وأن ب هي ب. لن تتغيَّر بمرور الوقت وتوالي الأجيال. ففيلمنا يدور بين أبناء الجيل الثالث الذي ذهب إلى فرنسا. فجدهم هو من أتى إلى فرنسا -أو استقدم-؛ وهؤلاء الجيل الثالث من الشباب في ريعان عُمر شبابهم. ورغم ذلك تظلُّ قضية الهويَّة هي المُكوِّن الأساس في بناء الأمم واصطراعها وتمازجها؛ يظلون مُسلمين تلحُّ عليهم هُويَّتهم، ينظرون إلى الآخر بنظرة “الآخر” لا نظرة “الأنا”. ويظل رغم مرور أعمار على وجودهم ينظر لهم المجتمع الغربيّ نظرة “الآخر”، لم يستطع في لحظة أن يخرج عن هذا المبدأ، ويدخلهم تحت مقولة “الأنا”. وهذا -كما قلت- يؤكد أن الهوية شيء رئيس وركين في تركيب الإنسان، ويرد على دعوات التماهي في الآخر التي تشيع بيننا هنا في العالم العربي. وليس شاهد أصدق على بعض المقولات الغربيَّة المُروَّجة إلا ما يطبقه الغرب في حياته؛ ليثبت ما هو مجرد شعار زائف يردده في المحافل، وما هي الحقيقة التي يجب أن تتضح لبعض الغافلين.
2- الهدف الرئيس من الفيلم هو التنبيه على دور اليمين المتطرف الذي غزا أوربا في السنوات الأخيرة، وما سيؤدي بأوربا من مهالك. ويثبت أن هذا أهم غرض له أنه يُنهي الفيلم بمجموعات المتطرفين الأوربيين وهُم يحرقون لباس الشرطة الذي صوروا أنفسهم به؛ حتى يؤكدوا للمسلمين كراهية المجتمع لهم.
3- تأكيد الفيلم أن الإرهاب لا يتعلق بحد من الحدود، بل هو وليد الاضطهاد والمُمارسات القمعيَّة المُشينة التي أثبت ممارستها على المسلمين هناك. والعجيب أن مارسات الاضطهاد عندهم لا تطبق بكثافة وضراوة إلا على المسلمين؛ أما البقية فلا يناصبونهم العداء كما المسلمين.
ولماذا تقبل فرنسا المسلمين على أراضيها أصلًا؟!
وقد يتبادر على ذهن أحد القارئين سؤال: ما الذي يجبر المجتمع الفرنسيّ أن يحتملنا نحن المسلمين على أراضيه؟ أليس هذا من حقِّه؟! والجواب حاضر أن الموضوع بهذا التشكيل فيه لبس من جهات. أولًا: لأنهم لمْ يأتوا إلى فرنسا؛ بل فرنسا هي التي استقدمتهم في مبدأ القرن في حروبها العالمية، وغير العالمية. واختارت ساعتها ألَّا تضحي بجنودها الفرنسيين، بل تضحي وتلقي في أتون الحروب بجنود مسلمين وأفارقة أتت بهم قهرًا وظلمًا لتدفعهم إلى القتال بدلًا عن أبنائها المتحضرين! وبالمثل: مَن أتى بالأفارقة إلى أمريكا؟ ولمَ تأفَّف منهم طوال القرون بعدما أنهوا مهمَّتهم خادمين لأسيادهم البيض الأمريكيين (كما يتصورن). فلنتخيَّلْ أن دولة أتت بملايين ليعملوا بالسُّخرة بدلًا عن أبنائها، ويحاربوا بدلًا عن أبنائها، ويشقُّوا الصخر بدلًا عن أبنائها؛ فلمَّا تهيَّأت البلاد وانتهت الحروب تريد أن تقوم عليهم قيام رجل واحد لتلقيهم في البحر وتتخلص منهم!! .. وهذا -والعياذ بالله- من ضلال الغرب وعماهم المُبين.
ثانيًا: نحن بهذا السؤال البريء -الذي لأي شخص الحق في طرحه- نسير سيرًا وراء الرواية الأوربية حضاريًّا. والتي انتهجت منهاج “اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس”. فهل صدَّقنا حقًّا أن أوربا قد علت حضاريًّا لأن “فولتير” الشجاع قد صاح صيحة جبارة في الحضارة، ورافقه “ديدرو” المُغامِر، وأتى من خلفهم “كانت” المُفكر! هل هذا كان سبب التقدم الأوربيّ أم مئات بل آلاف المُستعمرات الغربية -الفرنسية والإنجليزية منها خاصةً- حول العالَم أجمع، تمصُّ ثروات الشعوب حتى آخر قطرة، ثم تتركهم جوعى عُراة! ويستطيع كل واحد أن يطالع المستعمرات الفرنسية وحدها؛ بمجرد البحث عنها في مُحرِّكات البحث، ولن يستطيع إكمال الصفحة من كثرة المستعمرات التي أقامتها دولة أوربية واحدة في كل بقاع العالم.
كيف تؤثر السينما في المُشاهدين؟
المشهد الأول لفيلم أثينا به قضية سأستغلُّها لتبيين كيف تؤثر السينما في المُشاهدين تفصيلًا. فالكثيرون حول العالم انبهروا بشدة بالمشهد الافتتاحي؛ وقد حقَّ لهم أن ينبهروا به، فهو مشهد خلَّاب آسِر. وتساءل الكثيرون كيف صُوِّر هذا المشهد البديع؟ .. المشهد يتكون من إحدى عشرة دقيقةً؛ فهو مشهد طويل. لكن ما أبهر الجميع هو امتداد المشهد، وعدم ظهور القطع التحريريّ (المُونتاجي) فيه. فكيف حدث هذا؟
المشهد يبدأ من الإظلام التام، بموسيقى دقات آلة البِيان متفرقة الدرجة، وموزعة المساحة الصوتية؛ للإشعار بجو التوتر والقلق وتسريبه إلى نفس المُشاهد؛ ثم دخول متصاعد للأصوات الإنسانية بآهات عميقة مطوَّلة مليئة بالشجن (المُكوِّنة لجو الفيلم الأساس) لتصعيد جو التوتر، ونقل مجرد “الإحساس بالتوتر” إلى النذير بالأهوال القادمة. فالفيلم اعتمد على الظهير الصوتي لبدء الشرارة الأولى.
ثم يظهر “عبدل” بزيِّه العسكريّ الفرنسي، ومظهره المنكسر الذي يحاول الصمود. يسير طويلًا في ممرات، وصولًا إلى الجماهير. وفور انتهائه من كلمته البسيطة يبدأ الانتقال إلى جانب الثوار الذين حرص المُخرج أن يرتدوا لباسًا أسود؛ ليُعلن عن رؤيتهم لمجتمعهم الحاضن، ومدى خطورة ما سيحدث. ثم تبدأ معركة الكاميرا مع معارك الحضارة التي على الأرض.
وهنا يُذهل المُشاهد؛ كيف تدخل الكاميرا إلى السيارة التي قادها الثوار، وتخرج منها دون قطع مرئي! الصورة متصلة أمامه بلا قطع فكيف يحدث هذا؟! .. قد تم القطع أكثر من مرة في المشهد؛ خاصة في زوايا الإظلام من الممرات، وأثناء وجود السواتر. لكنَّ تصوير المشهد اعتمد على الكاميرا الأساسية في الفيلم (كاميرا آيماكس) طوال المشهد، محمولةً بحامل مخصوص بها لتثبيتها أثناء الحركة العنيفة، ولسهولة حملها من المصور، مع وجود مصور آخر مثبَّت على مُقدمة دراجة نارية. وأثناء انحراف سيارة الشرطة في منعطف الطريق قام المصورانِ بتبادل حمل الكاميرا؛ لتنتقل إلى الآخر راكب الدراجة. ثم بعدها تم إدخال الكاميرا مرةً أخرى من الدراجة إلى السيارة. ومن هنا ابتعدت الكاميرا بكل سلاسة، دون قطع مونتاجي.
ثم جاء الدور الأخير لمصاحبة شخصية كريم عن طريق إبدال الكاميرا بأخرى محمولة على طائرة مُسيَّرة (درون) تسير بجواره حتى يصل إلى حافة الفناء، وتطير مُنهيةً المشهد الافتتاحي باسم الفيلم محصورًا بين عمودَيْ إضاءة؛ في حال تشبه حال الفريقين المُصطرعين في الفيلم.
صاحَبَ كلَّ هذا وقام على نجاحه قدرةُ الممثلين على التفاعل مع الحدث الثوري؛ صياحهم، وتحرُّكاتهم التشنجيَّة، إطلاقهم الألعاب النارية، إحساسهم الداخلي بالفرحة العارمة للظهور على الشرطة، والعديد منهم يطلق شعار “نحن الشرطة الآن”، استطاعتهم إشعار المُشاهد بلحظة التحقُّق الوجوديّ، بأنهم موجودون على قيد الحياة، ومؤثرون في عالَمهم، وقادرون على التغيير، رُوح الإصرار والتصميم على هدفهم بمعرفة الجُناة للحادثة. كلُّ هذه العوامل التمثيلية قد استطاعت إنجاح المشهد الشاقّ، والتأثير في المُشاهدين إلى درجة الإبهار.
المشاهد الرمزية في فيلم أثينا
هناك مشاهد رمزية أودعها المخرج في بنية فيلم أثينا. ولعل أهمها: لقطة الشباب وهُم في آخر المشهد الافتتاحي على الجسر؛ وللجسر دلالة في التحوُّل بين مصيرين؛ فإلى أيّهما سيمضي الأمر! وامتداد اللقطة بعده في حصر عنوان الفيلم بين عمودَيْ الإضاءة.
ثم الرمزية في تحرُّك الكاميرا؛ حيث تحرَّكت في المشهد الأول (مع الثوار) من الجسر إلى الجهة الأخرى، وفي المشهد الثاني (مع الشرطة) من الجهة الأخرى داخلةً تحت الجسر، وفيها رمزية المواجهة والحرب.
ولقطة سباستيان عندما فجَّر الخزنة مُستخدمًا بطارية لعبة الأطفال التي هشَّمها. والرمزية هنا أن: على حُطام الطفولة يتولَّد العنف والتفجير. وأخيرًا المشهد العبقري؛ بعدما لم تنجح الشرطة في اقتحامها ليلًا، وحُوصر الجنود في منتصف الفناء بشكل يشبه حصان طروادة، وعلى الجانب الآخر حيث دلَّى “كريم” شعره الطويل المربوط؛ فظهر في هيئة تشبه صورة سيدنا “عيسى” -عليه السلام- في المِخيال الغربيّ؛ وكأنه صار مُلهمًا رُوحيًّا للشباب الثائر، ورمزًا للطهارة والخُلُوص. وهو من أبرع المشاهد التي تنذر بالقادم القريب.
تعليق اشتقت لمثله كثيراً وزاده جمالاً إعجابي بالفلم حقا .
شكرا عبد المنعم