ما تكرَّر تقرَّر

يترددُ على آذانِنا كثيرًا خلال وسائلِ الإعلام المختلفة: «نحن حضارة سبعة آلاف سنة» «نحن أولاد الفراعنة» وما شابهها من العباراتِ المُسكِّنة للبعض، والمرادُ أن يكونَ مصدر فخرِك وانتمائِك زمن لم يبقَ منه سوى بعض التماثيل التي لا تُغني ولا تُسمنُ من جوعٍ في الوقتِ الحاضر، فلا يوجد مكانٌ للعقل وهذا ما نشأنا عليه وهذا ما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا، ما أشبهَ اليومَ بالبارحة!

أيضًا ذاك الشعارُ الرّنّان “القومية العربية”، يكفي أنك عربيٌّ ودينك هذا بينك وبين ربِّك لا دخلَ لنا نحن فيه ولا يؤثر مطلقًا على مَاجرياتِ الأمور!

فالدينُ بالنسبةِ لهم لا يتعدى حدودَ مُصلاك ولا ينبغي له، فقل إن شئت إنك عربيّ أو مِصريّ أو جزائريّ أو تونسيّ، لكن لا تُعبِّر عن هُويتِك كمسلمٍ لأنك بهذا تزيدُ من الفتنةِ الطائفيّة.

فأيّ نورٍ يُشرقُ من قلوبِهم وأيّ استقامةٍ تكونُ في فعالِهم؟

هل سمعنا من قبل ترديد: «الإسلامُ منهجُ حياة» « المسلمون صنّاعُ الحضارة» «الخلافة الإسلامية»؟

قطعًا لا، لأنه مرادٌ لك -أيها الكريم-كلّ ما يؤدي إلى تفريغك من دينك وثقافتك، مرادٌ لك أن تسمعَ هذه العبارات وتستنكرَها، وهذا ما خُطِّطَ له أن يكونَ وقد كان!

نحن في أمسِّ الحاجة إلى بناءِ أنفسِنا وِفقَ منهجٍ سليم ليس كمناهجِنا الدراسية، بحاجةٍ إلى تنشئةِ أجيال سليمة لا يكونُ همُّها الحفظ والترديد بل الفهم، بحاجةٍ إلى أمّةِ اقرأ التي كلما ازدادت علمًا زاد تكريمُ اللهِ لها بين الأمم لذا قال -تعالى-: “اقرأ وربُّكَ الأكرم”.

صرنا نتأرجح بين القومية العربية وحقوق المرأة المهدرة واللغة العصرية، هذه الأقطاب الثلاثة التي لا حديث سواها كأننا حققنا كل ما نصبو إليه وما بقي إلَّاها.

أذكرُ موقفًا طريفًا مع سيدةٍ أمريكيّة، وقفتُ وصديقتي نتحدثُ إليها مُرحبتين بها، وكانت تنظرُ لنا بعلاماتِ تعجبٍ كثيرة مما أثارَ فضولنا أن تُعبّر عما بداخلِها وإن كان لديها أسئلة فلتتفضلْ بها ولا حرج.

اندفعت في سؤالِها كأنها كانت مُنتظرة هذه اللحظة: “كيف تستطعنَ أيها المسلمات أن ترتدينَ الحجاب طوال اليوم؟”

نعم، هي كانت تظن أنّا نرتدي الحجابَ حتى في بُيوتِنا، كان هذا مضحكًا، شرحنا لها فكرةَ الحجاب وأنَا لا نرتديه في البيتِ قطعًا، ثم استرسلت في أسئلتِها وشكوكِها التي منها: “لماذا تُجبرنَ على الزواج ولماذا لا تُكملنَ التعليم؟” أجبنا عليها مبتسمتَين أن إحدانا تَدرُسُ في الجامعة والأخرى طبيبة أسنان وغير متزوجتَينِ ونتحدث الإنجليزية كما ترَين.

 بعد الحوار غادرتنا وهي تتمتم:

.I like it

كانت تحت أسرٍ جميعنُا مأسورٌ به وهو التسليمُ بدونِ تَبيُّن، سَمِعَتْ هذه الشبهات تتكرر في التلفاز أو قرأتها على الإنترنت وسلَّمت بها وكوّنت الصورة الخاصة بشأنِ المسلماتِ وحالِهنّ وما يُعانينَ من قهرٍ وظلم!

والحديثُ عن المرأةِ المسلمة ذو شُجون لكلِّ من هبَّ ودبّ ليس في الغربِ وشبهاتِه وحسب بل في الشرقِ أيضًا، يَدُسُّونَ في آذانِها السُّمَ كلَّ وقتٍ وحين، لا يتوانونَ عن جعلِها لُعبةً في أيديهم، منظرًا خلَّابًا في أعينِهم، كرّروا عليها أن المجتمعَ ذكوريٌّ ويجبُ أن تتحررَ من قيودِه، يجبُ أن تفعلَ مثلما يفعلُ الرجلَ كي تُحققَ ذاتَها، يجبُ أن تخرجَ من فطرتِها التي وهبها اللهُ إيّاها من حياءٍ وخفضِ صوتٍ واعتدالِ مِشية، يجبُ أن تُظهرَ جسدَها لأنه لَوْحَةٌ فنيّة.

هذا ما أصبحنا نعيشُ فيه ومَن يقل غيرَ ذلك فهو إرهابيٌّ متطرفٌ لا يعرفُ شيئًا عنِ الجمال.

سمعتُ محاضرةً بعُنوان “منهجية التعامل مع الفكر الغربي” للدكتور\ عبد الوهاب المسيري يقول فيها: “إن مسألةَ الريجيم شكلٌ من أشكالِ العلمنة، كلُّ المقاييس المفروضة على المرأة لا علاقةَ لها بوظائفِها الإنسانيّة، فأُعيدَ تعريفُ الجسدِ الإنساني ليلائمَ الوظائف المادية الظاهرية لا الإنسانية”

وأقولُ إنّ هذا ليس خاصًا بالمرأةِ وحدها، إنما صار منهجًا مُتبّعًا، ألا تكونَ إنسانيًّا، فالحكمُ عليك أيها الإنسان خلال ما حصّلتَه من ماديّة عصرِك لا ما حصّلَت روحُك وارتقت.

واللغة انعكاسٌ للمرأةِ في جمالِها، يُحاكُ لهما الهدمُ سويًّا، بهما ترقى الشعوبُ وبهما أيضًا تُذل.

 هكذا قالها الرّافعيّ كحقيقة مؤكدة على مرِّ العصورِ والأزمان أيًّا كانت هذه اللغة وأيًّا كان ذاك الشعب “ما ذلَّت لغةُ شعبٍ إلا ذلّ”، لكنّنا نرى الواقع يقول إنّ مكانةَ أيّ لغةٍ محفوظةٌ بشعبِها إلا العربيّة -إلا مَن رحم ربّي-

في كثيرٍ من المجتمعات تكون مناطًا للسخريّة إذا تحدثتَ باللغةِ العربيّة وكأنّك آتٍ من كوكبٍ آخرَ تتمتمُ تعاويذ.

ومن ثَمَّ أصبحَ الهجومُ على الدينِ أمرًا هيِّنًا، فلا دينَ بدونِ لغة، وخرج علينا مَن لا تستقيمُ ألسنتُهم في نطقِ آياتِ القرآنِ الكريم ولا في الكلامِ عامةً يتقوَّلونَ على اللهِ ورسولِه ويُؤصِّلونَ لدينٍ جديد مبنيٍّ على الأهواء والآراء، ويسمعُ لهم العامّة مُعجَبينَ بالكلامِ المُنمَّق منبهرينَ بالثبات الانفعاليّ والهيئة الحسنة مردّدينَ ما يسمعونَ دونَ بحثٍ أو سؤال أهل الذكر.

 هذه هي اللغة العصرية -لغة منعزلة عن الدين-وهذا ما جنيناه منها، أصبح يسيرا لكل ناعق أن يتكلم في دين الله بغير علم لوجود الفئة التي تستمع وتردد وتهلل.

عَرَف العُربُ -مَن آمن منهم ومَن لم يُؤمن-قدْرَ القرآنِ وإعجازِه لأنّ لديهم أداةَ التمييز بين كلامِ البشرِ وكلامِ ربِّ البشر، ونحن لم نأخذ من العرب سوى الاسم، اسم بلا روح.

ينقصُنا بعضُ التريُث وكثيرٌ من التَبيُّن، نحتاجُ قليلًا من الكلامِ وكثيرًا من العمل، نروم الرجوع إلى الفطرةِ وهُجران التصنُّع، ننتظرُ مَن يشعلُ فتيلَ قلبِه ليُضيءَ بنورِ العلمِ فيبدد ظلماتِ الجهل.

وفي نهاية المطاف، لمَ لا نفكرُ في كلِّ ما يترددُ حولَنا؟


إعداد: هاجر الشرقاوي

هاجر الشرقاوي

نحن قومٌ أعزَّنا اللهُ بالإسلام مهما ابتغينا العزةَ بغيره أذلَّنَا الله.

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. بارك الله فيك على المقال القيم ونفع بك. لدي تعقيب بسيط فقط فيما يخص ردّك على المراة الامريكية، فأقول لا يجب أن تكون إحداكن تَدرُسُ في الجامعة والأخرى طبيبة أسنان وتكونا غير متزوجتَين حتى تثبتا للأمريكية أنكن “متحضرات”! فالمقياس عندنا كمسلمين لتحضر الانسان هو مدى معرفته بالعلم الذي أوحاه الله لمحمد والتزامه به، وما عدا ذلك من علوم تجريبية بشرية فهي ليست واجبة على الكل بل هي على فرض الكفاية، أي أن يتعلمها ويتقنها نَفَر من الناس يكفي تغطية الحاجة اليها في الامة كلها! والمسلمة تسعى لإرضاء زوجها (في إطار الشرع)، لكن الغرب جعل غاية المراة السعي لإرضاء رب العمل! فبارك الله في نساءنا المسلمات اللواتي تزوجن ووقرن في بيوتهمن يتعلمن دينهن ويعلموا أبنائهن شرع الله ويعينن أزواجهن في تربية ذرية صالحة تحمل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم!

    1. جزاكم الله خيرا
      الرد كان معتمدا على النقاط التي فيها لبس لديها وأن المسلمات لا يتعلمن ويتم إجبارهن على الزواج، فبينا لها خطأ ذلك بالإسقاط علينا وأننا نتعلم ولم يجبرنا أحد على الزواج حتى الآن.

      1. لعلك لم تفهمي رسالة تعليقي، فرددتِ بنفس الكلام الذي اعترضتُ عليه! …. سأحاول بأسلوب آخر لعل الفكرة تصل:
        – وماذا لو لم تكونا أنتما صحبتا تعليم أكاديمي جامعي، هل بهذا تكون الامريكية محقة فيما استقر في نفسها ؟
        – وهل يهمنا أصلا رأي الغرب في نسائنا ورجالنا المسلمين؟
        – هل يهتم الرجل الغربي أو المراة الغربية الى رأي المسلمين في نمط عيشهم؟
        – وماذا عن المسلمات اللواتي ليس لهن تعليم أكاديمي حين يقرأن هذا المقال، هل عليهن ان يحسّن بأنهن “ساقطات” حضاريا لأنهن لا تتوفر فيهن شروط التحضر و”الحرية” كما حددها الغرب؟ …..
        – والخطأ الذي يقع فيه الكثير من المسلمين هو إصرارهم على تبرير نمط حياتهم لدى “الانسان الأبيض” (الغرب)! لن تجد مثلا أبدا امرأة غربية ستتقدم الى مسلمة لتشرح لها لماذا هي متبرجة ووووو …. ! فإن كان المراد هو دعوة المراة الكافرة للاسلام فهذا ليس هو الأسلوب لذلك! فالدعوة للاسلام لا تكون عن طريق التبرير والدفاع وإقرار الكافر على مقياسه للامور، بل بتغيير مقياسه ومرجعيته للحلال والحرام، والحسن والقبيح!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى