مراجعة فيلم For Sama .. قصة عائلة عاشت أهوال الحرب
في إحدى الليالي الصيفية الهادئة، تخيل نفسك جالسًا مع أمك وزوجك وأطفالك في مدينة محاصرة برًا وبحرًا، حتى تجد نفسك وسط انفجار مدوّ، جراء سقوط قذيفة تزن الأطنان، الدنيا يملأها الغبار، طفل تحت الأنقاض، وآخر فقد أحد أطرافه، زوجة وافتها المنيَّة وبين يديها رضيع شاء القدر أن يعيش في غير هذه الحياة، تهرع بالذي نجا منهم طلبًا للعلاج؛ فإذا بالمستشفى خواء، ليس فيها سوى المكلوم والمهموم وفاقد الأمل وتائه في غياهب دنيا الحياة.
إن هذه المأساة الهائلة التي يعيشها الفلسطينيون والسوريون…، ليست من نسج الخيال؛ إنما هي حقيقة لواقع يعيشه المسلمون في كل بقاع العالم، بل يزداد العنف الممارس كلما تحركت أفواه الشعوب والأقليات التي تمني نفسها التحرير، بنقل الحقائق المؤلمة التي يرتكبها العدو الظالم الذي يعيش على آلام الآخرين. هذه الأوضاع المزرية يعيشها الفلسطينيون اليوم في غزة، والسوريون في سوريا، ومسلمو ميانمار المحتلة التي لا تلقى شهرة أكثر من غيرها.
أمام هذا الواقع ولتسليط الضوء أكثر على المعاناة التي نعيشها ويعيشها إخوتنا من المسلمين، سوف ننقل صورة الظلم والعنف الممارس من خلال نمط عيش عائلة، عاشت وسط ظلم النظام السوري، وذلك من بوابة الفيلم الوثائقي “For SAMA”. الفيلم من إخراج وعد الخطيب والمخرج البريطاني إدوارد واتس، فاز الفيلم بجائزة بافتا لأفضل فيلم وثائقي، ورشح لجائزة الأوسكار.
فيلم For Sama
تدور أحداث الفيلم الوثائقي For Sama حول حياة عائلة وعد وزوجها حمزة وطفلتهما الصغيرة سما التي ولدت في فترة الحرب. كما يصور الوثائقي الجرائم الخفية التي يرتكبها النظام في حق الشعب السوري، والتي لا تنقلها عدسات القنوات الإعلامية الكبيرة، ليظهر لنا الفيلم في نهايته، الواقع المرير الذي عاشته العائلة والشعب السوري الذي يمثل، نموذجًا من نماذج متعددة للشعوب المسلمة التي تصبر نفسها، وترابط وسط ظلم النظام.
تخاطب وعد رضيعتها سما: “شو هي الحياة الي أنا جبتك ليها، انت ما اخترت هذا الشي راح تسامحيني”. وعد التي أصبحت أمًا، كانت قبل الثورة طالبة تعيش حياة عادية، لكن مع بداية الثورة وتدهور الأوضاع قررت أن تمسك الكاميرا، وتنقل للعالم المعاناة التي يعيشها السوريون. التقطت كاميراتها مشاهد تدمي القلب لجثث أطفال وشباب، أطرافهم مقطوعة بسبب القصف العنيف، رؤوسهم نصفها بقي مع الجسد ونصفها الآخر ذهب به رصاص العدو. كل هذا بسبب رفضهم للظلم والفساد الذي تتخبط فيه البلاد.
وعد تزوجت بصديقها حمزة في خضم الحرب، وسط كل هذه المعاناة. أسس حمزة الذي كان دارس طب، هو وأصدقاؤه مستشفى لعلاج المصابين والجرحى، هذا الشيء جعل وعد تقترب أكثر بعدستها من الواقع الذي تخلفه القذائف التي نراها من وراء الشاشة تقع؛ وكأنها تسقط في صحراء خالية لا حياة فيها.
إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراق كل من مات في هذه الحرب وهو مظلوم لمحزونون. رؤية طفل ميت نتيجة قصف، وإخوته يبكون فراقه، يقطع القلب؛ هل يبكون على واقعهم أم على من مات لهم؟ حينما تشاهد أم تدخل إلى المستشفى لتتعرف على ابنها الميت، وتحمله بين ذراعيها، وتصرخ به في الشارع: “أمين ولدي أمين مات، مات الغالي”؛ بماذا ستشعر؟ إن هذه الحالة من الضعف التي يعيشها المسلمون اليوم يرثى لها.
“أنا ما بدي موت، بدي عيش، بدي أكبر، بدي عيش يا رب”. كانت هذه كلمات وعد في لحظة من لحظات الضعف، وسماع القذائف تتهاوى على أهلها وذويها من السماء. أثناء هذه الحرب كثف النظام من القصف مُستعملًا أسلحة كيماوية محظورة عالميًا، كما استهدف المستشفيات التي تساعد الجرحى والمصابين، على حسب القدرة والوسائل المتوفرة لديها. كل هذا يقع والإنسان والإنسانية لا تتكلم إلا عندما يكون المواطن أشقر بعيون زرقاء، وجواز سفر أوروبي أو أمريكي.
مع طول المدة، واستمرار القصف تبقت مستشفى واحدة في المدينة كان رئيسها هو حمزة زوج وعد. كل هذا القصف لم يجعل الشعب يسقط الراية لظلم والفساد، فرض النظام حصارًا غذائيًا على المناطق التي لم تقع تحت يديه، وهذا الشيء شبيه بما يجري اليوم في غزة، إلا أنه وفي غمرة هذا الظلام الدامس المليء بالمتناقضات لا بد للحق أن يسطع ضوؤه يومًا ما ليقول للعالم:
أنا الحق الذي لا يموت وإن طال غيابه.
صرخة أمل
في خضم قصفٍ عنيفٍ، وقذائف تتنزل من السماء نزول قطرات المطر من السحاب، وسط صراخ الجرحى وبكاءٍ على الموتى؛ يصرخ ذاك الرضيع الذي ولد ولادة قيصرية بعد أن سقطت قذيفة على منزل الأم الحامل به، ليقول للعالم: سأحيا وإن تسقط كل العالم لن أموت والله أراد لي الحياة. ذلك الهدوء الذي سبق صرخته جعلني أذرف الدموع خشيت أن يموت لطول صمته، خشيت فقدانه وأنا حديث عهد به، لكن الحمد لله أعطاني تلك الجرعة من الأمل حينما صرخ قائلًا: مرحبا بالحياة وإن كانت في مستنقع للفساد.
إن نقل جميع المشاهد والصور التي جاءت في الفيلم أمر صعب، أما عن نقل تلك المشاعر التي تكونت نتيجة المشاهدة؛ فهذا شيء أصعب من الصعب، لا يقوى عليه وعلى سبر أغواره سوى أديب يطوع الكلام تطويعًا، لينقلها من الصورة البصرية إلى السطور الحبرية.
المؤمنون في توادهم كالجسد الواحد
لا تزال الشعوب المسلمة في المنطقة العربية وغيرها من المناطق، تعيش تحت وطأة التعذيب والظلم “الإنساني” بكل أشكاله وأنواعه. لا يزال أهل غزة يموتون في كل يوم، والحكومات العربية تطبع عند كل وفاة حفاظًا على السلم والسلام. إن هذا الرعب الذي يعيشه الطفل السوري أو العراقي أو الفلسطيني عندما ينام، وهو خائف يفكر في سقوط صاروخ عليه أثناء نومه؛ يجب أن ينقل إلى قلب كل مسلم، يجب أن يعيش معه.
قال -صلى الله عليه وسلم-:
مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر.
ويقول -سبحانه-: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ). قال الشوكاني عند هذه الآية: أي قلوبهم متحدة في التوادد والتحابب والتعاطف، بسبب ما جمعهم من أمر الدين وضمهم من الإيمان بالله. فنسبتهم بطريق القرابة الدينية المبنية على المعاقدة المستتبعة للآثار من المعونة والنصرة وغير ذلك”.
إن استساغة مشاهد الموت والتعذيب والقصف، الذي يأخذ الأطفال الصغار في كل ثانية بأبشع الطرق، إلى حد التطبيع مع من يتفنن في تعذيبهم؛ أصعب من تطبيع الدول العربية علاقاتها مع الكيان الصهيوني. كلما كان القلب ينبض بالحياة لا يزال هناك أمل، كلما أحسسنا بالآخر؛ زادت فرص عيشه وبقائه. إن الاستسلام وخفض الراية، والخنوع في وجه الظلم موت لا محيد عنه.
يقول إسماعيل علي محمد: “لقد أتى علينا زمانٌ نحن فيه كثيرٌ، ولكن كثرتنا لم تُغن عنا شيئًا، ولم تملأ عيون أعدائنا أو نفوسهم مهابة، وأضحت كثرة المسلمين التي جاوزت المليار ونصف المليار -بسبب التفرق والتقاطع والهجران على مستوى الأفراد والجماعات- غُثاء كغثاء السبيل، كما أنذر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحذَّر!”.
أما حان الوقت؛ لنوحد الصفوف، ويشتغل كلٌ منْ مكانه في سبيل النهوض بهذه الأمة التي هي الوحيدة القادرة على إنهاء هذا الظلم العالمي الجديد، الذي يسمى عند بعضهم النظام العالمي الجديد.