الأزهر الشريف ودوره الحضاري بين الممانعة ومحاولات التقويض
مدخل.. ريادة مصر الثقافية ورمزيّة الأزهر
تكتسي مصر دورًا رياديّا مهمّا على المستوى العربيّ، وبالرغم من صعوبة الحكم عليها كقوّة إقليميّة سواء في السّابق أو الآن (1)، إلّا أنّ تأثيرها عربيّا من الناحية الثقافيّة لا يمكن إنكاره، ولموقعها الجغرافيّ في قلب العالم العربي الرّابط بين المشرق والمغرب دور في ذلك، ولا أدلّ على هذا التأثير من مثال الدّور المصري في ما سميّ بالنهضة العربيّة.
ومن هنا كان للاهتمام بمصر وأوضاعها ودراسة حالتها مبرّر وأهميّة لكلّ مسلم عربيّ مهتمّ بالحالة الثقافيّة. والذي سينصبّ عليه اهتمامنا في هذا التقرير هو العلاقة بين الديني والسياسي في مصر، وبالتحديد العلاقة القائمة بين جامع الأزهر الشريف كمؤسّسة دينيّة عريقة وبين المجال السياسي المصري، من حيث التأثير والتأثُّر، بين الماضي والحاضر. وفي سبيل ذلك رأى الكاتب أنّ من المهمّ الرجوع في البداية إلى حفريّات التاريخ المتعلّقة بالأزهر منذ نشأته.
صحيح أنّ الجامع الأزهر لم يكُن الجامع الأقدم بناءً في العالم الإسلامي، إذ يُمكن إدراك تفوُّق جامع القرويين بفاس المغربيّة عليه في هذه الخاصيّة دون نظر، وصحيح كذلك أنّ الأزهر لم يكُن له تلك المكانة العلمية وذاك الإشعاع العلميّ منذ تشييده، فالتاريخ يشهد على أنّه في أحد أطواره الأولى لم يكُن حتّى من المساجد الجامعة فضلًا عن أن يكون حاضنة علميّة، حيث مُنعت إقامة صلاة الجمعة فيه كما سنُورِد.
لكنّ الجامع الأزهر مع ذلك ينفرد بخصائص لم تكُن لغيره، ويتفوّق في أخرى على غيره. أبرزها البُعد السياسي والحضاريّ الذي حظي به كجامعة دينيّة وتعليميّة إسلاميّة تملكها الأمّة الإسلاميّة ساهمت في صدّ الاستعمار والتّغريب والحفاظ على الهويّة الإسلاميّة وتخريج ثلّة من العلماء والمفكّرين والمجاهدين الذين كان لهم دور كبير في تحريك جموع الناس والتأثير في الحياة السياسية.
كما يبقى للأزهر مكانته الرّمزيّة التي لا تخفى في مصر والعالم الإسلاميّ ككلٍّ؛ بسبب الذاكرة الأزهريّة الخالدة فإنّ “الميراث التاريخي الطويل الذي حظي به الأزهرُ كان عنصرًا أصيلاً فيما يمكن الاصطلاحُ على تسميته بــ «رأس المال الرمزي الأزهري»، وهو الذي اتخذه الأزهريون ذريعةً ما فتئوا يعتصمون بها لتسويغ موقعهم الديني، والدفاع عما استقام لهم من سلطةٍ معرفيةٍ لا يقبلون أن يمسَّها أحدٌ طعنًا وانتقاصًا أو شكًّا وتساؤلاً. ولستُ أُحصي كم مرةً سمعتُ فيها شيخًا أزهريًّا يُشِيد بتاريخ هذه المؤسسة العريقة التي أربى عمرُها على ألف عامٍ، في لهجة لا تخلو من ثقةٍ واستعلاءٍ، وبخاصةٍ إذا كان في مقام الدفاع عن “الثقافة المهيمنة” التي يمثِّلها الأزهر، في مجابهة مَنْ يبغون التأسيسَ لهيمنةٍ مضادةٍ سواء أكانوا من المنتمين إلى الأحزاب العلمانية بمختلف أطيافها، أم من أصحاب الرؤى الدينية المغايرة للرؤية الأزهرية؛ كالتيارات السلفية على تنوعها واختلافها”(2).
الأزهر الشريف وهو يُزهِر
دخل الإسلامُ مصرَ سنة 18 هـ على يد الصّحابيّ الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه، في خلافة الفاروق عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وبنى فيها مسجده الجامع المعروف باسمه، وقد دخل مصرَ مع عمرو بن العاص خلق كثير من الصّحابة، أحصى الإمامُ جلال الدين السّيوطي رحمه الله ما يربو عن ثلاثمئة منهم،[3] “وقد استقر بمصر كثير من الصحابة ومشاهير التابعين وأتباع التابعين، ونشأت بها طبقة من المجتهدين كالليث بن سعد المتوفى عام 175هـ، وهاجر إليها الإمام الشافعي المتوفى عام 204هـ، وخلفه البويطي المصري المتوفى عام 231ه”[4].
وقد أُدخِل إلى مصر في أوّل الأمر المذهبُ المالكيّ، ثم بعدها انتشر فيها المذهب الشافعيّ على يد تلامذته، كما أُدخِل إليها بعد ذلك المذهب الحنفيّ. كما تعاقب على حكمها دولة الخلافة الرّاشدة، ثم دولة بني أميّة، ثم الخلافة العبّاسيّة. وحين ضعُفت هذه الأخيرة حكمها آل طولون. وأُسّس خلال حكمهم (جامع ابن طولون) سنة 263هـ.
وخلال هذه الفترة لعب كلّ من (جامع عمرو بن العاص) و(جامع ابن طولون) دورًا علميًّا كبيرًا، فكانت تعُجُّ بالعلماء والمتعلّمين والحلقات العلميّة في العلوم الشرعية والآداب والفنون المختلفة.
“وفي عام 321هـ وُلّي على مصر من قبل خلفاء بني العباس محمد ابن طفج الإخشيدي الذي أقام الدولة الإخشيدية في مصر والشام، ومات في ذي الحجة عام 334هـ، وخلفه ابنه أبو القاسم أنوجور وكان صغيرًا، فأقيم أستاذه كافور الإخشیدي وصيًا عليه، وحكم المملكة باسمه، ومات أنوجور عام 349هـ، فقام أخوه على مقامه حتى مات عام 355هـ، فاستقرت المملكة باسم کافور ودُعي له على المنابر في مصر والشام، ومات عام 357هـ، فولّى المصريون بعده أبا الفوارس أحمد بن علي بن الإخشيدي، فأقام شهورًا حتى فتح الفاطميون مصر، وانتزعها جوهر الصقلي منه عام 358هـ”[5].
حكم الفاطميّون قبل ذلك أفريقيا ووصلوا إلى المغرب، وفي عهد المعزّ لدين الله الفاطميّ، صرف همّه لفتح مصر، خاصّة مع ما كانت تعيشه من اضطراب بعد وفاة كافور الإخشيديّ، وانصراف الخلافة العبّاسية في بغداد إلى صدّ غارات القرامطة. فاستتبّ للفاطميين حُكم مصر على يد جوهر الصقليّ. “وأخذ جوهر يعمل على بثّ الدعوة للمعز الفاطمي في مصر خاصة، ولأهل بيته من العلويين عامّة، واختطّ مدينة القاهرة المعزية، وبنى الأزهر الشريف، وصار جامع عمرو وجامع ابن طولون والجامع الأزهر مراكز للدعاية لعقائد العلويين الفاطميين ودعوتهم، كما كانت الدعوة لهذا المذهب تُذاع على يدي داعي الدعاة ومن كان يعاونه من الدعاة”[6].
أنشا الجامعَ الأزهر جوهرُ الصقلي قائدُ الخليفة الفاطمي «المعز لدين الله»، وشرع في بنائه يوم السبت لستٍّ بقيـن من شهر جمادى الأول سنة 359هـ (970م)، وكمُل بناؤه لسبع خلون من شهر رمضان سنة 361هـ (22 يونيو 972م)، وكان الغرض من إنشائه أن يكون رمزًا للسيادة الروحية للدولة الفاطمية، ومنبرًا للدعوة التي حملتها هذه الدولة الجديدة إلى مصر”[7].
هكذا أزهَرَ الأزهر الشّريف، وظهر في حيّز الوُجود، “وقد أُطلق على هذا المسجد اسم الأزهر، نسبةً إلى فاطمة الزهراء التي ينتسب إليها الفاطميون، أو لأنه كان يحيط به قصور فخمة، وتسمى بالقصور الزهراء، أو لأنه يُظن أن هذا الجامع أكثر الجوامع فخامة ورواء، أو للتفاؤل بأنه سيكون أعظم المساجد ضياءً ونورا”[8].
أوراق من تاريخ الأزهر الشريف
بنى الفاطميّون الأزهر الشريف لتثبيت الدعائم الدينيّة لدولتهم، وقد أقام المعزّ الفاطمي بمصر حتّى وفاته. وقد بدأت الحلقات العلميّة في الأزهر أوّل ما بدأت بعد افتتاحه بأربع سنوات سنة 365 هـ، وذاع صيت الأزهر وأصبح قبلة للطّلبة لما تُخُيِّر له من أكابر العلماء للتّدريس فيه. وكان يُدرّس فيه الفقه والعقيدة والفلسفة وغيرها على مذهب الشيعة الفاطميّة.
وقد حكم الفاطميّون مصر ما يقرُب قرنين من الزمان، أولوا فيها عناية خاصّة بالأزهر. لكنّ السّمة العامّة للأزهر خلال حكمهم لم تكن مما يمكن أن نثني عليه ونحمده هنا، إذ كانت الدولة الفاطميّة طاغية مستبدّة، وفي عقيدتها باطنيّة وأفلوطينيّة (أفلاطونيّة مُحدثة) فلسفيّة مع تشيّع فيه شرك، واستخدموا في سبيل توطين استبدادهم وعقائدهم كل شيء ومن ذلك الأزهر كجهاز تعليميّ. ولهذا لم يكُن يلعب الأزهر على مكانته خلال هذه الفترة سوى دور المستبدّ فكريًّا وسياسيًّا، فلم يكن له قيمة في المعارضة السياسيّة أو الحسبة، ولا في تطوير العلوم والإبداع فيها، إذ كان الجمود والرّكود مُلازمًا لهذه الحقبة.
ومن المهمّ أن نذكر هنا أنّ المذهب الإسماعيليّ الفاطمي والمعتقد الشيعي بمضامينه الفلسفيّة لم يكن له كبير تأثير في عامّة المصريّين الذين بقوا على عقيدتهم السنيّة، فقد كان التأثير الفاطمي الأيديولوجي محصورًا وليس عامًّا وشاملًا. ولعلّ لطبيعة عقيدة الفاطميين أثر في ذلك، حيث كان الغموض يكتنف عقائدهم ويتمّ التأثير في الناس بشكل علنيّ وبشكل سريّ أيضًا، وكذلك الشّرك والانحراف الصّريح في معتقدهم والذي لا يخفى على النّاس، وحتى الأسلوب الفارسيّ للفاطميين لم يتقبّله مزاج المصريين في الغالب، بل أُكرهوا عليه إكراهًا.
نخلص إلى أن “الأزهر اتخذ أول ما أنشئ مسجدًا لعبادة الله والدّعاية للفاطميين ودولتهم، ثم عُقدت في جنباته حلقات الدروس العامة، فكان الأساتذة من فقهاء الشيعة يجلسون لإلقاء دروسهم على كل من يحضرها في الفقه واللغة والأدب والمنطق والطبيعيات والرياضيات”[9].
ولكن مع ذلك، خلال هذه الفترة بدأ الأزهر فترة جديدة بسبب العناية التي أوليت له، حيث أصبح معهدًا علميًّا جامعيًّا مُنظّمًا، كما عرف حركة علمية وعقلية قويّة، وإن فيها جمود واستبداد.
ثمّ قامت الدّولة الأيّوبيّة في مصر على يد الملك النّاصر صلاح الدين يوسف بن أيّوب، عام 567هـ، وقام بمحو الفاطميين وآثارهم العقديّة من مصر، ونشر العقيدة السنيّة، وحكم دولًا كثيرة بالعدل وحُبّب إلى النّاس، واهتمّ بالعلم والعلماء ووقف في وجه الصليبيّين. واعتنى بمصر وجعل من القاهرة عاصمة لدولته.
ولكنّ الأزهر عرف إهمالًا خلال الدولة الأيوبيّة، مبالغةً من الأيوبيّين في طمس آثار الفاطميين والمذهب الإسماعيليّ، حتّى “أفتوا بإبطال إقامة الجمعة في الأزهر ولبثت إقامة الجمعة معطلة. فيه نحو مائة عام، وذلك من عام 567 – 665هـ” [10]. لكنّ هذا لا يعني إهمالًا للعلم، بل إنّ تشييد المدارس كان بكثافة خلال هذه الفترة، حيث بُنيت مدارس كثيرة، دُرّس فيها مذاهب أهل السنة المختلفة، مع عناية خاصّة بالمذهب الشافعي. إذ “يحصي المقریزي المدارس التي بُنيت في القاهرة وحدها بثماني عشرة مدرسة وقد بُنيت في القاهرة والفسطاط معًا نحو خمسة وعشرين مدرسة” [11]. منها المدرسة الكامليّة، والمدرسة الصّالحيّة، والمدرسة الفاضليّة.
“على أنّ قطع صلاة الجمعة من الجامع الأزهر في تلك الحقبة لم يُبطِل صفته الجامعيّة، فقد لبث محتفظًا بصفته كمعهد للدّرس والقراءة. ومع أنّه لم يكُن يحظى في ذلك العصر بكثير من الرّعاية الرّسميّة، فإنّه لبث مع ذلك محتفظًا بكثير من هيبته العلميّة القديمة، فتراه مقصد علماء بارزين” [12]، كما أنّ أثر الأزهر الفاطميّ ظلّ واضحًا ببروز عدد من العلماء الكبار في العصر الأيّوبي، وكذلك عدد من الأدباء والشعراء.
ثم حكمت مصر بعد الأيوبيين دولتَا المماليك، منذ 657هـ إلى غاية 923هـ. وخلال هذه الفترة تمّت إعادة الاعتبار للأزهر بعد الإهمال، حيث عادت فيه صلاة الجمعة، وأمعنوا في الاهتمام بعمارته تشييدًا وإصلاحًا وتحسينًا وتجديدًا. فتمّت إعادة بنائه حين تهدّم، وأضيفت إليه ثلاث مدارس، بالإضافة إلى إعادة بعثه من النّاحية العلميّة بترتيب الدروس فيه. فكانت دولة المماليك تسرف في النفقة على الأزهر. ومع أنّ هذا جعل أحيانا من علماء الأزهر يتمتّعون بالجاه والنّفوذ، إلّا أنّ الأزهر لم يكُن حينئذ له مكانته الخاصّة بين الجامعات المختلفة في مصر والعالم الإسلامي التي تحتفظ له بها ذاكرة التاريخ، سوى في أواخر حكم المماليك إذ توجد شواهد على أنّ الأزهر تبوّأ حينها مكانة خاصّة.
وقد خضعت مصر للحكم العثماني منذ عام 923هـ إلى غاية 1220هـ، ثمّ ضعُفت الدولة العثمانيّة منذ منتصف القرن السابع عشر، فكان حكمها لمصر صوريًّا فيما أصبح المماليك مرّة أخرى هم من يحكمونها فعليًّا. وكان الانحطاط الثقافي والعلمي حليفًا للعالم الإسلامي في هذه الفترة، وكذلك كان الأزهر، إلّا أنّه استغلّ نفوذه الرّمزي في نفوس النّاس ليلعب دوره السياسي في عصر الانحطاط هذا كما لم يلعبه من قبل.
الأزهر ودوره السياسي والحضاري التاريخي
لقد عاش الأزهر خلال تاريخه الألفيّ أزمنة مختلفة بين صعود وخفوت، لكنّ خلاصة هذا التاريخ أنّه أصبح له نفوذ دينيّ وقوّة رمزيّة عظيمة إلى الآن، وهي التي كانت وراء دوره السياسي خاصّة منذ عصر العثمانيين.
ففي فترة حكم المماليك ونظرًا للأهمية التي أوليت للأزهر؛ “كان الأكابر من علمائه يتمتعون بالجاه والنفوذ، ويشغلون وظائف القضاء العليا، ويستأثرون بمراكز التوجيه والإرشاد. وكان هذا النفوذ يصل أحيانًا إلى التأثير في سياسة الدولة العليا، وأحيانًا في مصائر العرش والسلطان” [13].
لكنّ أظهر ما نهض به الأزهر من مهمّة حضاريّة تاريخيّة كان خلال الحكم العثماني، فإنّه “إذا كان الأزهر قد انطوى على نفسه في العصر الترکي وذوت آثاره العلمية، فقد استطاع بما له من نفوذ في نفوس العامّة والخاصة أن يحمل العناصر الاستعمارية على احترام مكانته وعلى اللجوء إليه في الملمات، وكان يتوسط فيما ينشب بينهم وبين المصريين من خلاف، واستطاع الأزهر في هذه الحقبة المظلمة من تاريخه أن يحفظ اللغة العربية، وأن يقاوم لغة الفاتحين، وأن يبقي بابه مفتوحًا لطلاب العلوم الإسلامية واللغة العربية مدى ثلاثة قرون”[14].
ويمكن أن نلخّص دور الأزهر في النقاط التالية:
– الحفاظ على الهويّة؛
– صدّ القوّات الاستعماريّة؛
– دفع الظلم والاستبداد.
وجدير بالذّكر هنا أنّ الأزهر قاد ثورتين هامّتين تنبئ عن الدّور السياسي له، “إحداهما كانت بقيادة أكبر علماء ذلك العصر وهو الإمام أحمد الدّردير، والأخرى بقيادة شيخ الأزهر في ذلك الوقت الشيخ عبد الله الشرقاوي رحمهما الله تعالى” [15].
حيث ثار الإمام الدردير المالكي الأزهريّ رحمه الله ليسترجع ما نهبه أحد الأمراء من أحد السكّان سنة 1200هـ [16]، وفي 1209هـ قاد شيخ الأزهر عبد الله الشرقاوي بمؤازرة العلماء والشعب ثورة على الظّلم الذي حدث على الشّعب من جرّاء كثرة الضّرائب المُحدثة من طرف الدولة، فأرغم الأمراء على النّزول على إرادة الشّعب الثّائر [17].
بالإضافة إلى هذا كان علماء الأزهر يعارضون كثيرا من القوانين الّتي أحدثها العثمانيّون مثل فرض رسوم على الزّواج [18]. وأحداث الغزو الفرنسي لمصر (منذ 1798م) من أفضل ما يشهد على دور الأزهر، غير أنّ هذا التقرير يضيق عن ذكر تفاصيلها، ولكن لا مهرب من أن نمسك بطرف من أحداث هذه الفترة.
“لم تكد تستقر الحملة الفرنسية في القطر المصري في صفر 1213هـ (يوليه 1798م)، حتّى نفر الشعب وزعماؤه دفاعًا عن كرامة الوطن وحريته، فقامت الثورات في جميع أنحاء القطر، لطرد المستعمرين من البلاد. وكانت القاهرة مركزًا لثورتين مهمتين: الأولى في جمادى الأولى 1213هـ (أكتوبر 1798م) وعلى رأسها الشيخ السادات، وكان رئيسًا لمجلس الثورة. والثانية في 23 شوال 1214هـ (20 مارس 1800م) وعلى رأسها زعيم العلماء في ذلك الوقت السيد عمر مكرم نقيب الأشراف. وقد استعمل الفرنسيون جميع أنواع القسوة لكبت الشعور القومي والقضاء على المقاومة الأهلية، ولكنهم لم ينجحوا في خطتهم، وانتهى الأمر بفوز المقاومة الأهلية، وجلاء الغاصبين عن أرض الوطن” [19].
فقد تمّ ضرب الأزهر بالمدافع خلال هذه الفترة، ودخلته خيل المستعمر الفرنسي [20] إمعانًا من نابليون في إهانة حرمته، حتى أصبح اصطبل خيل لأيّام، وتمّ التّنكيل بعلمائه بالقتل والسّجن وفرض الغرامات وتمّ إعدام عدد منهم، ووجّه نابليون وجهه صوب الأزهر بعد الثّورة الأولى لما علم من دوره الكبير في المقاومة ولما علم من مكانة علمائه في مصافّ المقاومين ودورهم في التّحريض وقيادة النّاس [21].
“وقام الأزهر بتأييد القوات الوطنية في جهادها ضد الإنجليز عام 1807م، وأفتى زعماؤه في المؤتمر الوطني المنعقد في الأزهر بوجوب الجهاد الوطني، وقام العلماء ببذل مجهود كبير في سبيل الدفاع عن الوطن سواء بالتطوع أو إمداد الجيش بالمؤن والذخائر أو الدعوة إلى الجهاد” [22].
كما أنّ الأزهر إلى جانب هذا ساهم في ثورات أخرى بعد ذلك ساند فيها المظلوم ضدّ ظالمه، وأنجب للأمّة، ولا زال ينجب، علماء وأدباء مشهورين، حاولوا مقاومة التّغريب بفكرهم وأقلامهم.
ويرجو الكاتب أن يكون قد ألمح إلى شيء من دور الأزهر على قلّة هذه السّطور وضيقها عن الإحاطة بالموضوع.
محاولات تقويض دور الأزهر
أرى، بحكم أنّ القضيّة فيها تعقيد كبير، أن نميّز هنا للتبسيط بين:
قيام الأزهر بدور الممانعة والذي ظلّ دائمًا إلى الآن، وبين ما يمكن تسميته بتأميم الأزهر أو إخضاعه للسلطة السياسية وعلمنته أو تدجينه.
كما عبّر المهندس أيمن عبد الرحيم، والذي كان منذ صعود محمد علي إلى سدّة الحكم في مصر.
كما أرى أن ننبّه على التفريق بين ما نسمّيه ممانعة؛ أي مُدافعة، ومحاولة من الأزهر للإبقاء على البقيّة الباقية من الهويّة الإسلاميّة، وبين تمثيل الحقّ الخالص أو التعبير عنه بشكل مطلق وصارخ [23]. وهذا التمثيل آنف الذكر لا يهمّنا في هذا المقام أصلاً حتّى نعبّر عن وجهة نظرنا بخصوصه، إنّما وجب التنبيه حتى لا يُساء فهم مقصودنا هنا باعتبارهما شيئًا واحدًا.
لقد كان هناك مساحة للأزهر ليتحرّك فيها ويكون فاعلًا سياسيًّا حين كان يمثّل كيانًا مستقلًّا وجماعة علميّة منفصلة، في ظلّ حكم المماليك خلال ضعف الدولة العثمانيّة خاصّة، لذلك وجدنا في هذه الفترة بالذّات ما سُقناه سابقًا من أمثلة، وبعد الغزو الفرنسي لمصر، والثورتين المصريّتين اللتين أجْلَتا الفرنسيين، نُصّب محمد علي حاكمًا على مصر، ليفتح بذلك عهدًا جديدًا لمصر والأزهر.
لقد أسّس محمد علي باشا نموذج الدولة الحديثة في مصر، ليصبح الأزهر ضمن هذا النظام مؤسّسة تعليميّة دينيّة بعد أن كانت جامعًا مِلكًا للأمة، وجرى تقنين الأزهر بإصدار قوانين تنظّمه إداريًا وتعليميًّا. وأصبح عندنا في الأزهر نموذج “الموظّف الديني” التابع للعسكري أو السياسي كبديل عن العالِم كقسيم وعِدل للعسكري أو السياسي بحيث يمكن أن ينكر عليه ظلمه.
من وجهة نظره يقول الباحث أيمن عبد الرحيم -فرج الله عنه-: “الأثر الأخطر على الإطلاق لعملية التحول إلى نموذج الدولة القومية الحديثة على المؤسسة الأزهرية، هو ابتداءً تحولها إلى مؤسسة! حيث كانت في القديم تمثل مدرسة أو جامعة ملك للأمة، وقائمة على حماية دين الأمة وعلومها، ثم تحولت إلى أحد المؤسسات الملحقة بهيكل الدولة العلمانية الجديدة، وأحد أدوات قوتها الناعمة، وثانيًا هو تغير بنية النسيج الاجتماعي والاقتصادي، الذي حرم هذه المدرسة العلمية من روادها الحقيقيين، أو من معظم روادها الحقيقيين، والذي تم الدفع بهم إلى ذروة السلم التعليمي في المجتمع العلماني الجديد؛ الكليات العلمية والفنية من جهة، والكليات الأمنية والعسكرية من جهة، حيث أصبح معظم الجمهور المقبل على الدراسة الشرعية هم الطبقات المهمشة اجتماعيًا، والمحملين بجميع الأمراض النفسية والخلقية لهذه الطبقات، والأفراد ذوي القدرات العقلية المتدنية غير القادرين على الالتحاق بالدراسة العامة (غير الشرعية)، هذا الخليط المشبع بالرواسب النفسية، والتدني المالي والطبقي، والبلادة الذهنية أصبح السواد الأعظم من المنتج الذي تدفع به هذه المدرسة إلى المؤسسة الأمنية حتى يعيد تسكينه في مكانه الصحيح والمناسب داخل هيكل السلطة الأمنية!، الظاهرة التي نراها الآن بشكل فج، والتي يمكن وصفها بظاهرة «الشيوخ العسكر!»؛ والذين يدورون مع العسكر حيث دار!، وهم في رأيي لا يمثلون نموذج الشيخ الفاسد، ولكن يمثلون إفساد نموذج الشيخ!، فكما قال أهل العلم؛ والله ما خان أمين قط!، ولكن اؤتمن غير أمين فخان!” [24].
فقد فُقدت مكانة العلماء الأزهريين بشكل خاصّ، بعد أن كانوا يقومون بدور وسيط كجناح ديني تعليمي مستقل ومدني، يتوسّط بين السلطة والشّعب، ذي مكانة عند الاثنين، فينتفض تارة لاسترداد حقّ المستضعف، ويثبّت أركان حكم السياسي تارة أخرى.
ثمّ حكم جمال عبد الناصر مصر سنة 1956 بعد ثورة 1952، “ومنذ أول يوم لتشكل الدولة الجديدة بدت نوايا السلطة السياسية تجاه الأزهر. فأُلغيت المحاكم الشرعية عام 1955، وفي عام 1959 أُصدر قانون الأحوال الشخصية، وتبلورت الرؤية حين أُصدر قانون 1961 والذي كان الخطوة الأخيرة نحو نزع استقلال الأزهر وضمه لدولاب الدولة المصرية، وتحويله لمؤسسة بيروقراطية من مؤسسات الدولة” [25]. وقد مال حكام مصر إلى التعامل مع الأزهر بقليل من الحذر وزجُّوا بأنفسهم في شؤونه الداخلية بشيء من التردد.
هيئة كبار علماء الأزهر الشريف
لكن في العام 1961، تم التخلي عن الحرج كله. في ذلك العام، تم استبدال هيئة كبار العلماء بمجلس من كبار مسؤولي الأزهر، بمن فيهم عمداء الكليات العلمانية التي أنشئت حديثًا. كما أضيف بعض مسؤولي الحكومة إلى عضوية هذا المجلس. وتمت زيادة درجة الإشراف الحكومي المالي والإداري، ووضع تعيين الشيخ في يد رئيس الجمهورية.
“كان قانون العام 1961 المحاولة الأكثر طموحًا من قبل حكام مصر في مرحلة ما بعد العام 1952 لوضع الأزهر تحت سيطرتهم، لكن جانبين آخرين من إدارة الأزهر أضعفا أكثر موقع المؤسسة. الأول، هو أنه تم وضع الأوقاف الدينية بشكل كامل تحت سيطرة وزارة الأوقاف (وهي العملية التي بدأت في القرن التاسع عشر إلا أن النظام الناصري استولى عليها بقوة).
وتمثل تأثير هذه الخطوة في تقويض الاستقلال المالي للأزهر، لأنه لم يعد يسيطر على الأموال التي تم تخصيصها لدعم أنشطته. والثاني، هو أنه في سلسلة من التحركات، تم ربط مكتب شيخ الأزهر بمكتب رئيس الوزراء بدلًا من الرئيس. هذا لم يدخل عنصرًا من الإشراف الحكومي فقط، بل اعتبر أيضًا من جانب الحريصين على هيبة المؤسسة إهانة لكرامتها” [26].
واستهدفت السياسة الجديدة لعبد الناصر تقويض دور الأزهر، فقد صرّح شيخ الأزهر الحاليّ د. أحمد الطيب بأنّ هذا النظام كان أوّل مرحلةٍ تضعضع فيها الأزهر [27]؛ فقد عمل على سحب الحريّة منه في اتخاذ قراراته، وفقد بذلك الأزهر سيطرته حتى على ذاته.
ويرصد الباحث ناثان ج. براون أنّه بعد قانون 1961 أصبح هناك تخوّف أزهري من السياسات الناصريّة، وبدأ أزهريّون في نشر بعض المقالات المُطيعة التي تحاول أن تثبت التوافق بين الإسلام وبين الاشتراكية الماركسيّة والقوميّة. لكنّه وخلال الستينيّات تأسست “جبهة علماء الأزهر” وكان لها مواقف معارضة، والتي جرى حلُّها في التسعينيات.
وقد بقي الأزهر خلال حكم عبد الناصر والسادات ومبارك على هذه الحال، لا يملك التحكّم في ذاته ولا الخروج عن نطاقه الضيّق كمؤسّسة دينيّة غير مستقلّة بقرارها، ولا تتدخّل في الشؤون السياسيّة إلّا كمُستغَلَّة سياسيًّا للقضاء على “التطرُّف” أو اليسار، هذا كتيّار عامّ، وإلّا فلكلّ قاعدة استثناءات، إذ قد انضم بعض علماء الأزهر إلى جماعة الإخوان المسلمين. ولا تقتصر الارتباطات على الإخوان: فهناك في داخل المؤسسة من يتبنون مقاربة سلفية صارمة ونصّية” [28]. كما يشير د. محمد الصغير الأزهريّ إلى وجود تيّار “مدرسة الأزهري الثائر” [29]، الذي يُبرز توجّها لبعض الأزهريّين، يخرج عن التيار العامّ للأزهر، ويثور عليه بأن يكون مستقلًّا في توجّهاته. وللتّمثيل لهذا التيّار نذكر الشيخ عبد الحميد كشك والشيخ محمد الغزالي رحمهما الله.
وقد أعلن د. أحمد الطيب وثيقة الأزهر سنة 2011 عقِب الثورة، كمحاولة للانعتاق من نير التّبعيّة السياسية التي عاشها الأزهر، والتي جاء فيها المطالبة بمزيد من الاستقلاليّة للأزهر الشريف، وبعودة هيئة كبار العلماء واختصاصها بترشيح واختيار شيخ الأزهر. وهي الوثيقة التي وافقت عليها أطياف كثيرة حتى الليبرالية واليساريّة منها [30].
وتمّ تعديل القوانين لتمنح الأزهر شيئًا من الاستقلاليّة في إدارة شؤونه بعد الثورة من قِبل المجلس العسكري، كما نصّ دستور 2012 على استقلاليّة الأزهر، وإعادة هيئة كبار العلماء، وإعطائها الحقّ في اختيار شيخ الأزهر والمفتي، وكذا النّصّ على دورها الاستشاري في المسائل المتعلّقة بالشريعة الإسلاميّة.
وبقي الأزهر في حالة من الحياد خلال حكم الرئيس محمد مرسي، مع أن شيخ الأزهر لا يتوافق مع الإسلاميين، وكان ضدّهم، وليس شخصيّة ثوريّة جاءت بعد 2011، بل كان أول شيخ أزهر مُسيَّس ينتمى لحزب سياسي فقد كان عضوًا بأمانة السياسات بالحزب الوطني المنحل والذي قامت عليه الثورة، وعندما عُيِّـن شيخًا للأزهر رفض في البداية الاستقالة من الحزب الوطني الديمقراطي بذريعة عدم وجود تعارض بين الاثنين ولكنه استقال من الحزب في النهاية، كما أنّه ينبغي أن نضع في الاعتبار أن كثيرًا من الأزهريين يرون في صعود الإسلاميين في المشهد السياسي أو الثقافي عمومًا تهديدًا لمكانتهم كعلماء رسميّين يمثّلون الدين في مصر. وخلال أحداث انقلاب يوليو 2013، كان شيخ الأزهر طرفًا مشارِكًا في بيان 3 يوليو للانقلاب والإطاحة بالرئيس المنتخب، لكنه كان حريصًا على أن يظهر كممثلّ عن الأزهر بعيدًا عن الدور السياسي وكطرف محايد فدعا في بيان للأزهر إلى المصالحة بين الأطراف، كما أعرب عن أسف الأزهر لما حدث في فضّ اعتصامي رابعة والنهضة، وعدم علمه السابق بالإجراءات، وتبرّأ ممّا حدث [31].
الإمام والرئيس.. الأزهر في عهد السيسي
جاءت فترة حكم عبد الفتاح السيسي سنة 2014، حاملة في طيّاتها عودة لزمن ما قبل الثورة، ومثقلة بصراع بين السلطة والأزهر، ممثلَين في السيسي ود. أحمد الطيب.
والحق أنّ هذا الصراع لا ينبغي أن نجعله خلافًا شخصيًا، بل هو صراع له جذوره التي تحدّثنا عنها، بين مؤسّسة دينيّة عريقة ضاربة في القدم وذات مكانة رمزيّة في الذاكرة الجماهيريّة، ولها تاريخ تكلّل بدور حضاري وسياسيّ كأجمل ما يؤدّي العلماء دورهم، وبين سلطة تحاول إخضاعها واستغلالها سياسيًّا بعد التضعضع ومسيرة طويلة من العلمنة والتقويض.
ويمكن أن نلخّص أبرز مظاهر هذا الصّراع فيما يلي:
– ضغوط سياسيّة على الأزهر لتمرير بعض القوانين؛
– التكميم، والتنكيل بالأزهريّين المعارضين؛
– تسخير الأزهر لإضفاء الشرعية على النظام؛
– دعوة الأزهر إلى التجديد الديني بشكل فضفاض وفجّ؛
– تسخير الإعلام للنّيل من الأزهر.
فقد أراد السيسي إخراج الأزهر عن سَمته الحيادي سياسيًا ويزجّ به في صراعه مع الإخوان المسلمين والإسلاميين بكل أطيافهم في الحقيقة، كما أبعد فئة الإخوان-الأزهريين التي كانت مُربكة للنّظام وسارع إلى إقالتهم واعتقالهم والحدّ من تأثيرهم.
والحقّ أن د. أحمد الطيّب قد حاول ما أمكنه ذلك على بقاء الأزهر -على الأقل- على موقف الحياد دون أن يكون مطيّة دينيّة لسلطة السيسي، بل أكثر من ذلك، فقد ظهر الصّراع بين الرئيس والإمام الأكبر في كلّ مناسبة دينيّة واضحًا وجليًّا [32]؛ بدء من ترحّم شيخ الأزهر على ضحايا فضّ اعتصام رابعة، مرورًا بمعارضته اقتراح السيسي برفض الطلاق الشفوي، الموقف الذي جعل هذا الأخير يصرّح علنا للدكتور أحمد الطيب بقوله: «تعّبتني يا فضيلة الإمام!»، وصولًا إلى انتهاز السيسي لكلّ فرصة تسمح له بالاعتراض على شيخ الأزهر والتعقيب على كلامه، والتّلميح إلى أنّ الأزهر لا يمثّل “الإسلام السّمح” بحسبه، و”الدعوة إلى التجديد الديني”.
ولأنّ الدستور لا يسمح للرئيس بإقالة أو استبدال شيخ الأزهر، ويعُدّ ذلك اعتداء على الاستقلاليّة الصوريّة للأزهر، فإنّ السيسي عمد إلى سياساته الخاصّة ليبلغ ما يروم إليه، حيث نصّب محمد مختار جمعة وزيرًا للأوقاف، هذا الأخير كان منديلًا جميلاً للسيسي يمسح فيه ما يريد تمريره من قوانين، حيث سارع منذ تولّيه منصب وزير الأوقاف سنة 2013 إلى إصدار قرارات يهدف من خلالها إلى السيطرة على المشهد الديني وتقنينه بشكل صارم، حيث تمّ منع غير الأزهريّين من الخطابة في المساجد الحكوميّة والأهليّة، وهو ما يعني استبعاد ما يُقدّر باثنا عشر ألف إمام من الخطابة، كما قرّر توحيد خطبة الجمعة منذ بداية سنة 2014 في جميع مساجد مصر، وذلك باعتبار وزارة الأوقاف المسؤولةَ عن الشعائر والخطاب الديني.
كما يرى بعض المعارضين أنّ السيسي بدأ فعليًّا إجراءات عزل شيخ الأزهر، وتنبّأ آخرون بإحلال أسامة الأزهري بديلًا عنه [33]، كما يكتب صحفيون مصريون يطالبون شيخ الأزهر بالاستقالة.
وقد حاول السيسي تقويض قوّة شيخ الأزهر الذي يعارضه بالقضاء على أعوانه والتدخل في هيئة كبار العلماء، “فبعد التخلص من الدكتور محمد عمارة من مجلة الأزهر الشريف كرئيس تحرير لها، والتضييق عليه كعضو هيئة كبار علماء وصديق مقرب من شيخ الأزهر؛ نظرًا لكونه يمثل صداعًا في رأس نظام الانقلاب، تم التخلص من الدكتور حسن الشافعي رئيس مجمع اللغة العربية الأسبق ومستشار شيخ الأزهر وصديقه المقرب ومستشار رأيه، فضلًا عن تقليص هيئة كبار العلماء، وتحييدها” [34]. وقد أصدر في مارس 2020 قرارًا جمهوريًا يقضي بتعيين 4 أعضاء جدد بهيئة كبار العلماء [35]، وليُوضع في الاعتبار أنّ هذه الهيئة يرجع إليها اختصاص انتخاب وتعيين شيخ الأزهر ومفتي الديار المصريّة وكذلك الاستشارة في الشؤون المتعلّقة بالشريعة الإسلاميّة.
كما أنّ الإعلام المصري لا يتوانى عن نقد الأزهر وشيخ الأزهر في كلّ مناسبة، ووصفه بالجمود والتقليديّة وإنتاج الإرهاب والتطرّف الديني، يمكن أن نذكر مثالين لهذا التهجّم هما إسلام بحيري الذي استُقبل في الإعلام المصري منذ سنوات كباحث مكتشف للتطرّف الديني وكاشف لمنابعه الدينيّة عند الأزهر، والإعلامي إبراهيم عيسى المتخصص في إدانة الأزهر وانتقاده. وقد زادت حدّة هذا الانتقاد الإعلامي مع حالة “الصّراع” الذي اتّخذتها العلاقة بين الرئيس والإمام. كما يتمّ تسخير بعض الكُتّاب مثل وزير الثقافة المصري الأسبق جابر عصفور ليؤدّي دور المنتقِد المثقّف لظلاميّة الأزهر المتخلّف الذي يمثّل الدولة الثيوقراطيّة في مقابل الدولة المدنيّة الحديثة التقدُّمية.
خاتمة.. نظرة عامّة للأزهر بين الماضي والحاضر
لقد أنجب الأزهر في تاريخه قامات كبيرة؛ من بينهم شيخ الأزهر عبد المجيد سليم رحمه الله الذي عارض الملك فاروق وأنكر عليه مخلِّفا كلمته المشهورة «أتقتير هنا وإسراف هناك»، ومنهم الشيخ الإمام شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي رحمه الله الذي صاح في وجه الملك فاروق بأعلى صوته: «إنَّ المراغي لا يستطيع أن يُحرِّم ما أحل الله!»، ومن بينهم أسد المنابر الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله، والشيخ الشعراوي، والشيخ محمد الراوي، والأديب المنفلوطي، والشيخ عمر عبد الرحمن رحمه الله، والشيخ أحمد المحلاوي.
ولا يزال الأزهر، على ما ذكرنا من محاولات التقويض، ينهض بدور الممانعة ويُنجب أبناء بارّين يتمسّكون بمبادئهم ويعبّرون عن مواقفهم في إخلاص وصدق لا يتملّقون فيها لأحد. وأملُنا في الله أن يعود الأزهر إلى سابق عهده ودوره الرياديّ الحضاري المشرّف.
المصادر
2.أحمد محمود، صفحات من تاريخ الأزهر: من الفاطميين إلى المماليك، إضاءات، منشور بتاريخ 14 ماي 2017.
3.جلال الدين السيوطي، حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، طبعة 1967، الجزء الأوّل، الصفحات 166-254.
4.د. محمد عبد المنعم خفاجي ود. علي علي صبح، الأزهر في ألف عام، الجزء الأول، ص 17.
5.المرجع السابق، الجزء الأول، ص 20.
6.المرجع السابق، الجزء الأول، ص 26.
7.المرجع السابق، الجزء الأول، ص 29.
8.المرجع السابق، الجزء الأول، ص 29.
9.المرجع السابق، الجزء الأول، ص 36.
10.المرجع السابق، الجزء الأول، ص 83.
11.المرجع السابق، الجزء الأول، ص 83.
12.المرجع السابق، الجزء الأول، ص 87.
13.المرجع السابق، الجزء الأول، ص 104.
14.المرجع السابق، الجزء الأول، ص 112.
15.المرجع السابق، الجزء الأول، ص 124-125.
17.الأزهر في ألف عام، مرجع سابق، الجزء الأول، ص 120، والصفحات 125-127.
19.الأزهر في ألف عام، مرجع سابق، الجزء الأول، ص147.
20.للتوسُّع أنظر: محمد جلال كشك، ودخلت الخيل الأزهر، نشر الزهراء للإعلام العربي.
21.المرجع السابق، نفس الجزء والصّفحة.
22.المرجع السابق، الجزء الأول، ص 150.
23.على أنّ هذا التمثيل غير ممكن واقعيّا بشكل مطلق، إلا كمُقارِب مسدِّد.
24.أيمن عبد الرحيم، الأزهر من التحالف إلى التدجين، إضاءات، منشور بتاريخ 11/3/2015.
25.أحمد رأفت، كيف أدارت «دولة يوليو» مؤسسة الأزهر؟، إضاءات، منشور بتاريخ 7/12/2017.
26.ناثان ج. براون، الأزهر في حقبة ما بعد الثورة، الشرق الأوسط، سبتمبر 2011، أوراق كارنيجي.
28.ناثان ج. براون، الأزهر في حقبة ما بعد الثورة، مرجع سابق، ص 6.
29.تاريخ الأزهر مع الثورة وظهور مدرسة الأزهري الثائر . د. محمد الصغير.
31.بيان شيخ الأزهر د. أحمد الطيب للأمة حول فض إعتصامي رابعة العدوية والنهضة.
32.الأزهر بمواجهة السلطة.. ما الذي يحدث بين الإمام والرئيس؟
34.عزل رجاله وتصفية “كبار العلماء”.. السيسي يبدأ إجراءات استبعاد شيخ الأزهر.
35.الأزهر: قرار جمهورى بتعيين 4 أعضاء جدد بهيئة كبار العلماء.
36.شيخ الأزهر يهاجم الإسلاموفوبيا.. والسيسي يبرر.
37.السيسي وشيخ الأزهر.. مبارزة جديدة على الهواء مباشرة.
[في لهجة لا تخلو من ثقةٍ واستعلاءٍ، وبخاصةٍ إذا كان في مقام الدفاع عن “الثقافة المهيمنة” التي يمثِّلها الأزهر، في مجابهة مَنْ يبغون التأسيسَ لهيمنةٍ مضادةٍ سواء أكانوا من المنتمين إلى الأحزاب العلمانية بمختلف أطيافها، أم من أصحاب الرؤى الدينية المغايرة للرؤية الأزهرية؛ كالتيارات السلفية على تنوعها واختلافها”.]
وموقف الأزهر لا يفيد في الواقع ، بل يضر القضية أمام التيارات التغريبية والمخالفة، ولوتوحدت جهود تلك الفرق لكان أفضل.
[في لهجة لا تخلو من ثقةٍ واستعلاءٍ، وبخاصةٍ إذا كان في مقام الدفاع عن “الثقافة المهيمنة” التي يمثِّلها الأزهر، في مجابهة مَنْ يبغون التأسيسَ لهيمنةٍ مضادةٍ سواء أكانوا من المنتمين إلى الأحزاب العلمانية بمختلف أطيافها، أم من أصحاب الرؤى الدينية المغايرة للرؤية الأزهرية؛ كالتيارات السلفية على تنوعها واختلافها”.]
وموقف الأزهر لا يفيد في الواقع ، بل يضر القضية أمام التيارات التغريبية والمخالفة، ولوتوحدت جهود تلك الفرق لكان أفضل للإسلام.