مدرسة التغريب المصرية وانتشار دعاوى التغريب

جسَّدت مصر أول محطةٍ تجريبيةٍ للدعاوى التغريبية في العالم الإسلامي، وبُذلت فيها جهودٌ كبيرةٌ لإفساد المجتمع المصري بالذات، بهدف تصدير الفساد منه إلى بقية المجتمع الإسلامي كما تبين لاحقًا مع انتشار التغريب في بلدانٍ أخرى من المنطقة وفق منهج هذه المدرسة.

لقد كان التركيز في منهج المدرسة المصرية عنيفًا والوسائلُ فعالةً ووصفه بعض المفكرين في مصر بالتغريب البطيء ولكنه أكيد المفعول، والدليل على ذلك كيف أصبحت مصرُ بعد ما يزيدُ عن نصف قرنٍ من الزمان إذ نشأ تيارٌ جديدٌ نافرٌ من الإسلام منسلخٌ منه.

والتغريب كالجرثومة التي تنتشر في المجتمعات التي تعاني من الجهل بأصول الدين وأحكامه. جرثومةٌ ترمي إلى صبْغ حياة الأمم بعامةٍ، والمسلمين بخاصة، بالأسلوب الغربي، وذلك بهدف إلغاء شخصيتهمُ المستقلة وخصائصهمُ المتفردة وجعلهم أسرى التبعية الكاملة للحضارة الغربية.

المدرسة المصرية

ومرت المدرسة المصرية التغريبية الأولى ببضع مراحلَ حتى رأت نتاج جهودها التي ترجع إلى تاريخ قيام محمد علي والي مصر الذي تولى الحكم سنة 1805م، حين عمد إلى ابتعاث خريجي الأزهر من أجل التخصص في أوروبا. ثم عادوا بعد ذلك يحملون الأفكار الغربية وينافحون عنها ويروجون لها بتخطيطٍ ودعمٍ من المستشرقين.

واشتد عود دعاوى التغريب في عصر الخديوي إسماعيل الذي كان معجبًا بالحضارة الغربية. واشتدت معه حمى ترجمة الكتب الفكرية الغربية كمثل كتب فولتير وروسو ومونتسكيو وهي أفكار ثورية ضد الدين.

وبالتدريج أصبح نقد الحجاب أمرًا مألوفًا ونزعه عادةً مقبولةً، وأصبح من المناظر المألوفة في القاهرة أولًا، ثم في المدن الأخرى بعد ذلك، أن تخرج الأمهات متحجباتٍ، والبنات سافرات، وكانت الأداة العظمى في عملية التحويل هذه هي التعليم من جهة، والصحافة من جهة أخرى.

من أبرز دعاة التغريب في مصر

قاسم أمين

وكان لدعاوى هذا التغريب قادةٌ مشهورون في المجتمع المصري، فقد لمع نجم جورجي زيدان أحد مؤسسي دار الهلال من اللبنانيين المسيحيين المارونيين وانتشرت قصصه ورواياته التي تتناول أحداث التاريخ الإسلامي في ثوبٍ فنيٍّ ولكن أسلوبه في تناول هذا التاريخ كان يعتمد على الافتراء والتدليس والكذب.

ومثلُه مثلُ نجيب الريحاني الممثل الفكاهي النصراني الذي توارى خلف الفن لينشر أفكاره الحاقدة على الإسلام. وكذلك برز إحسان عبد القدوس الذي كان يكتب في مجلة (روز اليوسف وأنيس منصور) اللذان سخرا أقلامهما لتزيين الفاحشة وترغيب الناس في الانحلال والاختلاط على الطريقة الغربية.

ولعل أبرز الشخصيات التي عملت على نشر التغريب خلف ستار الإسلام محمد عبده أحد أشهر تلاميذ جمال الدين الأفغاني، وشريكه في إنشاء مجلة العروة الوثقى، وكانت له صداقةٌ مع اللورد كرومر والمستر بلنت، إذ سخَّر جهوده عبر المدارس التي كان يعمل فيها إلى مهاجمة التقاليد الإسلامية وكل ما يتعلق بالتراث الإسلامي لهذه الأمة.

وكان من بين فريق المبتعثين قاسم أمين الأديب اللامع الذي قبل سفره إلى فرنسا غلى دمه في عرقه عند قراءته رسالةً لمستشرقٍ يتهم الإسلام باحتقار المرأة وعدم الاعتراف بكيانها الإنساني -كما يصف في مذكراته- فقرر أن يرد على هذا المستشرق ويفند افتراءاته على الإسلام. ولكنه بعد عودته من فرنسا عاد بوجهٍ غير الذي ذهب به وأصبح هو من يهاجم الحجاب فأخرج كتاب تحرير المرأة في 1899 والمرأة الجديدة في 1900م.

وجسّد اسم طه حسين أحد أبرز الشخصيات التي كانت تدعو للتغريب في العالم الإسلامي وهو تلميذ المستشرق دور كايم وظهرت أفكاره المنحرفة في كتابه الشعر الجاهلي ومستقبل الثقافة في مصر.

نقاطٌ مشتركةٌ بين دعاة التغريب

والتقى طه حسين وغيره من دعاة التغريب في تلك الحقبة على تشجيع فكرة إيجاد فكرٍ إسلاميٍّ متطورٍ يبرر الأنماط الغربية ومحو الطابع المميز للشخصية الإسلامية بغية إيجاد علائقَ مستقرةٍ بين الغرب وبين العالم الإسلامي خدمةً لمصالحه.

وفي الواقع فإن كلًا من الاستعمار، والاستشراق، والشيوعية، والماسونية وفروعها، والصهيونية، ودعاة التوفيق بين الأديان قد تآزروا جميعًا في دعم حركة التغريب وتأييدها بهدف تطويق العالم الإسلامي وتطويعه ليكون أداةً لينةً بأيديهم.

المؤتمرات العالمية لدعم التغريب

ورافق هذا النشاط الدؤوب على هدم مقومات الدين وخلق فكرٍ غربيٍّ جديدٍ تتقبله المجتمعات المسلمة عقدُ عددٍ من المؤتمرات التغريبية العالمية كان من بينهما مؤتمر بلتيمور عام 1942م وهو يدعو إلى دراسة وابتعاث الحركات السرية في الإسلام. ومؤتمر القاهرة في سبتمبر 1994م وهو مؤتمر السكان والتنمية بهدف نشر أفكار التحلل الجنسي “الغربية” بين المسلمين.

أسبابٌ مهمةٌ أنعشت التغريب

ولكن بعض الكتاب يرون وراء حركة التغريب عمومًا أسبابًا أخرى هامةً هي التي ساعدت على انتعاشها في العالم الإسلامي، على رأسها هيمنة النظام العالمي الذي تحاول دوله فرض رؤيتها ومعتقداتها على المجتمعات المسلمة بتوظيف وسائلَ مؤثرةٍ جدًا في النسيج المجتمعي كالإعلام والتعليم والسياسة والتي تتفق جميعها على تجريم الأحكام الإسلامية ووضعها في قفص الاتهام.

فشل التغريب واعترافات بعض ضحاياه

ومع أن أُوار التغريب اشتد وانتشر في جميع البلدان الإسلامية، إلا أنه لم ينجح في جرف الكثير من الفتيات المسلمات اللاتي تمسكن بالحجاب وأحكام دينهن ولو كلفهن ذلك الدخول للسجون والمعتقلات.

وساعد في ذلك اعتراف العديد من ضحايا التغريب بحقيقة أن هذه الدعاوى لم تكن إلا أداةً لبيع المرأة، فقد قالت الكاتبة أروى صالح، في كتابها المبتسرون وهي واحدةٌ من ضحايا التغريب الذين كانوا ينادون به من قبل: “لقد أسفر الحب الحر عن حبٍّ مجانيٍّ بل رخيصٍ في الواقع”. كنتيجةٍ للتغريب.

وإن كانت هذه النهايات المنطقية هي ما وصلت له الكثير ممن اغتررن بدعاوى التغريب فإن آلة التغريب لا تزال تعمل على قدمٍ وساق.

تطور الدعاوى التغريبية في ظل استمرار الضعف الداخلي

والسبب الأول في هذا النشاط يرجع لقلة العلماء الربانيين ووسائل وصولهم لجماهير الأمة وكثرة الدعاة المصطنعين والمأجورين.

ثم الجهل بأصول الدين وانتشار الأفكار المتعلقة بقضية المرأة في الأزمنة المتأخرة بالاعتماد على موازينَ بعيدةٍ عن الكتاب والسنة. وإن كانت بثوبٍ إسلاميٍّ يعتمد أساسًا على تصوير الباطل بصورة حق.

والمتابع لخط سير التغريب، يجد أن الفكر الغربي مع المرأة قد انطلق في البداية بأمورٍ يسيرةٍ تتعلق بقضايا الأموال والمواريث والعمل، فأرجع ذلك كله إلى مسألة العقل، ثم لم يمضِ قرنٌ من الزمان وتحت ذات التأصيل اجتمع التغريبيون وأقروا مسألة ما يُسمى بالشذوذ الجنسي و زواج الرجل بالرجل وأبعد من ذلك مما ينتهك كرامة الإنسان، فحطموا كل العلاقات الأسرية وتحولت لبهيميةٍ منحطةٍ بعد أن تبدلت الفطرة لديهم ومُسِخت.

وبعد فساد الفطرة أصبح من المستحيل استيعاب الشريعة وأحكامها. ومن يُباح في مجتمعه الزنا لن يفقه الحكمة من الحجاب ومنع الاختلاط بل أصبح الحديث عن الإلحاد حريةً تكفلها الدعاوى التغريبية.

وفي الواقع فإن الغرب في زماننا لا يصادم الإسلام، لأن الإسلام بعيدٌ عنه إنما يصادم الفطرة أصلًا التي مُسِخت عنده وفَسدت.

مستقبل التغريب في العالم الإسلامي

يبدو واضحًا النتائج التي وصلت إليها دعاوى التغريب في العالم الإسلامي، ومع أنها نتائجُ مرضيةٌ لدعاتها، إلا أن أمامهم تبقى عقبةٌ كؤودٌ، وهي صلابة الدين الإسلامي وسَعَة أحكامه. ثم عقبة العلماء العاملين الذين يعملون على فضح وسائلهم وكشف طرقهمُ المتأسلمة، وظيفتهم بيان الحق ورد الشبهات.

مع أن أمام هؤلاء العلماء تحديًا آخرَ وهو وصولهم للجماهير وتمكنهم من الإمساك بدفة القيادة، وهذا ما يجعل المسؤولية على عاتق الجماهير نفسها، التي عليها بدورها أن تبحث عن هؤلاء العلماء وتقوي منابرهم وترفع أصواتهم وتُسقط في ذات الوقت رموز التغريب الذين يلمعهم الإعلام الوظيفي الأجير.

المصادر

د. ليلى حمدان

كاتبة وباحثة في قضايا الفكر الإسلامي، شغوفة بالإعلام وصناعة الوعي.

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى