الشيخ محمد الراوي: رمز الدعوة الإسلامية والأزهر الشريف ورفيق القرآن الصادع بالحق

رحل عن عالمنا الإسلامي في مثل تلك الأيام، منذ ثلاث سنوات مضت عالم من علماء الإسلام المعاصرين، يُعدّ رمزًا من رموز الدعوة الإسلامية الشامخين، ورجلًا من رجال الأزهر المخلصين، ظلت شمسه ساطعة، ورايته بالحق صادعة، وكلمته بالقرآن صادحة مؤثرة.

إنه رجل القرآن، مٌفسر التبيان، ذو الصوت الشجي، والنبرة القوية، والطلعة البهية، والهيبة الجلية، والفطرة الذكية، والحجة القوية، شيخنا وعالمنا الجليل “محمد الراوي” عليه رحمةٌ من الله ومغفرة ورضوان.  

رحل عنا الشيخ بجسده، لكنّه أبدًا لا يزال قائمًا فينا بعلمه وفكره، وكلماته الرّنانة، ومواقفه الحاسمة الصارمة، التي خرجت عن قلبٍ طاهر نقي، وصدرٍ امتلئ بالله يقينًا وإيمانًا، ولسانٍ لطالما عاش بالقرآن تاليًا، وللذكر مرددًا، وللحق صادعًا، فوقعت في نفوسنا موقع الخشوع والإنصات، ولامست قلوبنا بصدقٍ وإخلاص.

ولمَ لا وقد عاش الرجل منذ نعومة أظفاره وحتى لقاء ربه مع القرآن، وبالقرآن وللقرآن، كان هذا شاغله الأول والأخير، فحمل على عاتقه تبيانه للناس، وتذكيرهم به، وحثهم للعمل بآياته، وتطبيق أحكامه، والفوز بمغانمه، والحذر من مخالفته، مؤكدًا للأمة جمعاء، بأن النصر والظفر يبدأ من ها هنا (كتاب الله عز وجل وسنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم).

نشأة قرآنية خالصة

وُلد الشيخ محمد الراوي، في قرية ريفا بصعيد مصر، سنة 1347 هجرية، في شهر فبراير الموافق لعام 1928 من الميلاد، وقد تربى يتيمًا حيث توفيّ عنه أباه وهو في الثانية من عمره، فتربى مع خاله الذي أحسن تربيته وتعليمه، فألحقه بالكُتَّاب، واهتمَّ به أحسن الاهتمام، فختم القرآن وهو في الثالثة عشر من عمره، ليلتحق بعدها بالمعهد الديني الأزهري، حيث كان المعهد لا يقبل إلاَّ من ختم القرآن كاملًا من الطلاب، وقضى به تسع سنوات، أربع سنوات بالمرحلة الابتدائية، وخمس سنوات بالمرحلة الثانوية، التي تخرج منها بتفوق منقطع النظير، ثم تقدم إلى كلية أصول الدين بالقاهرة، بالرّغم من قبوله في كلية اللغة العربية، وذلك لشغفه وحبه بالقرآن، ويحكي الشيخ عن ذلك فيقول:

“أحببت أصول الدين بسبب القرآن الكريم، ودخلت بعد تفوقي في الثانوية الأزهرية كلية اللغة العربية، فقمت بسحب أوراقي منها لكي ألتحق بأصول الدين، فذهل الناس؛ لأن اللغة العربية كانت مطلوبة في ذلك الوقت، ولأن الدارسين بها يعملون في المدارس والمعاهد مباشرة بعد التخرج، لكن حبي الشديد للقرآن ودراسته، جعلني أؤثره على كل شيء، وأرى فيه متعتي غير العادية منذ الطفولة”.

وفي الحقيقة لم تكن أسرة الشيخ أو عائلته فحسب التي تهتم بالقرآن، وتحرص على تلاوته وتدبره وحفظه، وإنما هذا هو سلوك القرية بأسرها، وديدنها في انتهاج القرآن، وتعود سماع آياته، يقول الشيخ متحدثًا عن مدى تأثره بالقرآن والسبب في ذلك: “كانت لي مع القرآن رحلة عمر، عرفت به نفسي، وأدركت حكمة خلقي، ورجوت رحمة ربي”، ثم يقسم بالله متأثرًا: “والله ما علّمني ذلك إلا القرية التي عشت فيها، فتحت عيناي على ناس لا يعرفون إلَا القرآن وما يُتلى عليهم، والقرية كلها تتبارى فى حفظ القرآن”.

كانت البيوت تستفتح يومها كل صباح على القرآن، وما أن يستيقظ الأطفال حتى يهرعون إلى شيخ القرية بحجرة إلى جوار المسجد، كي يحفظون القرآن، وكان الأهل أشد ما يكونوا حرصًا على تحفيظ أبنائهم القرآن، ولا سيما حرصهم على إلحاقهم بالأزهر الذي كان لا يقبل الطالب، في السنة الأولى من المرحلة الابتدائية إلا بعد ختمه كاملاً لكتاب الله عز وجل، فكانت تلك حياتهم، وهذه منافستهم (وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ).

ويصف حال أهل قريته في رمضان: “ترى الطفل الصغير والرجل الكبير والمرأة في رمضان جميعهم يتلون القرآن، في كل باحةٍ أو بيت من بيوت القرية، حتى إذا ما أوشك الشهر على الانتهاء، وكاد أن يرحل تسمع أصوات البكاء تعج في سماء القرية، ويصعد المؤذن إلى المئذنة البسيطة ويقول (وداعًا يا رمضان.. وداعًا يارمضان)!”

بتلك الإحاطة القرآنية الكاملة، غُرس في قلب الصبي حب القرآن، والأنس بكلماته، والتلذذ بتلاوته، وتدبر آياته، فصار ملازمًا له في الحل والترحال، في الصباح وفي المساء، وفي القعود وفي القيام، لا يفارقه في يقظة أو منام، منفردًا كان أو في اجتماع.

لقد توطن القرآن قلبه، وجرت آياته في شرايينه، مجرى الدم في العروق، فأسلمت له جوارحه، وأذعن له عقله، واتصف به سلوكه، فصار الرجل قرآنيًا في كل صفاته وشتى مناحي حياته.

ولعلّ هذا يُبرز لنا بوضوح، مدى أهمية التنشئة القرآنية للطفل المسلم، وأثرها العظيم في حياته، وحياة الأمة.

حياته العملية

بعد تخرجه من كلية أصول الدين، وحصوله على الشهادة العالية سنة 1954 ميلادية، ثم حصوله على الشهادة العالمية مع تخصص التدريس من كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر عام 1956 للميلاد، بدأ الشيخ الراوي مسيرته المهنية التي كانت حافلة بالعطاء، وذاخرة بخدمة دين الله، فلم تكن تنقلاته من مكان إلى آخر، ومن قُطرٍ إلى قُطر، سوى منهلًا لمزيد من الدعوة، وفيضًا من التفسير والتبيان الدقيق لآيات الله، والعجب كل العجب أنَّ ما من وظيفة شغلها إلا كانت مسلكًا جديدًا لهداية الناس، وتقريبهم إلى القرآن، ورَّدهم عن الضلال، بعد معرفتهم الحق بالله الرحيم الرحمن!

عمل أولًا بقسم الدعوة في وزارة الأوقاف المصرية، فكان خطيبًا مفوهًا، الّتفت حوله القلوب والآذان، ثم أصبح بعدها مفتشًا عامًا في مراقبة الشؤون الدينية، وذلك بعد حصوله على المركز الأول في مسابقة عامة لجميع المفتشين بالأزهر الشريف، ليتم نقله بعدها إلى القسم الفني بمجمع البحوث الإسلامية، ومنه إلى نيجيريا حيث اُبتعث ضمن بعثة دعوية للأزهر الشريف عام 1965 للميلاد، قضي بها خمس سنوات نشر فيها الإسلام، وتعاليمه السمحة، وبيّن مقاصد القرآن وعظيم نفعه للإنسان، حيث قام بتدريس اللغة العربية وعلوم القرآن، ثم دُعيَّ للعمل بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، فانتقل إليها في بداية العام الدراسي (1390-1391 هـجرية) والموافق (1970-1971 ميلادية)، ليمكث بها خمسة وعشرين عامًا، قام خلالها بتدريس التفسير والحديث وعلوم القرآن في كلية اللغة العربية، والتدريس بكلية العلوم الاجتماعية منذ إنشائها، ثم ساهم في إنشاء وتأسيس كلية أصول الدين بالجامعة ذاتها، ومن ثَمّ عمل بها أستاذًا لعلوم القرآن، ورئيساً لقسم التفسير، كما ساهم كذلك في إنشاء المعهد العالي للدعوة الإسلامية وتأسيسه وإلقاء المحاضرات فيه.

قام فضيلته بالإشراف على الكثير من رسائل الماجستير والدكتوراه لطلابه بجامعته التي كان يعمل بها، كما ناقش مثيلها من الرسائل في جامعات أخرى بالمملكة، منها جامعة أم القرى، وجامعة الملك سعود، والجامعة الإسلامية، وأخيرًا يعود إلى موطنه ومسقط رأسه مصر بعد تقديم إستقالته، ليستقر بها.

كان الشيخ هكذا، طوال هذه الرحلة من العمل مع الله، أينما حلَّ نفع، ومتى أقام أنبت وأزهر، مصاحبًا لكتاب الله، ورفيقًا لآياته، لا يتحدث إلا من منطلقه، ولا يستند إلّا لأدلته، ولا يحتج إلَّا ببرهانه، فوُضع له قبولًا في الأرض، ومحبةً في السماء، تجلّت في توفيق الله له حيث أقامه.

القضايا التي شغلته

كان للقرآن الكريم الأثر الأكبر في تشكيل القضايا التي تبناها الشيخ في حياته، والمعارك التي اختار طواعيةً أن يخوضها حتى مماته، فكانت الدعوة إلى الله قضيته الكبرى التى عاش في سبيلها، ومات على طريقها، ومنها انبثقت قضاياه الأخرى، التي كانت تؤرقه كما أرّقت حال الأمة بأسرها، فكانت هي شاغله وهَمه الأكبر، فعاش مدافعًا عنها، ومات في سبيل تحقيقها، وهي:

1- القرآن الكريم دراسةً وتطبيقًا

إن حب الشيخ للقرآن الكريم منذ صغره، منحه قريحةٌ متقدة، وبصيرةٌ ثاقبة، وأكسبه ذكاءً فطريًا فوق ذكائه، ما جعله ينظر إلى القرآن على أنه منهج الله المُخَلّص، وطريقه المُنقذ للبشرية جمعاء من التيه والضلال، فكان يتلمس في كل آية من آياته فرصةً للنجاة، وسبيلًا للأمة كي تحيا بعزةٍ وإباء.

كان الشيخ -رحمه الله- يرتل القرآن بنبرة خاشعة مميزة، وكأنه يرسم لك بدقة ما تجسده الآيات، ويفسرها بطريقة عجيبة، فيربط بين أسباب النزول، ومشاهد التاريخ، وواقع الحال، كأنك تسمعها لأول مرة!

اهتمّ طوال حياته بمدارسة آياته، وبيان مقاصده، وتفسير دلالاته، ونادى بين جموع الأمة بتطبيق منهجه، ولم يكتفِ بالتنظير والإرشاد، وإنما كان يطبقه ما استطاع، وقدم أطروحات عملية كثيرة لأهل الحل والعقد من ذوي الاختصاص.

كان يقول رحمة الله عليه:

كارثة الكوارث أنه أُريد بهذه الأمة أن لا تحكم بما أنزل الله! بأن تبتعد عن القرآن، والحق كل الحق أن فضل الله الأعظم على هذه الأمة هو القرآن (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) فضل الله ورحمته على هذه الأمة ليست في كثرة الإبل ولا البهائم ولا الذهب ولا الفضة ولا البترول!.. فضل الله في هذه الأمة هو القرآن، إن غنانا ليس هو ثروتنا، وإنما عزنا في ديننا (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ۖ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ)!

2- مجابهة الظلم

الإسلام دين العدل، والقرآن جاء ليقر كل صوره في الأرض، وينهي عن الظلم بجميع أشكاله وألوانه، وتوعد الله الظالمين عذابًا أليمًا، وهلاكًا مبينًا، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ)، وقال أيضًا: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا)، من هذا المنطلق كوّن الشيخ فكرته عن رسالة الإسلام الأولى، وهي نشر التوحيد بين الناس بالعدل والحكمة والموعظة الحسنة، ومناهضة الظلم والظالمين في الأرض حيثما كان، حتى لو كان من وقع عليهم الظلم من غير المسلمين، أو كان الظالم من أهل المسلمين، فترى مواقفه كلها تتجلى فيها تلك المضامين، لم يداهن أو يسكت يومًا عن ظلمٍ وقع على أحد شعوب الأمة الإسلامية، كغيره من علماء السلاطين، فعندما سئل رحمة الله عليه عن موقفه من صمت العالم إزاء الحرب على غزة، في مطلع عام 2009 للميلاد، حيث استمر القصف الصهيوني المتوحش على إخواننا الفلسطينيين اثنين وعشرين يومًا متصلة قال: “إن واقع المسلمين في تفرقهم وتفريطهم هو سبب هزائمهم، وإن طوق النجاة وسر النصر يكمن في التكاتف والوحدة والوعي بما يحاك بالأمة من مؤامرات، ودعم المقاومة لأنها شرف الأمة”، كما كان هذا عهده سابقًا من دعم القضية الفلسطينية، منذ نكبتها الأولى عام 1948 ميلادية، فكان أحد أبرز الطلاب الناشطين في الأزهر آنذاك.

وكان دائمًا ما يوجه انتقاداته إلى أولئك الذين يصفون أصحاب الحق في الدفاع عن أرضهم وعرضهم، الذين هدمت بيوتهم واقتلعت شجارهم، بالإرهابيين، وهاجم العلماء والمفتين الذين لم يوجّهوا كلماتهم للمغتصب وبدلاً عن ذلك وجهوها للمظلوم المسلوب حقه، فهم لا يريدون أن يرضوا ربهم، وإنما يريدون أن يرضوا دول الغرب ليتقربوا إلى لعاعة! فكان يسألهم ويقول:”لماذا تسمحون للعالم أن يسمي المدافعين عن الشجرة المقتلعة، والبيت المهدم، والعرض المهدر، والحقوق المضيعة.. تسمحون لهم أن يسموا هؤلاء إرهابيين؟! أليس هذا يدل على أن الأمة الإسلامية غائبة؟! وتعيش في تعاسة لم تمر بها من قبل على الإطلاق؟!”.

واستمر رفضه للظلم في كل الأزمنة والعصور التي عايشها، فقد انتقد حكم عبد الناصر، وزبانيته في السجن الحربي، حيث كان شاهدًا على جرائمهم التي ارتكبوها بحق الموحدين، حتى وصل بهم الأمر إلى جمع المصاحف منهم وحرقها، حتى “يكفوا عن الزنّ” كما قالها الشيخ نصًا عن لسان كبير المجرمين “حمزة البسيوني” رئيس السجن الحربي في مصر آنذاك.

اللواء حمزة البسيوني عسكري مصري من الضباط الأحرار، اشتهر في قضايا تعذيب السجناء.

يقول الشيخ متحدثًا عن تفشي الظلم: “لو أردت أن أعدد لرأيت الظلم كاسح والعدل مُنحّى ويا لها من كارثة حينما يُنحّى العدل حتى في روابط الناس مع أننا قد أُمرنا به، والله أنزل الحديد لا لكي يبطش ويظلم به، إنما أنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وذلك ليعلم الله من ينصره ورسوله بالغيب، فماذا عملتم بالحديد الذي في أيديكم؟ هل أنصفتم به مظلومًا؟ أم ظلمتم به ووقع منكم الاستبداد والظلم والاستعمار؟ أم قتلتم به شعوبكم وليس عدوكم؟!”

وانتقد عهد مبارك، وصرح بأنه كان سببًا في تخريب الديار والعباد، ونهب ثروات ومقدرات الأمة لسنين طوال، وقام بتأييد ثورات الربيع للشعوب العربية وسماها بالثورات النقية، ولا سيما الثورة المصرية منها، وانتقد مناهضيها وغضب لسفك دماء الشباب الطاهر، ودعا القاتلين الظالمين للتوبة الخالصة، وأقر بأن توبة القاتل أن يقتل قصاصًا بقصاص، فذلك حكم الله وعدله، الذي تستقيم به الحياة، يقول:

ظلمت وقتلت تقتل، ومن يحميك سيذهب معك إلى جهنم، الدماء ليست رخيصة ولا يليق اللعب حولها، لا مجاملة في الدماء قط، سيد الخلق لما جاءه أسامة بن زيد يشفع في المرأة المخزومية، غضب عليه غضب لم يرى عليه مثله، وقال: يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها! 

كان دائمًا ما يذكر العلماء بدورهم في إظهار الحق وتبيانه للناس، فيقول: “نحن الذين تحملنا مسؤولية الإبلاغ عن الله، لا نستطيع أن نسكت على ضلال كائن ما كان، الضلال يجب أن يزول والحق يجب أن يسموا”.

كان دائمًا ما يحذر عموم الأمة من عاقبة الظلم، أو الركون إليه فيقول: “الظلم لا، العدل هو الأساس، العدل والحق بهما تستقيم الحياة، إن غاب العدل وقع الظلم، ومن ابتغى الظلم وسار معه أهلك نفسه، لأن النتيجة معروفة (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ)”.

لم يخذل الحق أبدًا في أي موقف من مواقفه، أو حادثة عرضت عليه من حوادث الدنيا ونوازلها، ولم يخش في الله لومة لائم، سئل ذات مرة في في لقاء تلفزيوني له، عن تخاذل وتقاعس علماء الأمة عن الدفاع عن نبي الرحمة المهداة، بعد اعتداء فكري غربي سافر للنيل منه: “أنا أُحمّل الأمة كلها، حاكمها ومحكموها، وأحمل حكامها أولًا، بما هو واقع، فليقبلوا مني ذلك، أطلب من العلماء أن يقولوا ما أنزله الله، وما أنزله الله ليس خافيًا على أحد”، وشدد في حديثه على موقف الحكام، وكونهم أكثر مسؤولية، لامتلاكهم زمام القرار فقال على الحكام أن يستجيبوا عندما نخاطبهم، وسائلهم: “أين أموال الأمة التي جاعت؟ وأين سلاحها الذي أُشتري ليوضع في المخازن والناس يقتلون؟!” ثم قال: “إنني أطلب من الحكام أن يخضعوا لكلمة الله قبل أن يخضعوا لكلمة أمريكا، لا نريد رؤوس تطأطئ أمام أمريكا ونراها تتبجح أمام الحق!”.

3- السلام في ميزان القرآن

نادى الشيخ رحمة الله عليه في كل وادٍ، بأن الإسلام هو دين الرحمة والسلام، لم يأتِ أبدًا ليعادي أحدًا كائنًا من كان، وحمل على عاتقه تبيان ذلك للناس من خلال شرح وتفسير آيات الله في الجهاد، وكيف أن الإسلام جاء لهداية جميع الأنام وإنقاذهم من الغي والضلال إلى نور الحق والرشاد، كما نادى بأنَّ الجهاد لم يك أبدً ليصنع الإرهاب، بل شُرع كي يحفظ البلاد والعباد، حتى الدول الكافرة، وذلك بإقامة العدل ورفع الظلم وكفه عن أي ظالم، أيًا من كان، تطبيقًا لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره”.

كان يقول رحمه الله: “إن السلام لا يمكن أن يتحقق باغتصاب الآراء، والحقوق وقتل الأبرياء، ولا يمكن أن يتحقق بدون العدل قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ  إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) فالأمم تعلو وتسمو بالعدل لا بالظلم.

4- وحدة الأمة وعدم تفرقها

وكانت تلك القضية من أكثر القضايا التي تؤرق مضجعه، فكان لا يتحدث في محاضرة أو اجتماع، أو يلقي خطبة أو درس على شاشةٍ أو مذياع، إلا تحدث عن حاجة الأمة إلى التوحد، ونزع فتيل الفرقة المدمرة بينها، مبينًا ومؤكدًا على أنه لا عز ولا نصر للأمة إلا بوحدتها وعصمتها من جديد، وأن تلتف جميعًا حول راية التوحيد، وأنَّ هذا هو وعد الله في كتابه (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)، محذرًا من النزاع الذى أصاب جسد هذه الأمة فحق لها الفشل الذريع (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)، ووضح أن دين الله يقتضي الإيمان بجميع أنبياء ورسل الله، وعلى المسلمين أن يجتمعوا على ذلك، وألّاّ يتفرقوا عليه فيصبحوا غثاءً كغثاء السيل: (شرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ).

كان دائمًا ما ينبه الأمة إلى المكائد التي تحاك بها ليل نهار من أعدائهم، ونحن في غفلة، فيخاطبهم قائلًا:

لماذا لا تعوا هذا التدبير؟ لماذا لا تعوا ما يراد بكم؟ لماذا لا تعوا من الذين يخططون لإعدام بلدكم؟ وجعلها سلعة مضيعة؟

وعاتبهم على هذا الخزي والهوان فقال: “عتابي على أنفسنا وعلى أمتنا التي لا تعرف قدرها، بما أعطاها الله، وبما أُرسل إليها، عتابي شديد ومرير على أمتنا التي نسيت قدر نفسها، ولم تعرف أن شرفها في وحدتها، وتماسكها بما جاء به الرسل جميعًا، (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) الفتنة والفساد الكبير في الأرض، أول من سيسأل عنه بين يدي الله يوم القيامة من يسمون أنفسهم مسلمين، عيب عليكِ يا أمة الإسلام أن تكوني هكذا! مثلٌ يُضرب للضياع، استحوا من ربكم، استحوا من الآجال التي تأتيكم ولن تترك أحدٌ منكم!”.

كما حث الأمة دائمًا على طلب النصر من الله، وأن لا نبتغي العزة بدونه، حتى لا يذلنا الله، وأن نُسمع آيات الله للعالم أجمع، الذي خسر خسارة لا حصر لها عندما لم تُسمع كلمة الاسلام ، بسبب عجز المسلمون أن يُسمعوا كلمة الإسلام كما يجب أن يكون!

يقول الشيخ رحمة الله عليه: “إن أمتنا يجب أن تحاسب نفسها قبل ان تحاسب غيرها، ويجب أن تنصف الحق من نفسها قبل أن تتطلب إنصافه من غيرها! ويجب أن تتآخى فيما بينها قبل أن تتطلب من الناس أن يقدموا لها إخاءً، أو يقدموا لها ولاءً، عليها جميعًا أن تجتمع على قلب رجلٍ واحد، لتعرف أين يكون شرفها، وكيف تكون مكانتها، وكيف تحفظ عزها، وكيف تستخدم نعم الله في أيديها، لا للشهوات ولا للمفاسد، ولا للهو ولا للعبث، ولكن لنصر الله عز وجل، الذي أعطاها النعمة، ومن عليها بهذا القرآن”.

5- وعي الأمة ويقظتها

كان الشيخ رحمه الله، ينشر الوعي الجمعي للمسلمين أينما حل، فينبههم إلى أهمية إدراك المسلم بقدره وقيمته، وأهمية عمله على ثغره، وأنه لا مناص للأمة كي تستعيد مجدها التليد، من أن يعي المسلمين قدرهم، وقدر دينهم، حتى يصبح كل مسلم عاملًا غير متخاذل، ومجاهدًا لا متقاعدًا، حينها فقط تستطيع الأمة تبيان الحق لسائر البشرية، وإظهار المعاني القرآنية في جوانب الإنسانية، التي لم يغفلها في موطن من مواطنه، أو جانبٍ من جوانبه، فيدركون من خلالها عظمة هذا الدين، وأثره في تحقيق الأمن والأمان للمجتمعات، بدلًا من الانصياع وراء قوانين وضعية جائرة، لا تدرك معنى الإنسانية ولا جوهرها الحقيقي.

يقول الشيخ: “الإنسانية تنتظر منا ما قاله الله لنبيه في كتابه: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) تنتظر منا نحن أتباع هذا النبي الذي يأمرنا بالإيمان بالله وكتبه ورسله، أن تستجير بنا فتجدنا حيث استجارت، يجب علينا أن نزن أمورنا بميزان هذا القرآن، وميزان دين الله، لا ميزان قوم آخرون!”.

رؤيته للإصلاح

كان الشيخ يرى أننا كي نُصلح حال أمتنا، فلا مُصلح لها سوى القرآن، لذا يجب علينا أن نقف وقفة حازمة مع أنفسنا، ونجلس لنعيد تقييم الأمور بموضوعية تامة، كي نضعها في نصابها الصحيح، فُنعطي كل ذي حق حقه، وأن يعمل كل مختص في اختصاصه الذي يفهمه ويعرف فيه، ولا ننساق إلى تحقيق أغراض أعداء الأمة في تجريفها للهوية الإسلامية، وطمث تاريخها وحضارتها، بدعوى التقدم والانفتاح!

يقول رحمة الله عليه: “إن لم نرجع إلى الدين سريعًا، سينتقم منا رب الدين! وتلك وصية الرسول لنا في حجة الوداع فَقَالَ: (إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا كِتَابَ اللَّهِ ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يجب على الجميع أن يعودوا إلى الحق ويخضعوا له، ويدركوا أنهم محاسبون عليه، أمران لا بد منهما لبقاء الإنسان وبقاء الإنسانية، الحق والعدل، إن غابوا جاء الظلم والفساد، والتطاول والإساءة والدمار”.

وكان يرى أن أساليب الدعوة إلى الله أصبحت في عصرنا هذا كثيرة متيسرة، فقد تعددت الوسائل العالمية، وتطورت الآلة التكنولوجية، التي ينبغي أن نوظفها في الدعوة لدين الله، علينا فقط أن نصدق في العمل مع الله، وننهض بأمتنا من كبوتها بالقرآن، فالقرآن يبعثنا دائما لنكون ناهضين عاملين متدبرين، نحاسب أنفسنا على الخطأ، قبل أن يحاسبنا عليه غيرنا.

مطالبه للمسلمين

طالب الشيخ الأمة في رسالة قوية له أن تخاطب الناس بدينها، وأن تخاطب المتجبرين بما أنزل الله حتى لا يظلم الدين معهم، فقد ظلموا أنفسهم وظلموا دينهم، ولهذا الدين نفاذه إلى قلوب الناس، وإن الإسلام لا يحتاج إلى تكلف وإنما يحتاج إلى الصدق، ويسألهم في عجب كيف صارت الأمة بتفريطها في كتاب الله؟! وكيف اجترء عليها أعدائها يطالبونها بتجديد دين الله؟!

جهوده الدعوية

قضى الشيخ حياته كلها في الدعوة إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وكان منهجه الإسلام الوسطي الصحيح، الذي لا مغالاة فيه أو تفريط، تحقيقًا لصفة الأمة في القرآن الكريم (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)، فكان للشيخ عظيم الأثر في نشر الإسلام وتعاليمه وسماحته، وبيان عظمة القرآن الكريم، وتجلية معانيه، واستخراج درره المكنونة، من مصر إلى نيجيريا إلى أرض الحرمين، ما من شبرٍ وطأه قدمه إلا كان له فيه سهمًا وباعًا في خدمة الإسلام والمسلمين، غير ما خلّفه للأمة الإسلامية من إرث فكري وعلمي عظيم وضخم في كتبه التي ألّفها، والتي كانت جميعها تدور في فلك القرآن الكريم، ومنها:

  • الدعوة الإسلامية دعوة عالمية (مجلد كبير).
  • كلمة الحق في القرآن الكريم – موردها ودلالتها (مجلدان).
  • حديث القرآن عن القرآن.
  • القرآن الكريم والحضارة المعاصرة.
  • القرآن والإنسان.
  • الرسول في القرآن الكريم.
  • كان خلقه القرآن (مخطوط).
  • المرأة في القرآن الكريم (مخطوط).

كما أنه قد ترك لنا إرثًا كبيرًا من حلقات البرامج التلفزيونية الكاملة على القنوات الفضائية المصرية والعربية مثل: (مأدبة القرآن) و(هذا ديننا)، و(وقفات مع آيات)، بالإضافة إلى لقاءات إذاعية عديدة، و400 مقدمة تلاوة لإذاعة القرآن الكريم، حيث يلقي الشيخ أولًا الضوء حول آيات الله البينات، ثم يعقبها تلاوة الآيات كل صباح، كما قام بعمل مقدمة للمصحف الوثائقي التي جمعته إذاعة القرآن الكريم، فجمع بين القراء القدامى ووصل بينهم في مصحف متكامل بلا انقطاع.

كما أنه شارك في برنامج التوعية الإسلامية في الحج الذي تقيمه رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية، لنشر التوعية بين الحجاج، لمدة خمسة عشر عامًا برفقة كوكبة من العلماء، على رأسهم الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.

لمّا قدم إلى المملكة كانت أول محاضرة طُلب منه إلقاءها بجامعة الإمام محمد بن سعود، بعنوان: (الإسلام في نيجيريا) فكانت محاضرة قوية، ألقاها الشيخ متأثرًا بحال الأمة الإسلامية وما آلت إليه، واختتمها بقولته الشهيرة:

لقد كنت أسمع صوت الإنجيل يدوي من وسائل الإعلام في إفريقيا، فهل من غيور على الإسلام يسمع الناس جميعا صوت القرآن؟

وبالفعل ما هي إلا أيام معدودة إلا وقد استجاب الملك فيصل لندائه عندما سمعها فأمر على الفور بإنشاء إذاعة القرآن الكريم التي امتد نفعها في كل مكان، وظلت أحاديثه تذاع عليها طوال فترة إقامته بالمملكة.

هكذا كانت رحلته الدعوية كلها عطاء، وتخرج على يديه أجيال تتلوها أجيال، تشربت قلوبهم حب القرآن، وفهمت عقولهم أن تطبيقه سبيل النجاة، وأنّ خطابه هو الأسرع تأثيرًا ووصولًا إلى قلوب الناس، وهدايتهم إلى دين الله الواحد القهار.  

رحيل الشيخ

تُوفي الشيخ في صباح يوم الجمعة الموافق (7 من رمضان 1438 هجرية) والموافق (2 يونيو 2017 للميلاد)، وكأن الله قد اختار له اللقاء، في أفضل الشهور وأحسن الأيام، تكريمًا لمنزلته كحاملًا للقرآن، وكما عاش الرجل حياته كلها في صحبة الأزهر، وخدمته والدفاع والزود عنه، أبى جثمانه الطاهر إلّا أن يودعه، ويكون آخر مكان يطأه في الدنيا، هو الجامع الأزهر الذي صلى عليه فيه الآلاف من العلماء والطلاب وعموم المسلمين.

نعم رحل عنا الشيخ بجسده الطاهر النقي، لكنه أبدًا لم يرحل عنا بكلماته، وأفكاره، وصوت تلاوته، وغضبته للحق، فكأني بأحاديثه وتوصياته لنا بالتوحد وعدم الفرقة، والاستقامة، والعدل، يرن صداها في آذاننا رنًا، فكيف أصبحنا اليوم، وقد استشرى الظلم في البلاد، واستحكم الضلال في العباد، وأصابت الفرقة المسلمين، وصرنا كما قال الشيخ ضعفاء أذلّاء بدون كتاب الله عز وجل، ولكنّاَ لا نزال على الأمل الذي بثه في نفوسنا باقين، على النواجز عاضين متمسكين، فقد قال رحمه الله:

الإسلام شمس لا تغيب، إن بارحت رؤوس قوم أنارت عند آخرين.

فها نحن على ذاك الدرب نمضي يا شيخنا، عسى أن يكون نصر من الله أو فتح قريب. ورحمة من الله عليك وبركاته يا رفيق القرآن، وسلامًا لروحك الطاهرة، حتى يحين اللقاء.

مصادر

معتصم علي

كاتب ومنشئ محتوى إبداعي، طالب علم مهتم بشأن الأمة، وقضايا المسلمين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى