خلاصة كتاب ودخلت الخيل الأزهر

في أكتوبر من العام 1798 دخلت خيول الاحتلال الفرنسي الأزهر وأعمل جند نابليون السيف في شيوخ الأزهر وطلبة العلم، نُهبت الكتب ومزقت المخطوطات ثم اتخذوا من المسجد والجامعة إسطبلا للخيل. حتى تشفع الشيخ “الجوهري” الذي توجه بنفسه إلى نابليون طالبا خروج الخيل من الأزهر، ليأمر نابليون بالخروج من الأزهر ثم ألقى القبض على عدد من المشايخ والطلاب وقطع رؤوسهم.

كانت هذه هي المرة الأولى في تاريخ مصر، التي يهان فيها الأزهر بهذه الطريقة ويؤمر بإعدام شيوخه، وإنها المرة الأولى التي تحتل فيها مصر، وهي بداية عهدنا مع الاستعمار الأجنبي.

وما إن سقطت مصر بعد معركة إمبابة حتى أصبح المحتل وجها لوجه مع الأزهر، الذي قاد مقاومة عنيفة على مختلف المستويات من المقاومة التي قادها الشيوخ الكبار داخل المجالس التي شكلها نابليون لحكم مصر، إلى المقاومة الوطنية العنيفة التي قادها الشيوخ الصغار بالحركات السرية وأعمال المقاومة الشعبية، وتصاعد الصدام الذي انتهى بإغلاق أبواب الأزهر بعد مصرع (كليبر) على يد سليمان الحلبي أحد طلبة الازهر.

نعم فتح الأزهر أبوبه بعد ذلك لأن الحملة الفرنسية انتهت واضطرت للجلاء، ولكن حادثة إغلاق الأزهر عبرت عن طبيعة العلاقة الوحيدة الممكنة بين الاحتلال الأجنبي وقيادة الأمة.

اقتنع الاستعمار أنه ما لم يتم تصفية الدور القيادي للأزهر فلا يمكن لأي استعمار أن يستقر على ضفاف النيل، ولا تكون هذه التصفية بإغلاق أبواب الأزهر أو احتلاله بالخيل، بل بإغلاق باب قيادته الفكرية للأمة وتغريب المجتمع من حوله حتى يصبح نشازا متخلفا بل ويصبح رمزا للتخلف وسببا للسخرية والتندر، وهذا الدور الذي لعبه رجل الاستعمار الغربي “محمد باشا” الملقب “بالكبير” مؤسس مصر الحديثة ومُسلمها فريسة عاجزة إلى الاستعمار الغربي.

ويدور كتاب محمد جلال كشك حول الحملة النابليونية على مصر في دراسة لتاريخ الحملة، ودراسة علاقة الشرق بالغرب الاستعماري الذي بدأ مع هذه الحملة، واختار دخول الخيل للأزهر للرمزية التي يحملها الأزهر ولما لهذه عبارة من وقع يشير إلى عمق الهزيمة التي منيت بها الأمة في الحملة والغزوات العسكرية والفكرية التي تلتها.

الحملة الفرنسية والتاريخ العربي

بدأ كشك كتابه في مناقشة وجود مدرستين لتفسير التاريخ، أولها المدرسة الاستعمارية والتي تجعل من الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون في نهاية القرن الثامن عشر، هي بداية تاريخنا القومي وبداية الفكر العربي، أي بداية تحررنا من الاستعمار التركي وخروجنا من القرون الوسطى.

وتعتمد هذه المدرسة الاستعمارية على عدة مزاعم من هذه المزاعم محاولة عزل الحملة الفرنسية عن التاريخ الإمبريالي، باعتبارها حدث منعزل عن علاقة الشرق بالغرب وارتباطها بالثورة الفرنسية التي نشرها نابليون حيث غزا مع جيوشه في الشرق والغرب، وبالتالي التعامل مع هذه الحملة هو تعامل مع الثورة الجديدة في حينها والتي أخرجت العالم من القرون الوسطى.

يفند كشك هذا الزعم بإرجاعه إلى أصله التاريخي فهذا الادعاء لم يكن شائعا في عهد سيطرة الاستعمار ولكنه حديث متأثر بالفكر الماركسي الذي روج الاتحاد السوفيتي بحجة “المفهوم الأممي” في الثورة الشيوعية أي عالمية الفكرة الشيوعية وبالتالي إتباع القيادة الشيوعية دون اعتبارات وطنية، ولكن هذه الفكرة سقطت بسبب التناقضات القومية.

وتبين أن علاقة استعمارية حقيقية تقوم بين الدولة الشيوعية الكبرى والصغرى ومن ثم يهبط شيوعيو الدولة الصغرى إلى مرتبة العمالة للدولة الشيوعية الكبرى.

ثم يثبت من خلال مذكرات فرنسية أن استيلاء فرنسا على مصر هو جزء من سياسة فرنسا كدولة وليس ظاهرة مرتبطة بالثورة الفرنسية، بل من سياسة الدولة المتطلعة إلى السيطرة على التجارة في البحر المتوسط التي كانت تشرف عليها مصر، وهي بهذا أطماع اقتصادية بحته تؤكد صفة الإمبريالية على الحملة الفرنسية.

الفصل الأول

قبل أن يختل الناموس

يبدأ هذا الفصل بالتساؤل التالي: هل كانت مصر مستعمرة تركية؟ يعتبر كشك أنه من الجهل العلمي وصف السلطة العثمانية بالاستعمار، لأن الاستعمار حالة من التطور الاقتصادي لم تصل لها الدولة العثمانية، حتى أن بعض الإسلاميين يتمنون لو أن الدولة العثمانية وصلت لهذه الحالة لتصبح دولة عظمى إسلامية في المعاير العصرية، لكن هذا التمني في غير محله لأنه لا استعمار ممكن في دولة إسلامية، ولا الأتراك كانوا قادرين على دخول عصر الإمبريالية كإمبرياليين.

وبالتفسير العلمي لا يمكن إطلاق صفة استعمارية على دولة لم تحقق ثورتها الصناعية، ولم تكن تجارتها تشكل شيئا من التجارة المصرية بل كانت تستورد من مصر أكثر مما تصدر لها، وصادرتها لمصر خامات وصادرات مصر لها سلع مصنعة، ولا رؤوس أموال أو استثمارات تركية في مصر، ولم يكن هناك جيش تركي في مصر بل إن وصول حملة عثمانية إلى مصر يعني الحرب مع المماليك، وكانت العلاقة تقتصر على الخطبة للسلطان والدعاء له في المنابر، وحق السلطان في تعيين الباشا (الوالي) وحق الدولة العثمانية في الميري (الجزية).

ثم ذهب كشك إلى شرح الحالة السياسية في مصر بتلك الفترة وتنفذ المماليك والبكوات في مفاصل الدولة وتحكمهم هم ورئيسهم الذي يختارونه والذي يحمل لقب (شيخ البلد) في كل شيء في مصر إلى درجة عزل الباشا والي السلطان العثماني الذي لم يكن يملك سلطة فعلية تذكر في البلد، وكانوا المماليك يستطيعون عزله متى أرادوا فيقولون “قوموا بنا نعزل الوالي”، ويتخيل كشك ساخرا أن تطبق نفس الحالة على مندوب سامي لإحدى الدول الإمبريالية فيذهب رجل بسيط يحمل قرار السلطة المحلية ويقول للمندوب السامي انزل يا لورد فقد عزلت!

واستفاض كشك في شرح حال مصر بتلك الفترة وأقسام المجتمع المصري المتكون من:

– المماليك (وهم السلطة الحاكمة)

– الشيوخ (وهم قيادة العامة، وكانوا من شتى أقطار العالم الإسلامي)

– التجار والأعيان (الميسورين من المصريين والمسلمين)

– عامة المدن (وأهمهم سكان القاهرة)

– الفلاحون (وهم سكان القرى في الوادي الأخضر، وأكثر طبقات المجتمع بؤسا)

– العرب (وهم سكان الصحراء، وهم في حرب دائمة مع الفلاحين سكان الوادي)

وفي هذا الشرح الميسر تفاصيل هامة لمن أراد التعمق في دراسة التاريخ خاصة في تلك المرحلة المفصلية من التاريخ الإسلامي.

الفصل الثاني

نابليون والمهمة الحضارية

سأستعمر مصر!، هكذا قالها نابليون صريحة، سأستعمر مصر وأستورد الفنانين والعمال والممثلين والنساء وإن ست سنوات تكفي للذهاب إلى الهند لو سارت الأمور سيرا طيباً. وقد تحدث نابليون صراحة في مذكراته عن مخططه للاستعمار البشري لمصر من خلال ضبط مياه النيل وتحقيق الرخاء وتضاعف السكان أربع مرات بفعل المهاجرين الكثيرين من اليونان وفرنسا وإيطاليا وبولندا وألمانيا.

لكن الأمور لم تسر كما خطط لها نابليون الحالم بمجد كمجد الاسكندر، لأن الشعب المصري أبناء الأمة الإسلامية رفضوا مهمة نابليون الحضارية، عرفوا دون الكثير من الجدل أنه قادم (لاستعمار مصر)، فقاوموا هذا الاستعمار وأفشلوه.

وعندما قرر نابليون استعمار مصر كنقطة انطلاقة لإمبراطورتيه الشرقية، بدأ بدراسة الإسلام وطلب نسخة من القرآن الكريم وصنفه تحت قائمة الكتب السياسية، وكان كلما اقترب من الساحل الإفريقي استغرق في دراسة القرآن، وطبعا هذا سلوك طبيعي من شخص جاد يريد تحقيق أهدافه. لكن النقطة المهمة هنا التي يشير إليها كشك وهي أن حملات الغزو الفكري الغربية تبذل كل الجهود لنفي الدين ومحاولة البحث عن مكونات لشخصيتنا بعيدة عنه، لكن عندما يواجهون الحقائق ويعدون للحملات العسكرية يعرفون أن الخط الحقيقي الذي يقسم العالم إلى شرق وغرب هو الخط الديني ولا يمكن النظر للشخصية الشرقية بعيدا عن الإسلام.

انطلقت حملة نابليون بما استطاعت براعة نابليون وكليبر أن تحشده من جنود ومدفعية وعلماء ومطبعة وكتب وعملاء ومترجمين ونساء في ثياب نسائية أو متخفيات في زي جنود.

استولت الحملة على جزيرة مالطة ونهبوا كنوز فرسان المعبد ونفوا سكانها، وهنا يعرض مقارنة بين فتح الأتراك عند تفوقهم عام 1523 لجزيرة رودس والذين سمحوا لفرسان “الاسبتارية” بالجلاء عن الجزيرة حاملين معهم أسلحتهم وكنوزهم، وبين الاحتلال الفرنسي الناهب، وطبعا التاريخ زاخر بمقارنات شبيهة لجيوش المستعمرين وأسلافهم الصليبين مع جيوش الفاتحين المنتصرين وتعاملهم مع السكان وأموالهم.

وبعد أن فرغ الغزاة من الاستيلاء على جزيرة مالطة عادوا على السفن يحملون ما نهبوه وهم ينشدون الأناشيد الثورية، وهنا تظهر الازدواجية في الثورة الغربية فهم ثوريون في شوارع باريس وعلى ظهر السفن الفرنسية، لكنهم لا يجدوا تناقض بين التغني بالحرية والإخاء والمساواة وبين ذبح الجنود الشعوب غير الفرنسية ونهب ممتلكاتهم.

توجه الأسطول الفرنسي إلى الإسكندرية، وهنا يروي الكاتب حادثة مهمة وهي قصة (محمد كريم) حاكم الإسكندرية الذي رفض عرض الكابتن (هادري) من الأسطول الإنجليزي بالحماية من الأسطول الفرنسي القادم، وقال له أنه لا إقامة للأسطول الإنجليزي في الإسكندرية وإذا كان الفرنسيين قادمين حقا فنحن من يتصدى لهم، وفي رواية أخرى قال له “إنها بلاد السلطان، ولا دخل للإنجليز أو الفرنسيين بها”، وقد تشبث أنصار نظرية الصراع بين الاستعمارين التركي والغربي بهذه الرواية كدليل على أن معارضة المصريين كانت ولاء للأتراك وليس رفضا للوجود الأجنبي.

وسواء قيلت هذه العبارة فعلا أم أنها أضيفت إلى المراسلة مع القاهرة كنوع من البرتوكول، فإنها تمسح من “محمد كريم” بالسلطة الوهمية للسلطان على مصر من باب إشعار الغزاة بتدويل القضية، ومن باب رفض الاحتلال الغربي وعدم الثقة في كل ما هو أوروبي. سقطت الإسكندرية بسهولة أمام تفوق الأسطول الفرنسي وتعرض (محمد كريم) للتعذيب ثم القتل.

ويستغرق كشك في وصف أعمال التقتيل والمذابح التي قامت بها القوات الغازية كما ذكر في مذكرات الفرنسيين أثناء أداء “المهمة الحضارية”، واستمرت القوات التي تحمل العلم ثلاثي الألوان الرامز للثورة الفرنسية في أعمالها الإجرامية خلال طريقها من الإسكندرية إلى القاهرة.

وثم يتحدث كشك عن الفرق بين الغزوات الصليبية والحملة الفرنسية وهي قدرة الثانية على التملق والنفاق، فلم يسجل التاريخ أن الحملات الصليبية نشرت منشورا تتحدث عن حملها للنوايا الطيبة لسكان البلاد المنهوبة، على عكس الفرنسيين الذين ما أخمدوا مقاومة الإسكندرية بالقتل والحرق حتى وزعوا المنشور الشهير الذي يلعب على العواطف بتملق المسلمين بالبسملة وعبارة التوحيد. والنوايا الطيبة للفرنسيين “المعادين للبابا”.

الفصل الثالث

المدفع والمنشور

يبدأ هذا الفصل بشرح حالة التعبئة التي حصلت في القاهرة لمواجهة الغزاة الفرنسيين ويشبهها بالتعبئة العربية في هزيمة 1967، فقد توجه جميع العامة والشيوخ إلى بولاق حيث المعركة لمشاهدتها وارتفع سعر السلاح. وخليت الأسواق والأحياء من الرجال الذين توجهوا يحملون الطبول والزمامير إلى بولاق.

وهنا يصف كشك حال هذه التعبئة العربية التقليدية التي لم يخرج عنها (الكفاح) العربي حتى اليوم. التعبئة التي تحشد الجميع للمعركة ولا تتيح لأحد أي دور حقيقي في المعركة، تعبئة تتيح للجميع أن يصرخوا، ويهللوا، ويتألموا من أجل المعركة، دون تحقيق مساهمة حقيقية أو تحقيق أي نفع يخدم المعركة. وفي كل الأوضاع يتم إبعاد الشعب عن الفعل الإيجابي الوحيد المطلوب وهو: القتال!، وهذا الإبعاد لا يتم خلال المعركة بل هو نتيجة سياسة طويلة تجعل الجماهير عاجزة.

ثم يستفيض الكاتب في شرح مقاومة الشعب المصري بمختلف أصنافه المذكورة سابقا، وكيف كانوا يثورون في كل منطقة على الجنود الفرنسيين قبل دخولهم وبعد دخولهم للمنطقة ووقعت الثورات تلو الثورات في الريف وفي صعيد مصر في أول ثورة فلاحين عرفها الشرق، فقد كانت مصر بكرا لم تلوث بعد بالفكر الغربي لهذا ثار الجميع ورفض الوجود الأجنبي، كما هو العادة تبدأ الأعمال الانتقامية من الغزاة لإخماد الثورات فوقعت مجزرة دمنهور التي راح ضحيتها نحو 1500 من الرجال والنساء قتلا وحرقا.

الفصل الرابع

وثارت مدينتي

بعد احتلال القاهرة بدأ الغزاة مهمتهم فأخذوا يسرقون الكنوز والخبايا من القصور، ويأتون بالخدم والمهندسين فيدلونهم على الخبايا في قصور أسيادهم، وأخذ الفرنسيين يقبضون على اللصوص “غير الرسمين” بينما يؤدون مهمتهم في النهب والتفتيش.

وثارت القاهرة ليس ثورة اقتصاد فقد كان الطعام متوفرا وكانت الثورة من العامة الذين لا يدفعون الضرائب، ولم تكن ثورة من أجل دعم بقايا المماليك أو السلطان لم يكن أحد من العامة يأمن لهم أو يحاول مساعدتهم، ولكنها ثورة تحررية من المستعمر توصف بالعادة من الغزاة بالتعصب الديني وهنا نقع في هذا الفخ كما يقول الكاتب فنحاول نفي تهمة التعصب الديني عنها، وكأن تعصب الشعوب لدينها أمر غير طبيعي وكأن مقاومة المستعمر أمر شاذ بحاجة إلى تبرير!

أما التنظيم لثورتي القاهرة الأولى والثانية فقد كان في الجامع الكبير المعروف في الأزهر وقد أجمعت المصادر على أنه أنشئ تنظيم ديوان خاص بالثورة أو تنظيم سري عمل على التخطيط للثورتين ولاغتيال كليبر. وقد حافظ هذا التنظيم على سريته.

وقد اجتمع دعاة الحركة في 21 من أكتوبر 1789 لرسم الخطة، واتفقوا على إغلاق الدكاكين ودعوة التجار والصناع للذهاب بجمع كبير من الشاكين إلى مركز القيادة للاحتجاج على الضرائب، وبهذا يحدث الشغب الصدام المطلوب في المدينة، وبهذا كانت الثورة قرار والضرائب ليس أكثر من مبرر وحجة.

ويسهب الكاتب في شرح مدى سرية تنظيم الثورة وإبعاده عن جواسيس نابليون وعن القيادة الرسمية المضطرة للتعامل مع نابليون رغم تعاطفها مع الثورة، وعن الثورات التي تبعت ثورة القاهرة وحرب العصابات التي نشأت في دلتا مصر، والتي توحي بوجود تنسيق بين ثورة القاهرة التي تمتعت بتخطيط كبير وسرية والثورات في المناطق المجاورة للقاهرة.

ثم يتحدث عن وحشية الجنود في إعدام النساء الثائرات بسجن القلعة إما بحد السناكي أو إغراقاً بالنيل دون أن تُسجل حالة انهيار واحدة في صفوف المجاهدات الباسلات، وهنا يتساءل الكاتب كيف يمكن أن يبرر مؤرخ عادل هذا الفعل الشنيع للحملة الفرنسية التي توصف “بالمحررة” للمرأة!

ثم يتحدث عن طريق قوات نابليون من العريش إلى عكا نهبا وتقتيلا، فبعد معاهدة لم تُحترم مع حامية العريش وبعد نهب وسلب لغزة، فتحت يافا بنفس الأسلوب الذي فتحت فيه القدس قبل ثمانية قرون من الحملة الفرنسية، ووقعت المجزرة الشهيرة في يافا التي استمرت لأكثر من يوم في الرجال والنساء والمسيحيين وكل من له وجه إنسان. ثم أنزل الله كرمه في اليوم التالي الطاعون على رؤوس الغزاة.

وهنا يتساءل كاتب سيرة نابليون عن نوعية الرجل الذي يأمر بقتل أكثر من ألف إنسان وفي اليوم التالي يذهب لزيارة الجنود الفرنسيين المرضى ويحمل أحدهم دون تقزز، ولكن لا غريب في هذا في الحضارة الغربية التي لا ترى أي إنسانية كاملة في أي شخص غير أوروبي. وقتلنا عندهم لا يشكل جريمة ضد الإنسانية.

الفصل الخامس

المؤسسات الاستعمارية

إلى جانب عمليات القتل والتنكيل حاول نابليون وضع تنظيمات إدارية تضمن ضبط الأهالي وتنظم سرقة مواردهم، فعمل على إنشاء ديوان أو مجلس من المشايخ ثم طلب منهم جمع ضرائب باهظة من المصريين فطلب المشايخ التخفيف لكن الفرنسيين لم يوافقوا وأجبروهم على جمعها، فكان الديوان جهاز لجمع الضرائب والغرامات، وكانت مهمته الأخرى إخماد الثورات والسيطرة على الشعب.

ويشير كشك أن المدرسة الاستعمارية في تفسير الحملة الفرنسية ترى في الديوان المذكور تدريبا للمصرين على النظام البرلماني وتجربة الحكم الذاتي! كما أنشئ نابليون مجلس وزراء خاص بمصر وعين عليه سكرتيرا عاما للمجلس.

وما من شعب على طول تاريخ الاستعمار تقبّل “إصلاحات” المستعمرين أو نفذها طواعية دون إكراه، ولكن الشعوب تجرعت ذلك في السيف والمدفع، وإن مقاومة المصرين أجربت الفرنسيين على الكشف عن أنيابهم. والتصرف مثل تصرف الأسبان تجاه سكان أمريكا الأصلين.

ويروي كشك قصة محاولة نابليون الحصول على فتوى من الأزهر يأمر من خلالها العامة بحلف يمين الولاء لنابليون، وكيف ارتبك شيوخ الأزهر ثم وقف كبيرهم الشيخ شرقاوي وطلب من نابليون إعلان إسلامه ليتبعوه ويتبعهم العرب من بعدهم، فدهش الجنرال من رد الشيخ.

ويتحدث كشك عن فكرة أن نابليون سمى جيشه الذي توجه لاحتلال بلاد الشام واحتل العريش وغزة ويافا، سماه (جيش مصر) في محاولة لعزل مصرعن باقي الدول الإسلامية وكأن المصريين سينخدعون ويفرحون بانتصارات قوات الاحتلال لأن اسم الجيش (جيش مصر)!

ويدحض كشك ادعاءات تقول أن الحملة الفرنسية علمتنا التخلص من امتيازات موروثة، والمساواة أمام القانون!، في حين أن في فرنسا كان يحاكم النبلاء بمحاكم خاصة لاعتقادهم أن دم النبلاء أزرق  ويختلف عن دم الخاصة!، ولا يوجد في التاريخ الإسلامي شيء يسمى محاكم خاصة بطبقة ما، ولا يوجد في التاريخ الإسلامي امتيازات موروثة وإلا كيف وصل العديد ممن كانوا صبيان مماليك إلى مناصب قيادية عسكرية ودينية!

الفصل السادس

الثورة الخالدة

نشبت ثورة القاهرة الثانية على أثر نقض الاتفاق الذي تم بين الإنجليز والأتراك مع الفرنسيين والذي ينص على جلاء الفرنسيين عن مصر بعد عودة نابليون إلى فرنسا وتولي كليبر قيادة جيش الاحتلال في القاهرة، لكن يفشل الاتفاق ويهاجم كليبر الجيش العثماني الذي اقترب من شواطئ مصر بناء على الاتفاق ليهزم الجيش العثماني في ساعات معدودة. فيعود كليبر إلى القاهرة فيجدها مدينة يحكمها الثوار، ويحتاج إلى شهر كامل من المعارك والحرق والقصف ليستطيع دخولها من جديد على أكوام الجثث والرماد.

ونهبوا ما يستطيعون نهبه بما في ذلك النساء، جيش أجنبي يقتحم عاصمة يقتل ويحرق وينهب ويسبي النساء فيتساءل كشك هنا أين بواعث القومية في ذلك أين يجد أنصار المدرسة الاستعمارية برهانهم على المهمة الحضارية للحملة الفرنسية؟

وأخذ كشك في هذا الفصل ينفي ادعاءات عن الطائفية التي حملتها ثورة القاهرة الثانية، والتي كانت بفعل سياسات الفرنسيين الدافعة نحو إثارة النعرات وبتدخلات عملاء الفرنسيين، ونفي ما اتهمت به الثورة من الغوغائية والفوضى وهو أمر طبيعي في الثورات عموما حي في ثورة فرنسا التي كانت أكثر الثورات غوغائية.

الفصل السابع

الليمونة سحقت الشربتلي

بعد أن بطش كليبر بالمصريين قتلا وحرقا وسبياً وبعدما اعتصر البلاد “كما يعتصر الشربتلي اللمونة” على حد وصفه، حيث أفلسها بالغرامات، وبعدما زرع الأحقاد الممزقة لوحدة الأمة، ظن أن “الليمونة المعصورة” فقدت قدرتها على الحياة، فإذا بالليمونة تعصره وتقذفه إلى الفناء.

حدث في الحادي والعشرين من يونيو عام 1800 وقعت نادرة عجيبة، فتى من حلب في عمر الورد لم يتجاوز 24 عاما، تمكن سليمان الحلبي من قتل كليبر قائد الاحتلال الفرنسي في مصر كمثال على المجاهد الإسلامي وليرسخ المعنى الحقيقي للوحدة الإسلامية المتحدية لمحاولات التمزيق والتفرقة.

ويروي كشك كيف اتجه سليمان إلى الأزهر مركز الثورة وتلقفته خلية من الشوام هناك، وسواء قدم بتوجيهات من التنظيم الثوري خارج الأزهر أم أن من في الأزهر تلقفوه واستغلوا غياب المراقبة عليه لكونه قادم من خارج مصر وبالتالي خارج أعين عملاء الفرنسيين الذين يكتبون التقارير باستمرار عن الأزهر وتلاميذه فالنتيجة واحدة.

وسخر كشك من المحكمة الصورية التي أعدتها فرنسا لسليمان الحلبي ورفاقه، التي استجابت للادعاء ثم حكم على سليمان أن تقطع يده اليمين ويتخوزق ثم يبقى على الخازوق حتى تأكله الطير. وكانت هذه محكمة الحرية وليدة الثورة الفرنسية المجيدة، وذكر كشك في عدل المسلمين في قصة محاكمة ابن عمر بن الخطاب لأنه قتل ثلاثة من المجوس بعد استشهاد أمير المؤمنين في مؤامرة يهودية فارسية وكيف قدم للقصاص ثم عفي عنه أهل المقتولين.

الفصل التاسع

ولله الحمد والمنة

تابع كشك ما تبع اغتيال كليبر من فوضى في صفوف فرنسا ومحاولاتها الأخيرة في تكوين ديوان طائفي يستبعد قدر الإمكان مشايخ الأزهر والشوام، وغيرها من المحاولات حتى أفلست فرنسا وأفلست مهمتها الحضارية وخرجوا من ديار الإسلام صاغرين، وتابع في خواتيم الكتاب ما تبع هذه الحادثة من عواصف فكرية في الفكر العربي المعاصر، في أطروحات الطهطاوي والأفغاني وغيرهم، وختمها في الحديث عن مرحلة “الصحوة الإسلامية” في الفكر العربي التي تلت هزيمة القومية وفكرها في حرب 1967، الصحوة التي تتبنى صيغة الإسلام الحضارية التي تقبل كل ما في الشرق من أديان وطوائف وأعراق، فالإسلام هو التاريخ والثقافة وبطاقة الهوية وهو الخيار الحضاري الوحيد، الصحوة التي ستؤدي إلى تحرير المسلمين وعزة  الإسلام.

أحمد عسَّاف

مدوُن في الشؤون السياسية والثقافية.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. كم نحتاج إلى إعادة قراءة تاريخنا بأقلام نزيهة موضوعية بأقلام وطنية لا هم لها إلا مصلحة الوطن وبنائه وتحديثه وليس تغريبه وأن يكون مجرد ذيل للأمم ..على الأجيال الحديثة وشباب الأمة قراءة هذا الكتاب الذى هتك ستر أتباع الاستعمار وطابوره الخامس من لويس عوض ومن شاكله من المسخ الذىن يريدون للأمة أن تنخلع من تراثها الحضارى الذى نشر النور فى الكون كله .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى