العلم أم الجهاد؟ هل معركة التحرير مرتبطة بالتقدم العلمي؟

الفكرة التي زرعها الاحتلال الإنجليزي في الأذهان: لا تقاوم الاحتلال الآن، ينقصك التقدم، والتطور. وعندها سيكون لدينا القدرة على مواجهة المحتلين. في حقيقة الأمر، من آمن بهذا المبدأ، لم يقم أبدًا بأي معركة تحرير أو انتصارٍ على الأعداء. فالعكس هو الصواب. إن معركة المقاومة هي التي تستنهض الهمم، وتستثير الطاقات، وتبدع العقول وبهذا يمكنها أن تتقدم علميًا.

فنموذج فتح وحماس فيه من العبر الكثير، فحماس اختارت مقاومة العدو، فاستطاعت أن تطور أسلحة وصواريخ، وطائرات بدون طيار. في المقابل، لم تحقق فتح أي إنجاز على مستوى التحرر أو التقدم العلمي. فالحروب -بشكل عام- عبر التاريخ، أكثر أزمنة للتقدم العلمي.

والحرب العالمية الثانية كانت ثورة علمية، احتاجت كل الجيوش المتحاربة أن تطور أسلحتها، ووسائل الاتصال، وأجهزة المخابرات. احتاجت الشعوب هذا التطور لجيوشها حينًا، ولمعرفة كيف يفكر الخصم حينًا، فنتج عنها ثورة علمية في مناحي العلوم. والإنترنت نفسه، كان أساسًا مشروع من مشاريع وزارة الدفاع الأمريكية، حيث حاولوا إنشاء شبكة مركزية، لا يمكن السيطرة عليها أو ضربها بسهولة، فكانت فكرة الإنترنت.

وأثناء الحملة الفرنسية، استطاع المصريون في مواجهتهم أن يصنعوا مدافع من وسائل بدائية. لدرجة أن بعض الضباط الفرنسيين سجلوا في مذكراتهم أن هذا أمرٌ لا يكاد يُصدق. أن يصنع المصريون هذه المدافع من بواقي الخشب والحديد القديم، والحجارة. وأذاقوا الاحتلال الفرنسي مر المقاومة، من تدوير هذه الأشياء البسيطة.

الأمم وحركات المقاومة، تخوض معارك التحرير جنبًا إلى جنب مع حركات التقدم. بينما الشعوب والحركات التي استنامت، ودخلت في دوائر المفاوضات والمهادنات مع المحتلين، هي نفسها التي لم تحقق تحررًا، أو تقدمًا علميًا.

القوة هي الحاكم على مدار التاريخ إلا أن بعض القوى المعنوية لها ثقل

صحيح أن القوة هي الحاكم على مدار التاريخ، إلا أن بعض القوى المعنوية في نفس مستوى القوى المادية، وأحيانًا أعلى منها. وتسمى الشرعية.

مفهوم الشرعية: في كل أمة، وكل مجتمع هناك توافق على قيم محددة، ومعانٍ تعتبر أصول ثقافية ثابتة، يقول المؤرخ الفرنسي:

إن أي حضارة لا تستحق اسم حضارة، لو لم يكن لها عادات النفور من الثقافة المُغايرة. فما يميز كل حضارة أن تكون مختصة بمجموعة من القيم والأصول.

قوة المعنى الروحي، أكبر كثيرًا من القوى المادية. أولها وأبرزها ما سنه الله تبارك وتعالى وأرسل عليه الأنبياء، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “ما بعث الله نبيًا إلا في ثروة من قومه”. وفي حديث هرقل مع أبي سفيان، لما قال له: كيف نسبه فيكم؟ فرد أبو سفيان: هو فينا ذو نسب. قال هرقل: وكذلك الأنبياء يُبعثون في أشراف أقوامهم.

وتذكرون الآية التي تقول: (وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) حماية النبي -صلى الله عليه وسلم- والتي كانت موجودة في نسبه الهاشمي، وفي حماية عمه له، هذا معنى احترام القبيلة، واحترام النسب، وكانت قيمة شرعية أقوى من القوى المادية؛ قبائل قريش جميعًا كانت تستطيع أن تتحد وتقتل محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، لكن الذي منعهم ولفترة عشر سنين، كانت هي هذه الشرعية.

فما استطاعوا في نهاية الأمر إلا أن اتفقوا أن يأخذوا من كل قبيلة رجل، حتى يتفرق دم النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- بين القبائل، فلا يستطيع بنو عبد مناف أن يقاتلوا القبائل جميعًا. وبقوة الشرعية هذه، كنا نرى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو محاصرٌ وأصحابه، دخل معهم في الشعب المُحاصر بعض المشركين من بني عبد مناف.

أراد هشام بن عبد الملك أن يعزل ولي العهد الوليد بن يزيد بن عبد الملك، لم يستطع لأن الوليد له بيعة شرعية في الأعناق. ورغم ما يتوقعه هشام بن عبد الملك، من أن الوليد لا يصلح خليفة إلا أنه لم يستطع أن يعزله. ولما تولى الوليد، وحدث تمرد أو ثورة أو انقلاب، كانت هذه بداية ضعف الدولة الأموية.

ولما انهارت أمام الدولة العباسية خرج الفتى الصغير عبد الرحمن بن معاوية الداخل، خرج من الشام، وعبر الشمال الإفريقي إلى الأندلس، وليس له إلا النسب الأموي، وتلك كانت شرعيته. بها وبما تمتع به من قوةٍ وصبر وجلد وحزم، استطاع أن يبني ويؤسس ملكًا في الأندلس، فأعاد مُلك بني أية في المغرب، بعد أن زال من المشرق. وبهذا النسب الأموي وجد له أنصارًا وأتباعًا.

الأمثلة التاريخية كثيرة، يكفي أن أقول لكم أن الخلافة العباسية ظلت مائة سنة وهي في عصرها الذهبي، ثم تسلط عليها الأتراك والبويهيون، ولكنهم جميعًا لم يستطيعوا، أن يزيلوا الخليفة من منصبه؛ لأنه كان يتمتع بهذه الشرعية، شرعية أنه من آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنه العربي الهاشمي المتولي للخلافة. لذلك مهما ضعف الخليفة كانت الطبقة العسكرية تحكم باسمه. وعندما انهارت الدولة العباسية في بغداد، ولجأ الخليفة إلى مصر، ظل المماليك طوال عهدهم يحكمون فعليًا، مع الاحتفاظ بمقام الخليفة الشرعي. فقوة الشرعية هي التي منعت انهيار دولة بني العباس بعد مائة سنة فقط، فاستمرت حوالي 800 سنة.

الأمثلة التاريخية كثيرة، وإنما أردنا أن نشير إلى أنه إن كانت لنا شرعية في أي موقع من المواقع، فلا ينبغي التنازل عنها تحت أي ظرف، لأن الشرعية في حد ذاتها قوة مؤثرة، وبها قد تُحسم المعارك.

التجربة التاريخية تقول: أن الناس على دين ملوكهم

هل كيفما تكونوا يُوَلى عليكم؟ أم، الناس على دين ملوكهم؟ هل تكون البداية بإصلاح الشعوب، فإن صلحت الشعوب صلح الحكام؟ أم، تكون البداية بإصلاح الحكام فإن صلحوا صلحت الشعوب؟

التجربة التاريخية تقول: أن الناس على دين ملوكهم. أما حديث “كيفما تكونوا يولى عليكم” حديثٌ ضعيف، روي من طريقين، أحدهما موضوع، والآخر ضعيف عن مجاهيل.

لو أن الإصلاح كان من خلال الناس، لظل النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة يدعو الناس ويستكثر منهم حتى يغالب بهم ملأ قريش، وما كانت به -صلى الله عليه وسلم- حاجة إلى الهجرة، أو إقامة دولة إسلامية. لكن حركة النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت دعوة الناس مع التركيز على ملأ قريش، فلما لم يجدها معهم، لجأ إلى الطائف، وهناك ذهب إلى كبارهم وزعمائهم، فلما لم يستجيبوا.

طاف صلى الله عليه وسلم على القبائل، وفي كل قبيلة يُحدث كبارها وزعماءها إلى أن دخل المدينة حاكمًا، ولم يدخلها داعيًا. ولو أنه كان الحل إصلاح الناس ثم الحكام، لكان مطلبه في المدينة فقط أن يدخلها داعيًا. كان بإمكانه أن يطلب حرية الدعوة من الرئيس التوافقي في ذلك الوقت: عبد الله بن أبي بن سلول.

التاريخ يعلمنا أن الحكام أقدر على التأثير في الشعوب، لا أن الشعوب هي التي تأثر في الحكام؛ لذلك قالت العرب: الناس على دين ملوكهم. وقالوا: إن تغير السلطان، تغير الزمان. وقالوا أيضًا: الناس أتباع من غلب. وقال أبو العتاهية:

ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها *** فكيفما انقلبت به يومًا انقلبوا.

وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: “أن الناس في أيام الوليد بن عبد الملك وقد كانت همته في العمارة والتعمير، فكانت همة الناس أيضًا في العمارة والتعمير، فلما جاء عصر سليمان، وكانت همته في الملاذ، فكذلك كانت همة الناس، فلما جاء عمر بن عبد العزيز، وكانت همته في التقوى، كذلك كانت همة الناس.”

فالتجربة التاريخية تؤيد أن الناس على دين ملوكهم، لا كيفما تكونوا يولى عليكم.

هذه المادة هي الجزء الثاني من تفريغ لسلسلة خلاصات تاريخية للكاتب محمد إلهامي.

المصادر

محمد إلهامي

باحث ومؤرّخ في التاريخ والحضارة الإسلامية، كاتب بعدد من الدوريات العربية ومهتم بالشأن الإسلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى