صقر قريش عبد الرحمن الداخل
حدثني المقري المؤرخ الأديب، في مصنفه النادر العجيب، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، فبكى وأبكى، ومن لوعته أشجى، ثم تنهد ومال وأجاب-بعد طول سؤال-: يا من يبحث عن الكنز المفقود، وما آل إليه الأندلس الموعود! لمن يترقب الفجر الوليد، ويتشوف لليوم الجديد، اسمع مني، وافهم عني.
وقبل أن ينبس بحرف أو يخوض في وصف، انعقد لسانه، وغاب بيانه، واشتد نشيجه وانهد بنيانه، وتشابكت أضلاعه وتقوضت أركانه، وقال بلغة الدموع وقلبه متحرق مفجوع:
اعلموا أن دوام الحال من المحال، والدهر قُلب والحرب سجال، فاذكروا التاريخ ومآثر الرجال، فقد كان هناك شاب قدوة مثال، محفوف السبال، يرمي بالنبال، إنه أمة في رجل، ورجل في أمة.
فعبد الرحمن بن معاوية من النجوم الطوالع، وطئت قدماه الأندلس الرائع، فأصبح ذات صيت شائع، لما وفقه الله لبدائع الصنائع، إذ أعانه على بناء مسجد قرطبة الجامع. لله درك يا عبد الرحمن، إني لأذكرك حينًا فأحسبك من أعاجيب الزمان، و أعُدك من نوادر الأكوان، فقد مرت عليك مسرات و أحزان، ولم تزل ملتزمًا بالحدود، ولا زلت أهل كرم وجود، وعنوان بسالة وصمود، امتدت الأيادي تجاهك، والكل يخطب ودك وجاهك، اشرأبت الأعناق إليك، وتجمع أهل الأندلس عليك، فلم يحصل هذا لكونك ابن القادة والزعماء، ولا لأنك حفيد هشام بن عبد الملك سليل الأمراء والخلفاء، بل لما عندك من الخبرة والمهارة والدهاء، ما لو وزع على أهل الأرض لكفى.
مولده ونشأته
ولد عبد الرحمن بن معاوية عام 113 هجرية في دمشق الفيحاء، فالأب معاوية والأم راح السمحاء، تربى في دير حنا شدية الأنداء، و نشأ وترعرع في جو نضير الرواء، فبلغ فيه قمة الأرب بعلوم الفقه وفنون الأدب، فرق حسه وتهذب طبعه، وكثر خيره وعم نفعه، وكان ذا همة علية، فأتقن الحرب والفروسية، وتمتع بالحس الأمني والروح العسكرية.
كانت الأوضاع حينئذ كارثية، فالخلاف-على أشده-بين القيسية واليمنية، وظهور قوة الخوارج والحرورية، أدى إلى سقوط الدولة الأموية في عام 132 هجرية، ففر عبد الرحمن إلى إفريقية، بسبب ارتفاع الرايات السود العباسية، التي لا تبقي ولا تذر، لواحة للبشر، تستأصل الشأفة، تكنس كنسًا وتبلع بلعًا بلا رأفة، فلا يقف لها شيء، ولا يبقى وراءها شيء، ولا يفضل منها شيء، واستمرت المداهمات في كل قطعة، والمطاردات فوق كل رقعة.
ماذا عن قصة الفرار؟
وما الذي حصل بين طياتها من مجازفات وأخطار؟ إنها أحدوثة غريبة، و تفاصيلها مثيرة عجيبة، لو لم تكن مدونة في قرطاس، لقلت ما لها من أساس!
فلما اشتد على عبد الرحمن الطلب، فر بجلده واغترب، فاختفى عدة أيام، بقرية نائية في بداية الشام، وها هو ذا يصور لنا المشهد المريع، وينقل إلينا المنظر الفظيع:
وإني لجالس في ظلمة لتلك القرية تواريت فيها برمد أصاب عيني، وابني سليمان-بكر ولدي-يلعب قدامي، وهو يومئذ ابن أربع سنين، فخرج من البيت لحظة ثم عاد فزعًا باكيًا، فنظرت فإذا هم الرايات السود، فنجوت بنفسي وأخي الصبي، وأمرت أهلي أن يلحقن بي مع بدر. وما هي إلا لحظات حتى سمعنا جلبة الخيل، فسبقناها إلى الفرات، ورمينا بأنفسنا في النهر، وكنت أحسن السباحة، فقطعنا نصف الفرات وجاوزنا الباحة، فتعب أخي ولان، ثم استجاب لداع الأمان، فأسرع لهم وقطعوا رأسه وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فحزنت ومضيت على وجهي حتى وصلت غيضة كثيرة الشجر، فاختفيت ثم خرجت أطلب المغرب”
مضى عبد الرحمن بن معاوية بجناح الجد، فطار من بلد إلى بلد، وصار له في كل منطقة أتباع وجند، فهو من دخل قرطبة بعد موقعة المصارة، فحول المعركة نصرًا بعد خسارة، إذ تناقل الجيش أن للقائد فرسًا للهروب، فأبدلها-بذكائه-بغلة ليقاتل مقبلًا غير مدبر في الجيوب، فرد على أبي الصباح اليحصبي الشبهة الكذوب، وحفز المقاتلين للظفر وتحقيق المطلوب. لا غربة في ذلك فهو قائد جيش، و صقر قريش
بين أبو جعفر المنصور وعبد الرحمن الداخل
لقد أرسل أبو جعفر المنصور العباسي أبا العلاء بن المغيث الحضرمي ليقتل عبد الرحمن بن معاوية الفتي، فقلب له ظهر المجن، وعرضه لأهوال الفتن، فخلفه ذليلًا، وأرداه قتيلًا، ثم أرسل عبد الرحمن رؤوس القادة للقيروان ومكة في موسم حج أبي جعفر المنصور، فأوجس أبو جعفر في نفسه خيفة، وارتعدت فرائصه فتلحف بالقطيفة، وقال لأنصاره ذلك صقر قريش وأنا الخليفة، والحمد لله الذي جعل بيننا وبين ذلك الشيطان حاجزًا منيفًا.
من صقر قريش؟
سئل أبو جعفر المنصور ندمائه يومًا: من صقر قريش؟ قالوا: أمير المؤمنين الذي راض الملك، وسكن الزلازل، وحسم الأدواء، قال: ما صنعتم شيئًا، قالوا: فمعاوية قال: ولا هذا، قالوا: فعبد الملك بن مروان، قال:لا، قالوا: فمن يا أمير المؤمنين؟ قال: “عبد الرحمن بن معاوية، الذي تخلص بكيده عن سنن الأسنة، وظبأة السيوف، يعبر القصر، ويركب البحر، حتى دخل بلدًا أعجميًا، فمصر الأمصار، وجند الأجناد، وأقام ملكًا بعد انقطاعه بحسن تدبيره وشدة عزمه، إن معاوية نهض بمركب حمله عليه عمر وعثمان، وذللا له صعبه، ولعبد الملك بيعة تقدمت له، وأمير المؤمنين بطلب عترته واجتماع شيعته، ومعاوية بن عبد الرحمن منفردًا بنفسه، مؤيدًا برأيه، مستصحبًا بعزمه، هذه قصة رجل فريدة، رجل مطارد، مطلوب الرأس، مشرد يبحث عنه في كل مكان، يستطيع أن يتجاوز كل هذه المخاطر والصعوبات، وينشأ ملكًا وحده، ويسيطر على الأندلس كلها، بل تثور عليه خمس وعشرون ثورة ثم يقضي عليها، ويخضعها، فأي إرادة؟ وأي قوة مستندة على عزيمة كان يملكها هذا الرجل؟”
دخول الأندلس
ولما تغير وضعه وتحسن الحال، استجلب الداخل الأهل والرجال، لكن المطاردة ما زالت مستمرة، فهرب إلى برقة الليبية، ثم بدأ التخطيط الفعلي لدخول الأندلس البهية، و كان من وراءه مولاه بدر، البريء من كل خيانة وغدر، الذي نسق بينه وبين أنصاره بكل رحابة صدر.
ففي عام 140هجرية،تولى عبد الرحمن إمارة الأندلس وتسير شؤونها، وقد رأى قافلة متجهة للشام فأنشد دونها:
آيها الراكب الميمم أرضي أقر من بعضي السلام لبعضي
إن جسمي كما علمت بأرض وفؤادي ومالكيه بأرضي
قدر البين بيننا فافترقنا وطوى البين عن جفوني غمضي
قد قضى الله بالفراق علينا فعسى باجتماعنا سوف يقضي
فيا له من شاعر مرهف الحس وصادق النية، تتسم عواطفه بالوجدان النابض والحيوية، ففي شعره عذوبة وسلاسة، وقدرة على إقناع وكياسة.
وفي عام 272 هجرية، انتقل عبد الرحمن إلى جوار مولاه، وهو في الاثنين والستين من عمره ومنتهاه، وهكذا طويت من سفر التاريخ الأندلسي صفحة بيضاء، تمثل قمة شماء، عنواها الهمة والارتقاء، أساسها السفر والعناء، وثمرتها التشييد والعطاء.
ألم يطارد وعمره تسعة عشر عاما؟ فهل اختفى وقبر! أم أنه وصل إلى الحكم في الأندلس فعز وظهر! كم دام حكمه؟ وهل عم نفعه؟
لقد استمرت إمارته أربعا وثلاثين عامًا، فأسس دولة وبنى نظامًا، توسط العلماء فيه العقد الفريد، و كان تعداد جيشه مائة ألف مقاتل أو يزيد، فقد أرسى قواعد الحسبة والقضاء، وركز على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سواء بسواء، أخذ بأسباب الرقي ومظاهر التقدم المادية، فأنشأ الحصون والقلاع والقناطر الحضارية، ومن البداهة والحصافة أن شاد قصر الرصافة، لتبقى ذكرى بلده أمام ناظريه طوافة، ألم يقل بكل شجن ولطافة:
تبدت لنا وسط الرصافة نخلة تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلت شبيهي في التغرب والنوى وطول التنائي عن بني وعن أهلي
نشأت بأرض أنت فيها غريبة فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
سقتك عوادي المزن من صوبها الذي يسح ويستمري السماكين بالوبل
صفاته ومزاياه
امتاز عبد الرحمن الداخل بصفات قيادية، فيها السياسية ومنها العسكرية، وصفه شيخ المؤرخين الأندلسيين ابن حيان القرطبي:
كان عبد الرحمن راجح العقل، راسخ الحلم، واسع العلم، كثير الحزم، نافذ العزم، لم ترفع له راية على عدو إلا هزمه، ولا بلد إلا فتحه، شجاعا، مقداما، شديد الحذر، قليل الطمأنينة، لا يخلد إلى راحة ولا يسكن إلى دعة، ولا يكل الأمر إلى غيره، كثير الكرم، عظيم السياسة، يلبس البياض ويعتم به ويؤثره، يعود المرضى ويشهد الجنائز، ويصلي بالناس-إن حضر في الجمع والأعياد-ويخطب بنفسه، جند الأجناد وعقد الرايات، واتخذ الحجاب والكتاب، وبلغت جنوده مائة ألف فرس
ومن دماثة خلاله، وجميل خصاله، أنه كان-رحمه الله-ممن يحفظ العهد، ويمضي أثر العقد، فإذا شم ريح الريبة، نكل بمن يستحق فحلت به المصيبة، فمن هؤلاء مولاه بدر الذي جاب معه القفر، وخاض معه البحر، فكان عينه على كل مصر، فكافأه الداخل برفع المراتب، ورشحه لأعلى المناصب، فقدره وأعلاه، واختصه بالرفاه والجاه، لكنه بفظاظة وغلطة بلغ منتهاه، وعاتب سيده ومولاه، إذ فتح ثغره وفاه، فكان عقابه أن جرده مما أتاه، وإلى أقصى الأندلس أبعده و نفاه.
قصة إرادة وطموح
إنها حياة رجل ذو همة وشموخ، ولقد صدق من قال:
وإذا كانت النفوس كبار تعبت في مرادها الأجسام
إنه الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب، استسهل المرء به خوض الحروب، ومضى يشق بنيات الدروب، وسما بروحه إلى آفاق الطيوب.
إذا تعود الفتى خوض المنايا فأسهل ما يمر به الوحول
فيا له من رجل صنع التاريخ! ورسم اسمه بحروف من نور في ذاكرة الأجيال. إنه منارة مضيئة في تاريخ العرب والمسلمين الشهير، تبين ما للعقل المبدع والتصميم الكبير من أثر في تحقيق المنال وتيسير العسير.
رحمك الله يا آيها البطل الهمام، عاشر خلفاء بني أمية في الشام، وصدق من قال:
لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان
وأيم الله، لقد صدقت في النية، وعدلت في القسمة والعطية، وقدمت البرامج الإنمائية وجاهدت في سبيل الله حتى المنية، ولولاك لانتهى الإسلام من الأندلس بالكلية، وصل الله على محمد خير البرية.