مقابلة تبيان مع الدكتور صالح النعامي.. الباحث في الشأن الصهيوني وتقاطعاته الإسلامية والعربية
“إن أكبر إنجاز حققه المستوطنون على مدى أكثر من أربعة عقود على انطلاق مشروعهم يتمثل في جعل هذا المشروع في بؤرة الإجماع الإسرائيلي العام؛ وهذا ما يجعلهم يشعرون بقدر كبير من الثقة بالنفس”.
بهذه العبارة لخص الدكتور صالح النعامي مشروع الاستيطان الصهيوني في أرض فلسطين المحتلة بعد دراسة حثيثة لنشاطه ومراحل تناميه، ثم قراءة لخريطة الأطماع الإسرائيلية في المنطقة وتأثيرها في السياسات والتداعيات التي انعكست على مشهد العالم الإسلامي.
د. صالح الباحث والصحفي المتخصِّص في الشأن الإسرائيلي وتقاطعاته العربية والفلسطينية والإسلامية لطالما قدم إضافات قيّمة لقراءة مشهد الصراع مع “إسرائيل” في بلاد المسلمين.
واليوم ومع رصدنا لتحركات لافتة من الحكومة الإسرائيلية وطموحاتها التي تأبى إلا أن تطفو على مشهد الأحداث مع كل تصادم أو تناغم للمصالح مع جيرانها والتطورات المحلية الخاصة والعالمية الشاملة، ولمحاولة تقديم فهم وقراءة سليمة متزنة لهذه التطورات التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالأمة الإسلامية ووعي شعوبها، نطرح على الدكتور صالح جملة من الأسئلة التي تلخص حقيقة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي من الداخل ومن الخارج، فنرحب به في لقاء تبيان ضيفا عزيزًا وهمة مسابقة ترجو تحرر الأمة ورقيها وازدهارها.
تبيان: ما تقييمكم للأزمة السياسية في إسرائيل؟ ما دلالاتها وما مآلاتها؟
الأزمة السياسية التي تشهدها إسرائيل حاليا هي غير مسبوقة في تاريخ هذا الكيان، وهي تعود بشكل أساسي إلى افتقاد النظام السياسي الصهيوني لمنظومة التوازنات التي يفترض أن تسهم في استقراره. فالأزمة ترجع بشكل أساسي إلى أن رئيس الحكومة الصهيونية بنيامين نتنياهو معني بوجود برلمان وحكومة يساعداه على الحصول على حصانة للإفلات من المحاكمة بسبب قضايا الفساد التي تقرر تقديم لوائح اتهام ضده بشأنها. وهذا ينسف مسوغات تباهي الكيان الصهيوني بـ “ديموقراطيته”.
في الوقت ذاته، تمكن نتنياهو من الحفاظ على شعبيته وحصوله على دعم غير متحفظ داخل حزب الليكود واليمين وقطاعات واسعة من المجتمع الصهيوني رغم اتهامه بقضايا فساد خطيرة يدلل على فساد هذا المجتمع، على اعتبار أن لا يمكن لمجتمع يقوم على الاحتلال إلا أن يكون مجتمعا فاسدا.
كل استطلاعات الرأي التي أجريت مؤخرا تدل على أن الانتخابات التي ستجرى في الثاني من مارس القادم لن تؤدي إلى تغيير موازين القوى السياسية. مع العلم أنه سواء شكل نتنياهو الحكومة القادمة أو منافسه بيني غانتس، زعيم تحالف “أزرق أبيض، فإن الانتخابات القادمة ستمثل مرحلة فارقة في تاريخ الكيان الصهيوني لأنها ستفضي إلى تعاظم مظاهر جنون التطرف الصهيوني؛ حيث أن كلا من الليكود و”أزرق أبيض” يتوعدان بضم غور الأردن والمستوطنات، ناهيك عن رفضهما فكرة الدولة الفلسطينية وطرح القدس على دائرة التفاوض وغيرها من مواقف.
تبيان: ما تقييمك للمشهد الفلسطيني بمختلف مكوناته وكيف أصبح موقع السلطة في هذا المشهد؟
للأسف الشديد، الواقع الفلسطيني قاتم. قيادة السلطة مصممة على مواصلة تشبثها بطابع سلوكها الحالي القائم على التخلي عن أن أي مظهر من مظاهر مقاومة الاحتلال وفي الوقت ذاته تقديس التعاون الأمني مع الكيان الصهيوني، كما يتباهى رئيسها محمود عباس.
وفي المقابل، الحصار المفروض على غزة وتدهور الأوضاع الاقتصادية والإنسانية فيه قلص كثيرا من قدرة حركة حماس هناك على العمل، بحيث بات هناك رابط واقعي وموضوعي بين تفرغ هذه الحركة للعمل المقاوم وبين حرصها على توفير مقومات الحياة للغزيين، على اعتبار أنها تمثل عنوان الحكم هنا. وهذا منح إسرائيل هامش مناورة كبيرة للمناورة بين السلطة من جهة وحماس وحركات المقاومة الأخرى من جهة أخرى، ناهيك عن أن ذلك وفر بيئة تسمح للصهاينة بفرض مخططاتهم في أقل قدر من الممانعة الفلسطينية. مع العلم أن مسؤولية السلطة التي تتعاون مع الاحتلال في تجفيف بيئة المقاومة في الضفة الغربية لا يمكن مقارنتها بمسؤولية أي طرف فلسطيني آخر.
تبيان: هل هناك بالفعل مشروع مصالحة يجري بين حماس والسلطة وكيف سيكون مصير غزة مع تطورات القضية بحسب رأيكم؟
في تقديري الحديث عن المصالحة والرهان على تحقيقها مضيعة للوقت. فهناك تباين فج في توجهات طرفي الصراع. فمحمود عباس غير مستعد لدفع ثمن الجلوس تحت سقف واحد مع أي فصيل فلسطيني يتبنى خيار المقاومة، لأنه يعي تماما أن إسرائيل حينها ستحدث تحولًا على التعامل معه. مع العلم أن عباس غير مستعد حتى للتوافق على مشروع وطني يمنح أفضلية للمقاومة الشعبية على حساب المقاومة المسلحة، لأنه يعي تماما أن إسرائيل لا يمكنها أن تقبل ذلك أيضا.
تبيان: ماذا عن صفقة القرن، إلى أين وصلت مراحلها؟ وكيف ترون مستقبلها؟
أعتقد أنه قد تم استهلاك الكثير من الجدل حول ما يعرف بـ “صفقة القرن” بشكل غير مبرر. فالصهاينة وإدارة ترامب يعون تماما أن فرص قبول أي طرف فلسطيني أو عربي بها تؤول إلى الصفر، بغض النظر عن هوية هذا الطرف الفلسطيني أو ذاك، لأن الأفكار التي تضمنتها “الصفقة” كما تدل التسريبات المتواترة والمتناقضة أحيانا بشأنها تعني بصراحة التسليم الفج للصهاينة بفلسطين.
من هنا، فإن هدف ترامب والكيان الصهيوني من الحديث عن “صفقة القرن” يتمثل في تقديم بنود الصفقة مع علمهم المسبق برفض الفلسطينيين لها، مما يمثل مبررًا لإسرائيل بضم الضفة الغربية أو على الأقل منطقة “ج” التي تشكل أكثر من 60% منها لها، وبعد ذلك يعلن ترامب تأييده للضم، تماما كما فعل باعترافه بضم الجولان للكيان الصهيوني.
تبيان: كيف هي تطلعات الشعب الفلسطيني للحراك الثوري المتصاعد في عدة محطات في العالم الإسلامي وهل الحراك الشعبي الإسلامي أمل في التحرر من الاحتلال الإسرائيلي؟
لا خلاف على أن الفلسطينيين وحدهم ليس بوسعهم إلحاق الهزيمة بالمشروع الصهيوني. فبالإضافة إلى ميل موازين القوى الكاسح لصالح الصهاينة، عسكريًا، تقنيًا، اقتصاديًا، فأن هذا الكيان يحظى بشبكة أمن دولية، تتمثل في الدعم غير المتحفظ من الولايات المتحدة، القطب الأوحد في العالم.
وهذا يعني أن الأمة موحدة فقط بإمكانها إلحاق الهزيمة بهذا المشروع. ومن الواضح أنه لا يمكن للأمة أن تضطلع بهذا الدور في ظل وقوع الكثير من دولها تحت حكم نظم مستبدة كل ما يعنيها البقاء الشخصي للحكام وعائلاتهم، مع كل ما يعنيه هذا من التخلي عن متطلبات النهضة، مما يعني أن ميل موازين القوى السائد سيظل لصالح الصهاينة. ومما فاقم الأمور خطورة أن أزمة الشرعية التي تعاني منها الكثير من أنظمة الحكم العربية وحاجتها إلى إسناد قوة دولية، سيما الولايات المتحدة دفعها للتقارب مع الكيان الصهيوني على اعتبار أن هذه الخطوة تمثل أقصر الطرق إلى قلب ساكن البيت الأبيض.
من هنا، فإن الحراك الثوري المضطرب في الكثير من دول المنطقة والهادف إلى التخلص من منظومات الحكم القائمة يكتسب أهمية استثنائية بالنسبة لمشروع التحرر من الاحتلال، حتى لو لم يكن هذا هو هدفه الأساس، على اعتبار أن استعادة الشعوب إرادتها الحرة يعني دفع نخب الحكم الجديدة لتبني قضايا الأمة التي تحيا في وجدان الشعوب، وعلى رأسها أولوية تحرير فلسطين.
تبيان: هل هناك دور إسرائيلي وتغلغل من جانب تل أبيب عبر ممثليها نحو صهينة مخرجات الحراك الثوري وإعادة إنتاج نخبة عميلة؟
أولًا علينا أن نتذكر أن مسوغات تفجر الحراكات الثورية منطقية وطبيعية، فهي جاءت للاحتجاج على الفساد ونهب ثروات الشعوب إلى جانب أنها تعبر عن رفض للاستبداد. لكن هذا لا يحول دون تمكن بعض المرتبطبين بالأجندات الأمريكية والصهيونية من التسلل ومحاولة التأثير على التوجهات العامة للجمهور. فعلى سبيل المثال هناك من يستغل الرفض الشعبي المبرر تماما لوجود إيران وتأثيرها في العراق ولبنان لتسويغ الدفاع عن أمريكا وحتى الصهاينة وتبني خطابهما من قضايا الأمة، وللأسف هذا حدث ويحدث. لكن فرص هؤلاء في النجاح في النهاية ستكون ضئيلة، لأن بوصلة الشعوب ستظل دائما في نفس اتجاه قضايا الأمة، ولا يمكن تزييف الوعي الجمعي للأمة وشعوبها.
تبيان: ما هي معالم المرحلة الجديدة في التطبيع العلني بين إسرائيل ودول الخليج؟
للأسف هناك تجميل لطابع العلاقة المتطورة بين إسرائيل وعدد من الدول العربية. فالحديث لا يدور عن “تطبيع” بل عن شراكات إستراتيجية في كثير من الأحيان. فتطبيع العلاقات بين الدول لا يعني أن يكون هناك تعاون إستراتيجي وتبادل معلومات أمنية واستخبارية والتوافق على مواجهة عدو مشترك.
من أسف، فإن واقع العلاقة القائم بين أنظمة الحكم العربية والكيان الصهيوني هو شراكات إستراتيجية في مواجهة قوى الأمة الحية تحت شعار محاربة الإرهاب والتطرف …الخ.
المفارقة أن هذا يحدث في الوقت الذي تسيطر على إسرائيل حكومة تمثل غلاة اليمين الديني المتطرف في نسخته الأكثر هذيانًا.
وهذا الواقع يبرز أهمية الحراك الثوري ويدلل على أهمية أن يشمل كل العالم العربي لكي يتم وضع حد لهذه المهزلة.
تبيان: ما قراءتكم لمستقبل التطبيع العربي الإسرائيلي؟
في تقديري أن هذه مجرد مرحلة قصيرة في حياة الأمة وهذه النظم لن يكتب لها البقاء، وستطوي شعوبنا هذه الصفحة السوداء من تاريخها. مشكلة هذه الأنظمة أنها لا تبني منظومة علاقاتها الدولية، وتحديدًا مع الكيان الصهيوني في إطار مشروع وطني أو قومي جامع، كما هو الحال بالنسبة لتركيا أو إيران، بل من منطلق المصالح الشخصية لقادة هذه النظم، وهذا يعني أنه لن يترتب على التطبيع عوائد إيجابية على مصالح الأوطان، حتى عندما نتجاوز المنطلق القيمي والأخلاقي وقبل ذلك الديني.
تبيان: كيف سيكون مستقبل العلاقات التركية الإسرائيلية في ضوء التطورات الأخيرة؟
مسار العلاقة التركي الإسرائيلي مسار تصادمي، ليس لأن هذا قرار تركيا، بل لأن الكيان الصهيوني يتخذ موقفًا عدائيًا مع كل دولة عربية أو إسلامية تملك مشروع وطني أو قومي واعد، على اعتبار أن هذا يسهم في تباين المصالح وتضادها. وهذا بخلاف ما عليه الحال مع نظم الحكم العربية التي تنطلق في علاقاتها الدولية من منطلق مصالح النظم الضيقة. لذا نجد أن إسرائيل عمدت إلى تشكيل تحالف إقليمي يضم: اليونان، قبرص، نظام السيسي، الذي يمثله “منتدى غاز الشرق الأوسط”، لمحاصرة الحضور التركي. طبعا إلى جانب إفادة إسرائيل من التعاون السري مع دول خليجية أخرى. وبالمناسبة إسرائيل ترى في الاتفاق الليبي التركي الأخير خطرًا جيوإستراتيجيًا على مصالحها، لدرجة أن أصوات تعالت في تل أبيب مطالبة بالدفع نحو إسقاط حكومة الوفاق الوطني في طرابلس، من أجل إسقاط هذا الاتفاق.
تبيان: كيف تتوقعون مسار العلاقات الأردنية الإسرائيلية بعد قضية الباقورة والغمر؟
العلاقة بين الكيان الصهيوني والعائلة المالكة في الأردن علاقة طويلة وراسخة. فكل الحديث عن توتر في العلاقات بين الجانبين هو مجرد ذر للرماد في العيون. هناك تحالف إستراتيجي وتعاون أمني عميق يغطي الكثير من المصالح بين الجانبين، وللأسف يخدم بشكل أساس الكيان الصهيوني. إسرائيل ترى في النظام الملكي في الأردن منطقة عازلة “BUFFER ZONE” تحول دون تشكل الجبهة الشرقية من جديد. وفي الوقت ذاته، فإن النظام الأردني يرى في العلاقة مع الصهاينة بوليصة تأمين له، تماما كما حدث في مطلع سبعينيات القرن الماضي عندما هددت إسرائيل سوريا عندما حركت قواتها صوب الأردن. طبعا هناك الكثير من الأدبيات العربية والإسرائيلية والأجنبية التي تقدم تفاصيل موغلة في الدقة لتاريخ العلاقة بين الجانبين وواقعها.
تبيان: بما تنصحون الشباب في العالم الإسلامي في ظل هذه التطورات التي تتصل اتصالًا مباشرًا بمستقبل فلسطين والمنطقة برمتها.
الالتزام تجاه فلسطين وقضيتها هو التزام ديني وأخلاقي وقيمي، ويفترض أن يكون العمل على تحريرها من أولويات المسلمين حيثما حلوا. لكن هذا يتطلب أولا من جماهير الأمة وعلى رأسهم الشباب لعب دور رئيس وحاسم في إيجاد بيئات سياسية في بلدانهم تسمح ببناء مشاريع نهضوية تكون ذات قابلية للتكامل، بما يمكن هذه الأمة من العودة لتفرض ذاتها وتستعيد زمام المبادرة، وهذا يمثل أهم متطلبات تغيير واقع فلسطين وفي الأمة بشكل عام.
تبيان: أمنية يتمناها د. صالح لم تتحقق بعد ويرجو تحققها خلال مسيرته في الحياة التي نثر فيها من آثار همته على صفحات التواصل بشكل يستحق الثناء.
أسمى أمنية لدي أن أحيا إلى يوم تشرق فيه الشمس على أمتي وقد تخلصت من نظم الاستبداد. وهذا أهم ما يحرك مناشطي، سواء عبر تأليف الكتب، وإعداد الدراسات وكتابة المقالات والإسهامات على مواقع التواصل. وأسأل الله القبول.