التدافع القيمي والخلاص البشري
منذ بداية التحولات الكبرى التي شهدها العالم في العصر الحديث، والتي كان للرجل الغربي الدور المحوري في توجيهها، بعد الأحداث التي سبقت وتلت الثورة الأوروبية؛ وفي ظل غياب حضاري للمسلمين كقوة عالمية مقابلة، استأثر الغرب بصناعة الإطار القيمي العالمي وتحديده، ثم تقديمه كنموذج وحيد نهائي للبشرية، مستعينًا بالقوة المسلحة كعامل أساسي لفرضه، وبالثروة المادية المنهوبة من بقية العالم وتحويلها الصناعي كرافد داعم لفرضية تفوق النموذج الغربي؛ حيث تقف وراء منظومته القيمية آلة علوم مادية وتسلح وإعلام مثَّلت القبضة الممسكة بالصوت الذي تساق به البشرية نحو العدم .. فهل من خلاص؟
واقع البشرية
قد يعجب البعض إذا قيل إننا نعيش اليوم عصر الانحطاط البشري. نعم، ولما لا يكون العجب من هذا الوصف؟ وقد اخترع الإنسان الطائرات والصواريخ والمكوك الذي يطوف في الفضاء، وقد بلغت الصناعة المجهرية الميكرو ثم تجاوزته للنانو، وقد ربطت أجهزة ومواقع التواصل بين أقصى الأرض وأدناها. نعم، إنه ركام من الخبرة المادية الكبيرة والدقيقة، لكن يوازيها انحطاط قيمي عميق في ضمير البشرية، أدى الى بؤس هذا الإنسان المعاصر الذي يسير نحو العدم محملًا بصخب أجهزته الحديثة.
إن البشرية، ومنذ أن هيمن الرجل الأبيض على قيادتها، تنتقل بفعل التطور من مستوى من الظلام القيمي إلى مستوى آخر أكثر وحشية؛ فقد تمركز الإنسان الغربي في البداية حول نفسه وألَّهَ ذاته البشرية بعد إلحاده بالذات الإلهية، أبَّان الثورة على الدين الكنسي ورهبان الكنيسة في أوروبا، ثم مع اكتشافه الإمكانات والطاقات المتاحة عبر تحويل المادة صناعيًا، انتقل الإنسان الغربي إلى تأليه المادة، وقد اكتشف الإنسان بعض قوانين الطبيعة واستطاع تسخير جزء منها لخدمته، فأعلن باستكبار غاشم أن الانسانية ما عادت تحتاج إلى إله ولا إلى دين؛ فالآلة تحقق كل ما يريده.
لكن، وفي نشوة الاستكبار تلك، أصبح البشر أدنى من الآلة المنتجة التي صنعها؛ لأن إمكانية الإنتاج عبر الآلة أكثر دقة وأقل كلفة في عصر التحديث، الذي تحولت القيمة فيه إلى مادة، والإنسان إلى شيء؛ بل انحصر تفسير القيمة في المادة والمادة وحدها؛ وهيمَنَ هذا التفسير المادي على كل شيء، التفسير المادي للعلوم الطبيعية وللتاريخ ولعلم النفس ولعلم الاجتماع والنظم الاجتماعية، التفسير المادي لأصل الخلقة, ومآل الإنسان. فقدَّس الإنسان المادة، بل عرف نفسه أنه كومة مادية كيميائية ملقاة في كون مظلم بلا غاية، سوى غاية الاستهلاك، الاستهلاك المادي النهم.
ثم جاء عصر ما بعد الحداثة؛ حيث تنفك المعاني عن مدلولاتها، ويضيق فيه صدر الرجل الأبيض ببقايا الفطرة، إنه عصر الهوية الجنسية الثالثة، حيث لا ذكر ولا أنثى، بل هوية جندرية حسب تلاعب الأهواء والتلبيس، لتتم الدعاية على ملأ الإعلام العالمي للفوضى الجنسية العارمة، لا في مستواها الفظيع بفوضى الإباحية الغربية التي أحالت أكثر من نصف المجتمع الفرنسي مثلًا لمجهولي آباء، بل فوضى أخطر باكتفاء الرجال بالرجال والنساء بالنساء، في حرب هوجاء على طبيعة الذات الإنسانية وما تبقى من فطرتها.
وبين الزحام المادي في الغرب، تتحرك قطعان بشرية صغيرة من اليمين المتطرف، رأت أن الحل في إحياء العنصرية الصليبية كهوية دينية، في قارة كانت الكنيسة أبرز عنصر من عناصر تخلفها، وكانت سببًا أساسيًا من أسباب الثورة الإلحادية فيها، والفصام النكد الذي تعيشه البشرية اليوم، في دائرة مفرغة من التخبطات.
يحدث هذا، والمركب البشري بقيادة الرجل الغربي يسير نحو عدمية موحشة، بأمراض فردانية وجماعية منهكة، لكنه يسير والآلام مخدرة بهيجان من اللذة، واستثارة لا تنقطع للغرائز، وقيود من الشهوات البهيمية المشاعة والملهيات، تعمي الإنسان المعاصر وتحجب كل من أعطى قياده للغرب عن تدبر خطى أقدامه.
النموذج القيمي المهيمن
قضت محكمة أمريكية بالسجن على الأمريكي “أدولفو مارتنيز” إثر تقطيعه وحرقه عَلَم المثليين في ولاية آيو، وحكم عليه لما يقارب 16 سنة تفاصيلها كالآتي: 15 سنة سجن بتهمة الكراهية بعد حرقه علم الشواذ، وسنة سجن لاستخدامه المتهور للنار، و30 يوم سجن بسبب المضايقات التي قام بها. وقد واعترف “أدولفو مارتنيز” أمام وسائل الإعلام بأنه انتزع العَلَم من باب كنيسة داعمة للمثليين، وأحرقه بغضًا للشذوذ.
نعم، إنه الانحراف الفطري المدعوم بترسانة من القوانين المحلية والدولية المُؤسساتية، بل حتى من بعض الكنائس، إنها القوانين التي تهدد باستخدام إرهاب الدولة لكل مَن تدفعه فطرته لإنكار المنكر، بالسجن والعقوبات المختلفة.
وقد افتخر الرئيس الأمريكي “جو بايدن” مؤخرًا يوم 13-12-2022، بتوقيع القانون الذي طالما انتظره هو وحزبه، والذي يتمثل في قانون الحماية الفدرالية لزواج الشواذ في أمريكا، ورفع علم المثليين على أسوار البيت الأبيض ولونت الأضواء جدرانه بألوان الشذوذ احتفالًا بالمناسبة وتخليدًا لها.
إن هذا الحصار الذي تشهده الفطرة الإنسانية لا ينفك عنها حتى في اللحظات التي تدفع الأزمات بها إلى إمكانية الإفاقة. ففي أثناء تفشي وباء كورونا في إيطاليا، والذي حصد أعدادًا هائلة من السكان، ولتخدير الأوجاع والمخاوف التي يعيشها الإيطاليون، والتي قد تحيي فيهم الالتجاء إلى الخالق وإيقاظ الفطرة، أعلن موقع إباحي أمريكي فتحه باب الولوج المجاني للايطاليين طيلة فترة الحجر الصحي؛ حتى تزهق الأرواح منغمسة في خدر اللذة وطغيان الشهوانية، والهروب من آلام الوباء إلى الإباحية.
فضلًا عن برامج زرع السعار الجنسي المنتشرة في المؤسسات الأمريكية والأوروبية، والتي تختص في نشر تعليم “الثقافة” الجنسية بين الأطفال، والتي يتم تضمينها إقناعهم بحرية التحول من إناث إلى ذكور، والعكس؛ ودعم العمليات الجراحية المؤدية للغرض، وترويج مضادات النمو التي تبطئ من علامات البلوغ في الجنس المراد تغييره، وكسر كل الحواجز الأسرية أو المجتمعية التي يمكن أن تقف أمام هذه الغايات.
ولا يقتصر زحف الحرب على الفطرة على العالم الغربي؛ فقد كان العمل -ولا زال- قائمًا بجهود كبيرة، لإفساد فطر سكان العالم الإسلامي، الذي يضم كتلة سكانية هامة، مستعينين بالنخب العميلة المنسحقة أمام قيم الغرب، أو بالنخب التوافقية التي ترحب بكل ما يرضي الغرب عنهم، حتى وإن كان في ذلك المهالك للشعوب.
يقف وراء الحملة التي تلقي خيوطها على المسلمين بالأساس مؤسسةُ الأمم المتحدة وفروعها، والجمعيات التي تتستر بشعارات مضللة، والجمعيات النسوية وغيرها…، والعمل دائر على دعم وضع القوانين التي تسمح للفوضى الجنسية أن تتمكن من شباب المسلمين، وحكومات العرب تستجيب لبرامج الغرب، بكل رحابة صدر.
الخلاص البشري
إن البشرية اليوم بإرثها اللاقيميّ المختل، ومعيارها المادي، تهوي في الجب الساحق نحو العدمية، وتتضاعف أمراضها، وها هي تستسقي من ذات النبع السام في كل مرة طلبًا لشفائها. لكن أين الخلاص؟
أما الخلاص؛ فهو بإحياء المنظومة القيمية الفطرية، الفطرة التي هي أساس قبول الحق، والأخذ بهذه البشرية إلى سبيل الرشاد، ورد فساد الإنسانية لخالق الإنسان ومنهج الخالق المصور العالِم بدواء مخلوقاته، والعودة من تيه الوضعية المادية إلى آخر إرسال من السماء تلقته الأرض، الرسالة التي أعلنت حرية وكرامة هذا الكائن البشري.
وهذه المهمة، وإن كانت بسيطة الفكرة؛ لكنها عميقة عمق تاريخ الصراع بين الخير والشر والحق والباطل، في تاريخ وضمير البشرية، إنها معركة لا يخلو منها زمان وإن اختلفت الظروف.
أما زماننا هذا، فقد رصدت الأسلحة وجيشت الجيوش لحرب من يحاول إحياء ضمير البشرية، وأسست المؤسسات وزرعت الشاشات بوجوه إعلامية لمحاربة فكرة الإحياء، ورصعت مناهج التعليم وتمت قولبتها؛ لإنتاج عقول مطيعة وقابلة للسيطرة والتوجيه.
ولضمان عدم خروج القطعان البشرية من القبضة المادية؛ لا بد من وجود معارضة من داخل الصف، لكن بخلفيات مادية، أصوات تنادي بحرية التمرد على التراث، والحق في إبطال النصوص الثابتة، والثورة على جمود الدين، والتجديد بإبطال الأحكام، والتحلل منها، نزع الحجاب، النسوية، حرية الإجهاض؛ وغيرها من فقاعات التظليل الداخلي بأسماء محلية.
وحين أدركوا أن الإسلام هو رأس الحربة في عملية الإحياء، وجربوا الصراع المباشر معه ففشلوا، عملوا على إيجاد دعاة وجماعات وظيفية، يخاطبون شباب الأمة بخطاب يخرجهم من دائرة التأثير في المهمة العالمية لهذا الدين، مهمة الإحياء؛ إلى مسارات وهمية تضيع فيها الجهود والأعمار.
ووجدت مدارس تربي المريدين على التوافق مع المحددات الاستراتيجية لفساد الغرب، وتقليم المخالب بزرع قبول الآخر، وما الآخر إلا هذا الذي يريد إبادة أهل الحق، بل القضاء على الكائن البشري بصورته الآدمية، وتحويله إلى مسخ.
والواقع يدل على أن العالم اليوم لا توجد فيه منظومة قيمية متماسكة، يمكنها أن تواجه الحرب على الفطرة البشرية، فقد وقع تطويع كل المعايير لمعيار الغرب، بقيت المنظومة القيمية لدين الإسلام، التي يتحتم على حامليها خوض غمار المعركة، بالانطلاق من الوحي كمعيار مركزي.
{وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض}