ملخص كتاب ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين أبو الحسن الندوي

فضائل العلَّامة أبو الحسن الندوي جمَّة. وقد أثمرت جهوده آثارًا عظيمة، أهمها تطوير جامعة ندوة العلماء، وتأسيس معهد الدعوة والفكر الإسلامي في الهند، وفي جامعة أكسفورد، وفي بروناي. ودعا غير المسلمين في الهند وخارجها، وشغل مناصب مؤثرة كثيرة، وألَّف ما يزيد على مائتي كتاب بعدة لغات، وترجمت إلى عدة لغات. وقد لاقى كتاب “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين” ثناءً عظيمًا من أهل العلم والفكر. ألَّفه عام 1945م، ونُشر في مصر.

الباب الأول: العصر الجاهلي

ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين

لم يكن انحطاط المسلمين وانعزالهم عن قيادة الأمم حدثًا عاديًا، بل كان حدثًا لا مثيل له في التاريخ، مأساة إنسانية لم يشهد التاريخ أقبح منها. ولو تخلى العالم عن العصبية، وفكر بحساب صحيح؛ لكان يوم انحطاط المسلمين يوم عزاء، ولتبادلت شعوب العالم التعازي.

وبالعودة بالزمن إلى القرن السادس، نرى المسيحية أصبحت نسيجًا من معتقدات وتقاليد لا تغذي الروح، ولا تحل معضلات الحياة، بل أصبحت بزيادة المُحرِّفين تحول بين الإنسان والعلم، وأصبحت مع الوقت ديانة وثنية. وبلغ الانحلال الاجتماعي غايته في الدولة الرومية والشرقية، وذابت أسس الفضيلة وانهارت دعائم الأخلاق. وضاعفت الحكومات الضرائب؛ مما أدى إلى ثورات هلك فيها كثير من الناس.

فمصر كانت من أشقى البلاد في القرن السابع بالنصرانية وبالدولة الرومية؛ فلم تستفد من النصرانية غير الخلافات والمناظرات التي أنهكت قوى الأمة العقلية والعملية. ولم تلقَ من الدولة الرومية سوى الاضطهاد الديني والاستبداد السياسي. وجارتها الحبشة لم تكن ذات روح في الدين، ولا ذات طموح في الدنيا، فقد قضى مجمع نيقية أن ليس لها استقلال بأمورها الدينية، بل تابعة للكرسي الإسكندري.

أما الأمم الأوربية الشمالية الغربية؛ فكانت بمعزل عن قافلة الحضارة الإنسانية، بين نصرانية وليدة ووثنية شائبة، ولم تكن بذات رسالة في الدين، ولا بذات راية في السياسة، ليل حالك من القرن الخامس إلى القرن العاشر. وكان في أوربا اليهود الذين يعانون من التدهور الخلقي والفساد الاجتماعي، حدثت بينهم وبين المسيحيين حوادث عمقت التباغض بينهم.

وساد بين الإيرانيين زواج المحارم، واعتبروه قربة إلى الله، وشاع بينهم اشتراكهم في النساء والأموال حتى صار الرجل لا يعرف ولده، ولا الولد يعرف أباه. وكان الفرس ينظرون إلى الأكاسرة نظرة الآلهة، ويعتقدون أن في طبيعتهم شيئًا علويًا مقدسًا. وكانوا يعتقدون أن الأشراف فوق العامة في أصلهم، وفوق الناس في عقولهم ونفوسهم. يبالغون في تمجيد القومية الفارسية على سائر الأجناس والأمم. كانوا بداية يعبدون الله، ثم مجدوا الشمس وأجرام السماء حتى جاء زرادشت؛ فدعا إلى التوحيد، بعده جاء من مجد النار، ومن التمجيد انتقلوا لعبادتها، فانقرضت كل ديانة غير عبادة النار.

وكانت تسود الصين ثلاث ديانات، هي: “لاوتسو” و”كونفوشيوس” و”البوذية“؛ وهذه الأخيرة فقدت بساطتها وحماستها، فتحولت وثنية تحمل معها الأصنام حيث سارت، وانحطت بعدما سادت في الهند ألف سنة، ودخلت فيها العبادات الساقطة، فاندمجت البوذية في البرهمية وذابت فيها، فلم يكن للصينين رسالة دينية يحلون بها مشاكل العالم.

أما أمم آسيا الوسطى؛ كالمغول والترك واليابانيون، فقد كانوا بين بوذية فاسدة ووثنية همجية. أما الهند، ففي القرن السادس الميلادي امتازت بكثرة المعبودات، والشهوة الجنسية الجامحة، والتفاوت الطبقي. ولقد بلغت الوثنية أوجها في القرن السادس؛ حيث أصبح كل مرفق من مرافق الحياة إلهًا يُعبد، وأصبحت الديانة خليطًا من الخرافات والأساطير حتى ارتقت صناعة التماثيل جدًا. واعترفت الهند دينيًا ومدنيًا بنظام طبقي أشد استهانة بشرف الإنسان، خضعت له آلاف السنين ولا تزال. منح هذا القانون البراهمة حقوقًا ألحقتهم بالآلهة، أما المنبوذون فكانوا أحط من البهائم، والنساء كانوا في مرتبة الإماء.

أمَّا العرب فامتازوا بين الأمم بأخلاق ومواهب تفردوا بها، كالفصاحة والشجاعة والوفاء والأمانة. لكن ابتلوا في العصر الأخير ببُعدهم من النبوة وتمسكهم بدين الآباء وتقاليدهم، جعلت منهم أمة منحطة. كان الشرك هو دينهم، يؤمنون بالله لكن بحثوا عن وسطاء للتوسط إليه أشركوهم في الدعاء، ثم ترقوا في الشرك فاتخذوا من دون الله آلهة، فإذا كان الأولون يعترفون لله بالألوهية والربوبية، جاء من بعدهم من أشرك مع الله آلهة يعتقدون فيهم قدرة مطلقة على الخير والشر. وأصبح من يميز بين الآلهة والوسطاء شواذ في الأمة، وأصبح لكل دار من مكة صنم، واتخذوا آلهة شتى من الملائكة والجن والكواكب، كما انتشرت اليهودية والنصرانية.

اعتقد العرب أن النبي لا يأكل ولا يشرب؛ لأنه ذات قدسية. أنكروا البعث بعد الموت، والحساب والعقاب والثواب. كانت فيهم أدواء كشرب الخمر، الربا، الزنا واتخاذ الخلان، أما المرأة فكانت تؤكل حقوقها، وتبتز أموالها، وتُحرم ميراثها بل تُورَّث مع المتاع، وكانت العصبية شديدة جامحة شعارها “انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا”. وبالجملة لم يكن هناك مجتمع أخلاق، ولا حكومة عدل، ولا دين صحيح؛ وإنما لمعات في الظلام تتراءى في بعض الأديرة والكنائس.

وقد تميز العصر الجاهلي (أي ما قبل الإسلام) بحكم مستبد يقوم على الملكية المطلقة. وطغت على الناس في الدولتين الفارسية والرومية حياة الغنى والإسراف، والمدنية المترفة. وهكذا ضاعت رسالة الأنبياء بين غنى مُطغٍ وفقر مُنسٍ.

الباب الثاني: من الجاهلية إلى الإسلام

واجه محمد عالمًا فاسدًا بكل المقاييس، وكأنما أصابه زلزال حطم الأخلاق والعقيدة والملك، فأصبحت الأمم قطعانًا ليس لها راعٍ، والسياسة كجمل هائج، والسلطان كسيف في يد سكران؛ مما استدعى اهتمام المصلح بكل ناحية من نواحي الحياة. ولم يكن الرسول زعيمًا وطنيًا ولا قائدًا سياسيًا، ولو كان كذلك لتبعته قريش وكل القبائل العربية، ولكان كل معارضيه تحت لوائه؛ لما علموه عنه من صفات مميزة تؤهله للقيادة دون منازع. كما لم يُبعث النبي ليبدل عدوانًا بعدوان، ولم يكن من الذين يأتون البيوت من ظهورها ولا من نوافذها، ولا من الذين يعالجون بعض الأدواء دون بعض، بل أتى بيت الدعوة من بابه، ووضع على قفل الطبيعة البشرية مفتاحه، بعدما أعيا فتحه جميع المصلحين في عهد الفترة.

رحلة المسلم من الجاهلية إلى الإسلام

لما قرع صوتُ الدعوة المحمدية أسماع قريش؛ أدركوا أنها سهم مسدد في كبد الجاهلية، فقامت قيامتها مدافعة عن تراثها. وثابر الرسول يغذي أرواحهم بالقرآن ونفوسهم بالإيمان. وفي مدينة الرسول ألَّف بين قلوب المهاجرين والأنصار. فكانت هذه الجماعة نواة الأمة الإسلامية ووقاية للعالم من الانحلال الذي كان يهدده. ولم يزل الرسول يربيهم ويزكيهم حتى ازدادوا رسوخًا في الدين وعزوفًا عن الشهوات، أطاعوا الرسول في المنشط والمكره فانحلت عقدة الشرك والكفر. وانتصر الإسلام على الجاهلية، فكان هذا أغرب انقلاب وقع في تاريخ البشر؛ حيث انعكس الإيمان الصحيح على أخلاقهم وميولهم بعد أن كانوا في جاهلية عمياء، وأصبح الإيمان مدرسة خلقية وتربية نفسية تقود صاحبها للفضائل، وحارسًا لأمانة الإنسان وثباته أمام المطامع والشهوات، فاستهانوا بالزخارف والمظاهر الجوفاء، وتملكتهم شجاعة خارقة وحنينا إلى الجنة. كانوا قبل الإيمان في فوضى مطلقة ولما دخلوا حظيرته اعترفوا لله بالملك والسلطان والأمر والنهي ولأنفسهم بالعبودية.

المجتمع الإسلامي كيف تغيَّر

أقام الإسلام عوج الحياة، فأصبحت البشرية أسرة واحدة لا فرق لعجمي على عربي إلا بالتقوى، وليس منا من دعا إلى عصبية، اقتلعت جذور الجاهلية وجراثيمها أيضًا، وأصبحت طبقات المجتمع الإسلامي متعاونة، الكل راعٍ ومسؤول عن رعيته، وأصبح المسلمون أعوانًا على الحق؛ فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

استطاع الرسول أن يبعث في الإنسانية حياة جديدة، فحول البشر من أكداس من المواد الخام لا قيمة لهم أضاعتهم الجاهلية والكفر، إلى بشر بعث فيهم بإذن الله الإيمان والعقيدة، وأثار دفائنهم وأشعل مواهبهم، فكأنما كانوا جمادًا فتحولوا أجسامًا نامية، فأصبح عمر الذي كان يرعى الإبل لأبيه الخطاب وينهره، ولا يحسب له أقرانه حسابًا كبيرًا، يفاجئ العالم بعبقريته وعصاميته، ويدحر كسرى وقيصر، ويؤسس دولة إسلامية جمعت التفوق في الإدارة والعدل والغنى.

استطاع الدين الجديد أن يحول المؤمنين به إلى كتلة بشرية لم يشهد التاريخ أحسن منها، كتلة فيها الكفاية التامة من كل ناحية من نواحي الإنسانية، كتلة في غنى عن العالم، لكن العالم ليس في غنى عنها. أقامت مدنيتها وأسست حكومتها، وليس لها عهد بذلك، ودون أن تستعين بأحد. فملأت كل ثغر وسدت كل عوز برجل جمع القوة والأمانة والديانة، يمثل الأمير والخازن والقاضي والجندي. فظهرت المدنية بمظهرها الصحيح، وتجلت الحياة الدينية بخصائصها غير المعهودة في التاريخ البشري؛ مما أرغم العالم العنيد على أن ينحو نحوًا جديدًا معها، فكان ذلك هو العهد الإسلامي الذي لا يزال غرة في جبين التاريخ.

الباب الثالث: العصر الإسلامي

ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين
توسع الفتوحات الإسلامية في العهد الأموي.

بعدما امتلك المسلمون صفات تؤهلهم لقيادة الأمم، تزعموا العالم ونحّوا الأمم المريضة عن قيادة الإنسانية بعدما أساءت العمل. وما تحقق ذلك إلا لكونهم أصحاب كتاب منزل وشريعة إلهية، لا يشرعون من عند أنفسهم، ولا يخبطون في سياستهم خبط عشواء. ولكونهم تربوا في المدرسة المحمدية مدة طويلة، حرصًا على التزكية والتأديب وخشية الله، وليس على الإمارة، وتكوين إمبراطورية عربية، بل من أجل إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. في ظل هؤلاء استطاعت الشعوب أن تنال نصيبها من الدين والعلم والتهذيب والحكم، وأن تساند العرب في بناء عالم جديد، منهم القادة والملوك والوزراء والعلماء حتى قيل إن أكثر حملة العلوم الإسلامية من العجم.

وبما أن الإنسان جسم وروح، فلا يسعد ولا يبلغ درجة الكمال الإنساني إلا إذا كانت قيادة الحياة بيد المؤمنين بالروح والمادة، أصحاب عقول سليمة وعلوم راجحة. أما إذا كان بهم نقص في العقيدة أو في التربية انعكس النقص على مدنيتهم؛ فإذا تغلبت جماعة تعبد المادة أثرت طبيعتها ومبادئها في وضع المدنية وشكلها وصاغتها في قالبها، فكملت نواحٍ من الإنسانية واختلت في نواحٍ أخرى أهم، ازدهرت في الورق والقماش والحديد الرصاص، وعاشت في ميادين الحروب، وأوساط المحاكم، وماتت في القلوب والأرواح والأسرة.

وإذا تغلبت جماعة تهتم بالروح وما وراء الحس والطبيعة فقط، ذبلت زهرة المدنية وضعفت القوى الإنسانية، في ظل هذه القيادة يؤثر الناس الفرار إلى الخلوات وحياة العزوبية على الحياة الزوجية، لينتقلوا من المادة إلى الروح ليستوفوا كمالهم هناك. وبما أن هذا مضاد للفطرة تثور عليه بانفلات نحو مادية حيوانية، فتحضر الحضارة وتخرب المدن، وتنتكس الإنسانية وتخلفها البهيمية. لذلك لم تزل المدنية متأرجحة بين مادية بهيمية وروحانية ورهبانية. بينما أصحاب محمد جمعوا بين المادة والروح، بين الدين والخلق والقوة والسياسة، فامتثلوا الإنسانية بجميع نواحيها ومحاسنها، وجمعوا مصالح الروح والبدن، فاستطاعوا أن يسيروا بالأمم إلى غايتها المثلى الروحية والخلقية والمادية.

تحت قيادة تلاميذ محمد، سعد الناس واطمأنوا بعدما ساروا فيهم باستقامة وحسن السيرة. فهُم خير القائمين على مصالحهم، لم ينظروا إلى الدنيا كمائدة ممدودة يتقاتلون عليها ولا إلى الأمم الضعيفة كفريسة يقتنصونها، بل اعتبروا الحياة نعمة من الله وفرصة عمل وجهاد لا فرصة بعدها؛ لذا ما تقاعسوا عن إرشاد الضال، ورد الغاوي، وإصلاح الفاسد، ورد الحقوق لأصحابها، فبسطوا على العالم جناح الأمن.

كان هذا الفتح المبين للإسلام محنة للجاهلية لم تعهدها من قبل؛ لأنه شرع إلهي ووحي سماوي إزاء تجارب إنسانية وتشريع بشري، مدنية فاضلة إزاء مدنية مضطربة، حكومة عادلة إزاء حكومة عم فيها الظلم والطغيان. في هذه الظروف لم يعد للناس عائق في اعتناق الإسلام، بحيث يدخل الرجل الإسلام فلا يخسر شيئًا، بل يربح حلاوة الإيمان وعز الإسلام، ودولة قوية يعتز بها وأنصارًا يفدونه بأرواحهم؛ مما جعل الناس ينتقلون من معسكر الجاهلية إلى معسكر الإسلام بمحض إرادتهم، فتناقصت أرض الجاهلية بعلو كلمة الإسلام، وأصبح الإسلام سهلًا يسيرًا آمنًا لا يخشى معتنقوه اضطهادًا ولا أذى. ولا يستطيع دين ولا مدنية تعيش في العالم المتمدن أن تنكر تأثرها بالإسلام والمسلمين.

نظرة في أسباب نهضة الإسلام وبدء انحطاطه

صاغ النبي أصحابه صوغًا؛ فكانوا أقيسة تامة للدين والدنيا والجمع بينهما، فكان الواحد منهم فقيهًا مجتهدًا مجاهدًا أميرًا حازمًا وسياسيًا محنكًا، فكان الدين والسياسة يتمثلان في شخص واحد وهو الخليفة أو الأمير، وحوله خريجو المدرسة النبوية، فانعكست ميولهم ورغباتهم وخصائصهم في المدنية. وتشترط الزعامة الإسلامية صفات دقيقة يمكن تلخيصها في صفتين جامعتين؛ الجهاد والاجتهاد.

والجهاد بذل الجهد لنيل أكبر مطلوب؛ وهو طاعة الله. وهذا يحتاج إلى جهاد شاق ضد كل ما يزاحم العقيدة الصحيحة، والتربية الرشيدة، والأخلاق الحميدة، وكل من ينافس في حكم الله وعبادته من آلهة في الأنفس والآفاق، فاذا تحقق ذلك للمسلم وجب عليه أن يجاهد لتنفيذ حكم الله وأوامره في العالم حوله. ومن مقتضيات هذا الجهاد، المعرفة العميقة بالإسلام الذي سيجاهد لأجله، وبالكفر والجاهلية اللذين سيجاهد ضدهما.

أما الاجتهاد فهو مطلوب بالأخص ممن يرأس المسلمين، فعليه أن يكون قادرًا على القضاء الصحيح في النوازل والحوادث، وأن يكون له من الذكاء والعلم ما يستخدم به ما بث الله في الأرض من خيرات ومن قوى الطبيعة لمصلحة الإسلام.

بعد الخلافة الراشدة انتقلت الخلافة إلى غير الأكفاء من بني أمية وبني العباس؛ باستثناء عمر بن عبد العزيز، ممن لم يتلقوا تربية دينية وخلقية تؤهلهم لقيادة الأمة الإسلامية، ولم يكن عندهم من روح الجهاد وقوة الاجتهاد ما يجعلهم يضطلعون بأعباء الخلافة الإسلامية. فتحررت السياسة من رقابة الدين، وتحولت إلى قيصرية أو كسروية وملك عضوض، وأصبح رجال الدين والعلماء بين معارض وخارج عن الخلافة، ومنعزل يائس من الإصلاح، ومنتقد لا يملك من الأمر شيئًا، ومتعاون معها لمصلحة شخصية أو دينية -كل حسب نيته-، حينئذ انفصل الدين عن السياسة، وأصبحت السياسة حرة طليقة، وابتعدت الشقة بين رجال الدين ورجال السياسة، بينهما عداوة وشقاق.

فتنفست الجاهلية الصعداء، بعدما أخلد الناس للهو والترف، بعد هذا السقوط والانهماك في الملاهي عجزت الأمة من تأدية رسالة الإسلام، وتكملة مسيرة الخلفاء، فأصبح الحكام لا يمثلون إلا أنفسهم ولا يمثلون الإسلام في أي شيء. فبدأ المسلمون بالانحطاط، وتوقفوا عن العناية بالعلوم الطبيعية اعتناءهم بالفلسفة الإلهية التي تلقوها من اليونان؛ وما هي إلا وثنيتهم مترجمة في لغتهم الفلسفية، وما هي إلا ظنون وتخمينات لا حقيقة لها، أغنى الله المسلمين عنها بما أنزله من الهدى والفرقان، ولكنهم لم يشكروا الله على هذه النعمة، فانطلقوا يجاهدون في هذه المباحث في غير جهاد، فضيعوا ذكاءهم في مباحث فلسفية وكلامية لا تجدي نفعًا. أما ما وصل إليه المسلمون في هذه العلوم، فلا يتناسب مع فتوحهم الواسعة في دوائر علمية أخرى، ولا يتلاءم مع عدد النوابغ ممن ظهر في علوم أخرى. وأن ما خلفوه في الطبيعيات والتجارب العلمية حتى مع استفادة أوربا في نهضتها منه، فهو ضئيل مقارنة بما أنتجه الغرب في القرنين السابع والثامن عشر فقط. كما طرأت على النظام الديني بدع شغلت حيزًا كبيرًا من حياة المسلمين، فكاد يحجب توحيد الإسلام الصحيح حجب من الشرك والضلالة لولا حفظ أصله من الله.

حسن بلاء العالم الإسلامي في القرن السادس

ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين

بدأت الغزوات الصليبية في القرن السادس الهجري. وفي هذا الوقت ستظهر قيادات صدت الصليبين، وعلى رأسهم السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، ليكون الرجل المهيأ لهذه المهمة لما أودع الله فيه من صفات، فكان بذلك معجزة من معجزات كون الإسلام لم يمت ولم ينته دوره، ولم يفقد الإنتاج. فتوحد العالم الإسلامي بأجناس كثر ألَّفهم كجسد واحد، واستخدم أحدث ما وصل إليه العالم الإسلامي من اختراعات في صناعة الأسلحة.

ولم يرزق العالم الإسلامي بعد ذلك بقائد مخلص للإسلام، فعم الانحطاط العالم الإسلامي واستفحل مع الأيام، وبالرغم من انحطاط وانحراف المسلمين عن سيرتهم، كان وجودهم أكبر عائق أمام انتشار الجاهلية، ورغم نقائصهم مثلوا أكبر قوة مهابة في العالم. بدأت هذه القوة تضعف دون أن يشعر بها أحد، حتى مزق التتار المملكة الإسلامية الأخيرة (حكومة خوارزم شاه) وسقطت بغداد في أيديهم، فتجاسر الناس على المسلمين وبلدانهم.

العثمانيون على مسرح التاريخ

في هذه الفترة سيظهر الترك العثمانيون على مسرح الأحداث، وبالضبط بعدما فتح محمد الثاني القسطنطينية. فكان فتحها تجديدًا لرجاء الإسلام وبعثة الأمل في نفوس المسلمين. تميز الشعب التركي بميزات أهلته لزعامة المسلمين بقيادة آل عثمان، كان شعبًا فيه روح الجهاد، سليمًا من الأدواء الخلقية والاجتماعية التي أصابت أمم الشرق في مقتل، قويًا في الحرب؛ فلقد جمعت الإمبراطورية العثمانية بين السيادتين البرية والبحرية، وبين السلطتين السياسية والروحية.

بعدما وصل الأتراك القمة أصابهم الانحطاط في الأخلاق والجمود في العلم، فلم يعن العلماء في تركيا باكتساب العلوم الحديثة، بل منعوا الأفكار الجديدة أن تدخل منطقتهم. فطغى الجمود على نظامهم التعليمي، وانحطت سياستهم فلم تكن تسمح بتحمل متاعب المشاهدة والاختبار، فبقيت المدارس الإسلامية في القرن التاسع عشر الميلادي كما كانت في القرن الثالث عشر الميلادي. وأصاب العالم الإسلامي جدب علمي وشبه شلل فكري. ولعل القرن التاسع إن لم نقل الثامن آخر قرون النشاط والإبداع في العلم والأدب والشعر، والعاشر أول قرون الجمود والتقليد في كل المجالات، حتى عدم لقب عبقري أو محقق أو مبدع من كتب التراجم المتأخرة إلا بعض الاستثناءات المعدودة، وحلت كتب الحواشي والتلخيصات محل كتب المتقدمين في حلقات التعليم.

وفي الوقت الذي أصبحت أوربا تحرص على الدقيقة، كان المسلمون يضيعون أحقابًا. فتدهورت تركيا إلى درجة لم تدخلها المطبعة حتى القرن الثامن عشر، ولم يكن انحطاط المسلمين في علم دون علم، بل كان انحطاطًا عامًا شاملًا حتى تخلفوا في صناعة الحرب التي كان الأتراك الأمهر فيها.

الباب الرابع: العصر الأوربي

ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين

طبيعة الحضارة الغربية وتاريخها

الحضارة الأوربية سليلة الحضارة اليونانية والرومية قد خلفتهما في تراثهما السياسي والمدني والعقلي. اليونان أمة من أنجب أمم العالم، شعار حضارتها “المادية” فلم يستطيعوا أن يتصوروا صفات الله وقدرته؛ إلا في شكل آلهة نحتوا لها تماثيل وبنوا لها معابد، وجعلوا لكل شيء إلهًا. والروم تفوقوا عليهم في القوة والتنظيم واتساع الدول، لكن لم يلحقوا بهم في العلم والفلسفة والآداب والشعر والمدنية. وانتقلت الفلسفة والثقافة بل النفسية اليونانية إلى الروم. ثم انتصرت النصرانية على الوثنية ونالت ملكًا عريضًا، وخسرت دينًا جليلًا، بعدما مسخت الوثنية الرومية دين المسيح، ومسخه أهله بمباركة وتحريف قسطنطين الكبير. وانقلبت الموازين، وأصبحت الخلال المحمودة مذمومة، والمذمومة مقبولة بل عبادة؛ فتزلزلت الحياة الأسرية، وعمت القسوة، وانقلب حال الرهبان من الحنان والرحمة إلى قسوة على الأبناء والزوجات والأمهات لاعتقادهم أنهم يأثمون باقترابهم من النساء والحديث معهن يحبط الأعمال، ومع كل هذا الغلو عجزت الرهبانية عن تعديل الرومية المادية الجامحة؛ فخُلقت حركتان: الفجور والإباحة في المدن، والزهد  في الصحارى.

وبسبب الثراء الفاحش نافست البابوية الإمبراطورية، فانتصرت البابوية؛ حتى ضعفت البابوية أيضًا، فتنازع الناس عاملان ديني ودنيوي. أساء رجال الدين استعمال السلطان الذي حققوه، فلم يستغلوه إلا لصالح مآربهم الشخصية، فبقيت أوربا غارقة في وحل الجهل والانحطاط. فكانوا سببًا في الكفاح المشؤوم بين الدين والعقل والعلم، الذي انتهى بانهزام دينهم المختلط بالحق والباطل، فانهزم رجال الدين هزيمة منكرة، وأكبر الشر تحول أوربا إلى لا دينية.

اتجاه الغرب إلى المادية

توجه الغرب إلى المادية بكل ما تتضمنه الكلمة من عقيدة ووجهة نظر. بدأ تدريجيًا إلى أن أصبح العلماء ينظرون إلى الكون نظرًا مؤسسًا على أنه لا خالق مدبر له، وفسروا ظواهره بطريق ميكانيكي بحت، وسموا هذا نظرًا علميًا، وسموا كل بحث وفكر يعتقدان بوجود إله، طريقًا تقليديًا بعيدًا عن أسس العلم. مع ذلك ظل رجال النهضة الأوربية لقرون يجمعون بين النظر المادي الجاحد والطقوس الدينية. ثم نهض المدافعون عن المادية، ففسروا الأخلاق تفسيرًا ماديًا، واعتبروا الدين قضية شخصية لا دخل له في السياسة والحكم، والمتدينون مفيدون للكنيسة، لا للدولة؛ لالتزامهم بالأخلاق ولو تعارضت مع مصلحة الدولة. فأصبحت الحياة في أوربا في القرنين التاسع عشر والعشرين نسخة مطابقة لحياة الوثنيين في اليونان وروما.

ديانة أوربا اليوم المادية لا النصرانية

الكنائس والمظاهر الدينية مظهر، ومن يحافظ على عقيدته استثناء، فالغالب هو عبادة الرقي المادي، والفارق بين الخير والشر هو النجاح المادي لا غير، فالحضارة الغربية وإن لم تجحد الله صراحة، فليس في نظامها الفكري موضع لله حقيقة، ولا تعرف له فائدة ولا تشعر بحاجة إليه. أصبح الغربي مادي الحياة، شديد المعاملة، حريصًا على اللذة، والاستئثار بكل شيء، مفتقرًا للمبادئ السامية والأحاسيس النبيلة، فالضعيف من الناس يستحق الموت، وكل فضيلة تتمثل في القوة، والقوة كلها في المال، وكل الشرف في الترف والزينة، والعز في التغلب على الناس. حتى الحركة الروحية أصبحت روحها مادية، غايتها مشاهدة عجائب الروح، والتحدث إلى أرواح الموتى، والترويح عن النفس وليس التزكية والخشوع والعمل الصالح، عكس الحركة الروحية والتصوف في الشرق الإسلامي.

بلغ الفكر المادي في أوربا درجة الاستغراق فيه والفناء، ونسيان ما سوى القيم المادية، رأى كارل ماركس أن النظام الاقتصادي هو روح الاجتماع، وأن الدين والحضارة وفلسفة الحياة والفنون الجميلة ليست عاملًا من عوامل التاريخ. ساعدهم على هذه النظرة، نظرية دارون عن ارتقاء الإنسان التي ظهرت في القرن التاسع عشر، فكانت اتجاهًا جديدًا لم يسبق في المسائل البشرية وما يتعلق بها، اعتقدت أن الكون لا علة له سوى السنن الطبيعية، وأن الإنسان وسائر الحيوان ليس من صنع صانع حكيم بل هو نتيجة نواميس طبيعية، فناقضت الدين والعقل في كل شيء، وأصبحت دينًا جديدًا.

انكسار الكنيسة اللاتينية سبب القومية الوطنية

مارتن لوثر (10 نوفمبر 1483 – 18 فبراير 1546) راهب ألماني وقسيس وأستاذ للاهوت ومُطلق عصر الإصلاح في أوروبا.

لما قام لوثر بحركته الإصلاحية ضد الكنيسة، انهزمت وانفرط عقدها، وتقوت العصبية القومية والوطنية، حتى أصبحت أوربا معسكرًا واحدًا ضد ما سواها من القارات، وشعوبها خلقت لتسود والشعوب الأخرى لتخضع، فأصبح كل ما في الخارج غريبًا بربريًا، وصار الدين المسيحي طارئًا متبرئًا منه. ثم اتخذت أوربا نفسها وشعوبها إلهًا تدين له بكل عبادة وتقديس وقتال في سبيله، بعدما أصبحت عوالم مستقلة لا تعترف بما هو خارج عن حدودها الطبيعية أو الاستعمارية ولا بإنسان غير منطقتها. وانتقلت عدوى الجنسية والوطنية إلى الأقطار الإسلامية بدل محاربتها. فمال الترك إلى إحياء جاهليتهم القديمة، واعتقد بعض المفكرين في تركيا الفتاة أن الإسلام طارئ غريب لا يصلح للترك، لأنهم أسبق للحضارة فينبغي عودة جميع الأتراك في كل أصقاع الأرض لذلك، وتسمى “بالجامعة الطورانية”.

الحل الإسلامي لمعضلة الحرب والمناقشات الشعوبية

قسم الإسلام العالم البشري قسمين: أولياء الرحمن وأولياء الشيطان. ولم يشرع حربًا ولا جهادًا إلا ضد أولياء الشيطان أينما كانوا. وكانت حروب الإسلام حاقنة للدماء؛ فلم يزد عدد القتلى من المشركين والمسلمين منذ السنة الثانية للهجرة وحتى التاسعة على 1018 من المسلمين و259 من الكفار. في حين أن عدد المصابين في الحرب العالمية الأولى وصل 21 مليون نسمة، وعدد القتلى 7 ملايين أما في الحرب الثانية فالرقم أكبر بكثير.

إضرار القوميين بالشعوب الصغيرة

لم يتوقف القوميون عن تزيين القومية للشعوب الصغيرة وتمجيد تاريخها، أما الدول الكبيرة فترى أنه من واجب قوميتها بسط سيطرتها على أكبر مساحة من الأرض، فتكون لها مستعمرات وممتلكات في قارات أخرى أوجبتها شريعة المجد القومي دونما غاية أخلاقية. تحت إشراف جمعية الأمم وخليفتها “الأمم المتحدة”، جمعية اللصوص كما أسماها شكيب أرسلان. وفارق بين حكومة هداية تتأسس على منهاج النبوة، عنايتها بالدين والأخلاق والنفع على المحكومين، وحكومة جباية تتأسس على الاهتمام بالجباية والخراج وأنواع المحاصيل على حساب الأخلاق والفضائل.

أوربا إلى الانتحار

فتنت أوربا الاختراعات والاكتشافات العلمية، ونسيت الغاية منها في التغلب على الصعوبات التي سببها الجهل والضعف، والانتفاع بقوى الطبيعة المودعة في الكون وخيراتها، واستخدامها لمقاصد حسنة من غير علو ولا فساد في الأرض. وموقف الإسلام أن المسلم ينتفع بكل ما أودع الله في الكون في سبيل الجهاد في سبيل الله، ونشر دينه وإعلاء كلمته، وفيما أباح له من كسب مشروع. فالمصنوعات جامدة محايدة الإنسان قائدها إلى الخير أو الشر، والدين قائد الإنسان.

بطلان الحاسة الدينية

من فقد الحاسة الدينية لسبب من الأسباب، أو حرمها لنقص في الفطرة؛ بطلت نتائجها الخاصة بها. كالأعمى الذي لا يبصر الألوان فيعاند في إنكارها، كذلك من حرم الحاسة الدينية؛ جحد الغيب وكابر فيما وراء الطبيعة وعاند في المعاني الدينية. كما تضخمت معدة الحرص في الإنسان حتى صارت لا تشبع من المال، تسلط على الناس شيطان الجشع، وحب استنزاف الموارد حلالها وحرامها، والعهدة في ذلك على وضع الحياة الحاضرة وطبيعتها المادية الصرفة التي لا تؤمن بالآخرة.

وبعد احتلال الأجانب للشرق الإسلامي، أصاب المجتمع الشرقي الإسلامي انحطاط في الأخلاق والاجتماع، كان من بين أسباب انهيار الدول الإسلامية وانهزام الأمم الشرقية، فأصبح العلم والعقيدة يباعان بالمال والمناصب تحت ظل الاحتلال، بحجة أن هذه الحكومات تقدم جهودًا نبيلة للعروبة والإسلام، واستغنى المجتمع العصري عن الروابط الأسرية والأرحام الدموية والشرائع الخلقية.

الباب الخامس: قيادة الإسلام للعالم

الحضارة الإسلامية

أصبحت أوربا النصرانية جاهلية مادية، دون النبوة والفضائل الخلقية، لا تؤمن إلا باللذة والمنفعة المادية، والقوة والغلبة، والوطنية المعتدية والجنسية الغاشمة. وانشغلت بالآلات ونسيت الغايات، فغفلت عن مقصد الحياة، وطغت وتجبرت فأهلكت الحرث والنسل. وبانسحاب المسلمين من ميادين الحياة وتنازلهم عن قيادة العالم وتفريطهم في الدين والدنيا، أخذت أوربا بناصية الأمم وخلفتهم في قيادة العالم، فركبت الشعوب -بما فيهم المسلمون- قطار الجاهلية السريع. ولم تبقَ على وجه الأرض أمة من الأمم تخالف الأمم الغربية في عقائدها ونظرياتها، أو تعارض وجهتها وتناقشها مبادئها وفلسفتها الجاهلية.

الحل الوحيد للأزمة العالمية

الحل الوحيد هو تحول القيادة العالمية من اليد الأثيمة الخرقاء التي أساءت استعمالها إلى يد أخرى بريئة حاذقة؛ من أوربا ومن كان على شاكلتها إلى العالم الإسلامي الذي تقوده الرسالة الخالدة، فهذا التحول الذي يغير وجه التاريخ، ومجرى الأمور وينقذ العالم من الساعة الرهيبة التي تنتظره. وبالرغم مما أصاب الأمة الإسلامية من ضعف ووهن فهي الوحيدة القادرة على منافسة الأمم الغربية في قيادة البشرية، فدينها يحثها أن تراقب سير العالم وتحاسب الأمم على أخلاقها وأعمالها ونزعاتها، وتقودها إلى الفضيلة والسعادة في الدنيا والآخرة.

لا يوجد للعالم الإسلامي إلا رسالة واحدة من أجل الإيمان بها، رسالة كاملة لا تحتاج تغيير كلمة ولا زيادة حرف، صالحة لكل زمان ومكان، كأن الزمان استدار كهيئته يوم خرج المسلمون من جزيرتهم لإنقاذ العالم من براثن الوثنية والجاهلية، فهذا طور انتقال العالم من قيادة الجاهلية إلى قيادة الإسلام. ولكي يؤدي العالم الإسلامي رسالته سيحتاج للروح والقوة المعنوية التي تزداد أوربا كل يوم فيها إفلاسًا، وإلى الإيمان والاستهانة بالحياة والعزوف عن الشهوات والشوق للشهادة، والحنين للجنة والزهد في حطام الدنيا، وليس بإهمال القوة الروحية التي استخف بها على مدى قرون. وعلى العالم الإسلامي أيضًا الاستعداد التام بالعلوم والصناعة والتجارة وفنون الحرب للاستغناء عن الغرب في كل مناحي الحياة، فينتج طعامه ولباسه وأسلحته وينظم شؤون حياته، ويصدر وارداته ولا يستدين من غيره.

العالم الإسلامي أصبح عالة على الغرب حتى في لغته العربية وآدابها، وعلومه الدينية من تفسير وحديث وفقه، وأصبح المستشرقون مرشدي البحث والتأليف، والمرجع والحجة في الأحكام والآراء الإسلامية والنظريات العلمية والتاريخية. ومنهم من يكنُّ العداء للإسلام ولنبيه، ومنهم من يخون الأمانة العلمية في نقل النصوص وتحريفها، ومن يخطئ في فهم النصوص فيترجمها ترجمة خاطئة، فتغلغلت أفكارهم في الأوساط الإسلامية. فإذا أراد النهوض؛ لا بد من مواجهة هذا الخضوع بوجود علماء عمالقة يتناولون الحضارة الغربية بالنقد والتحقيق، ويحققون استقلالًا علميًا يقودهم للزعامة العلمية؛ ليستفيد العالم من علمهم وحقيقة دينهم

أهمية العالم العربي

للعالم العربي أهمية كبرى؛ لكونه وطن أمم لعبت أدوارًا كبرى في التاريخ الإنساني، ولاحتضانه منابع الثروة والقوة الكبرى المتمثلة في الذهب الأسود، ولموقعه الجغرافي الذي يجعله صلة الغرب والشرق، ولأنه قلب العالم الإسلامي بقبلته، مما جعله محط أنظار الغربيين وميدان تنافسهم. ينظر المسلم للعالم العربي مهدًا للإسلام، ومشرق نوره ومعقل الإنسانية وموضع القيادة العالمية، والنبي العربي هو روح العالم العربي وأساسه وعنوان مجده وقائده، والإسلام قومية العالم العربي والإيمان قوته.

تحتاج البشرية إلى أناس يضحون بإمكانياتهم ومستقبلهم في سبيل خدمة الإنسانية وأداء رسالتهم المقدسة، إنه لا بقاء للإنسانية ولا قيام لدعوة كريمة بغير هؤلاء المجاهدين، يشقون لتسعد الإنسانية كما فعل السابقون من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من المجاهدين في سبيل الله. إن العالم لا يسعد؛ وخيرة الشباب في العواصم العربية عاكفون على شهواتهم. فعلى القادة ورجال التعليم والتربية أن يربوا الشبيبة العربية على الفروسية والحياة العسكرية، والبساطة والخشونة في العيش والصبر على المكاره، ومحاربة كل ما يضعف روح الرجولة والجلادة ويبعث على التخنث والعجز. ومحاربة ما اعتاده العرب من مظاهر الترف والإسراف والتبذير، واستئثار شخص الخليفة أو الملك بالبلاد والعباد، يتحكم فيها كيف شاء؛ لتتحول إلى أمة هزيلة لا إرادة لها ولا كرامة ولا حرية. والإسلام لا محل فيه للأثرة الفردية أو العائلية أو المنظمة كما في أمريكا وأوربا وهي إلى زوال.

إن الشعوب العربية والبلاد الإسلامية ضعيفة الوعي، عليها إيجاد الوعي بتربية الجماهير تربية عقلية ومدنية وسياسية. ولا بد من استقلال البلاد العربية في تجارتها وماليتها، وهو ما أثبتت مصر كفايتها فيه، واستعدادها الكبير في ميدان العلم والصناعة والتجارة. إن القيادة التي هيأتها البعثة المحمدية هي القيادة العالمية التي يجب أن يحرص عليها العرب أشد الحرص، فقد جمعت أنواع القيادة والسيادة، وهي قيادة ممهدة مجربة من سابقيهم تحتاج إلى الاحتضان والتفاني في سبيلها.

د. أسماء غيلان

حاصلة على دكتوراه في التاريخ ودكتوراه في أصول الدين، أحب البحث في القضايا التاريخية والدينية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى