وزارة الأمن الوطني الأمريكية تقود منصات التواصل الاجتماعي
هذا المقال ترجمة لمقالة بعنوان: The Quiet Merger Between Online Platforms and the National Security State Continues لكاتبه: BRANKO MARCETIC في موقع: jacobin. الآراء الواردة أدناه تعبّر عن كاتب المقال الأصلي ولا تعبّر بالضرورة عن تبيان.
الكاتب: برانكو مارسيتيك
ترجمة: ربى الخليل
تحرير: عبد المنعم أديب
تقدمت[1] حملة الرقابة الإلكترونية بخطى ثابتة في الفترة التي تلت عام 2016؛ إلا أن الوقت الراهن يشهد تسارعًا في وتيرتها. وهو ما تطرق إليه مؤخرًا موقع “ذا إنترسبت – Intercept The” في تعرية سياسة “وزارة الأمن الداخلي الأمريكية” (DHS) تجاه الانخراط في عمليات ضبط المعلومات المضللة والخاطئة.
نشر الموقع المذكور وثائق تميط اللثام عن استراتيجية تتبناها “وكالة الأمن السيبراني وأمن البنية التحتية التابعة لوزارة الأمن الداخلي” (CISA)تهدف بها إلى مكافحة نشر المعلومات المضللة حيال الانتخابات الأمريكية، فضلًا عن جوانب أخرى. في الظاهر، تبدو استراتيجية لا غبار عليها، تقف حصنًا منيعًا أمام المعلومات الزائفة التي تغزو الفضاء الإلكتروني؛ بَيْدَ أنها تثير تساؤلات جديّة تجاه حجم توغل الحكومة الأمريكية في ظاهرة الرقابة الإلكترونية المحتدمة.
تضمنت الوثائق عرضًا مفصَّلًا لمناقشات تُعرِّي النشاط المتزايد للحكومة الفيدرالية -تحديدًا وزارة الأمن الداخلي الأمريكية- في مساعي مكافحة المعلومات المضللة التي تقوم بها شركات التكنولوجيا العملاقة. وتكشفت بعض المؤشرات مؤخرًا في المقابلة التي أجراها وزير الأمن الداخلي “أليخاندرو مايوركاس”، مع قناة “إم إس إن بي سي – MSNBC ” الأمريكية في أغسطس/ آب؛ حيث أطلع مُقدِّمة البرنامج “أندريا ميتشيل” على حقيقة تعاون الحكومة الأمريكية مع شركات التكنولوجيا العملاقة في سياق مشروع فيدرالي يرمي إلى تعزيز “الاستخدام المشروع لمنصاتهم بالغة الأثر، والتصدي لأي ضرر محتمل”. والجدير بالذكر أن مثل هذه التصريحات لا تخرج للعلن إلا على وسائل الإعلام اليمينية.
كما تعرض الوثائقُ مستلزمات تنفيذ هذا المشروع بالتفصيل. وتطرقت المناقشات فيها إلى لجوء الحكومة الأمريكية إلى الرقابة غير المباشرة عن طريق الوكالات الحكومية؛ بغية كشف الزيف وتوعية الناس حول طريقة صناعة المعلومات المضللة؛ لتحصينهم منها من جهة، ومن جهة أخرى توجيه الصحافة المحلية والحكومية وشركائها إلى المصادر الموثوقة، وضبط الشائعات، ودعم «المصادر الرسمية الموثوق بها». ناهيك عن تأمين الدعم المالي للشركاء خارج البلاد والارتقاء بالوعي المعلوماتي.
بَيْدَ أن غالبية جهود الحكومة انصبَّت على الانتخابات وتوظيف مصادرها للتصدي إلى سبل تضليل الناس حيال كيفية التصويت ومكانه وزمانه، والتأكيد على وجوب استخدام “وكالة الأمن السيبراني” (CISA) كمصدر معلومات؛ لما تتمتع به من قوة إقناع واستقطاب لمختلف الأطراف.
لم تكتفِ الحكومة بإيلاء اهتمامها الخاص بالتضليل المتمحور حول الانتخابات؛ بل نحت إلى التوصيات التي قدمتها إليها “وكالة الأمن السيبراني”، بوجوب استهداف المعلومات المضللة والزائفة والخاطئة التي من شأنها أن تعمل على تقويض المهام بالغة الأهمية التي تضطلع بها مؤسسات ديمقراطية رئيسية أخرى.
وتضمنت التوصيات أمثلة عن هذه المؤسسات الديمقراطية الهامة؛ منها المحاكم والمنظومة المالية التي تعدّ مثالًا غريبًا باعتبارها تنأى بطبيعتها عن مؤسساتنا الديمقراطية؛ ناهيك عن أن خطوة إدراجها ضمن هذه المؤسسات المطلوب حمايتها من التضليل الإعلامي، تتجاوز ما انطوت عليه عملية مكافحة المعلومات المضللة بحد ذاتها. ومع ذلك، ضمت المناقشات التي عرضتها الوثائق مندوبًا عن مصرف “جي بي مورغان تشيس – JP Morgan Chase”، كما أوضح عدد كبير من رسائل البريد الإلكتروني حجم التسهيلات التي قدمتها وكالة الأمن السيبراني لتعزيز التنسيق والتعاون بين منصات غوغل وفيسبوك ووزارة الخزانة الأمريكية على وسائط التواصل الاجتماعي والمنصات المؤثرة.
ليس بحوزتنا -حتى هذه اللحظة- أية مؤشرات حول خطط تضطلع من خلالها الوكالات الحكومية لاحقًا بدور الرقابة الإلكترونية المباشرة. لكن عمليًا -وبالاستناد إلى مخرجات الوثائق- ما يحدث هو رقابة غير مباشرة من قبل الدولة. ومن دلالات هذا التوجه الضغوط التي رزحت تحتها شركات التكنولوجيا العملاقة على مدار السنوات الست المنصرمة لمكافحة المعلومات الخاطئة والزائفة والبرامج الآلية وغيرها، التي تلحق ضررًا باليسار على وجه التحديد.
اشتملت الوثائق المنشورة على أدلة تثبت مثل هذه الممارسات الحكومية. ومنها مجريات اجتماع اللجنة الفرعية حول حماية البنى التحتية المهمة من المعلومات المضللة والزائفة الذي عُقد في مارس/ آذار 2022. بادرت خلاله لورا ديهملو (رئيسة قسم لدى فرقة العمل المعنية بالتأثير الأجنبي التابعة لمكتب التحقيقات الفيدرالي. وهي وحدة تتفرع عن قسم مكافحة التجسس في مكتب التحقيقات الفيدرالي التي نشأت في البداية للتصدي للتدخل الروسي في الانتخابات وتوسعت لاحقًا لتضم ثمانية كوادر) إلى إلقاء الضوء على الجهود المبذولة في هذا السياق، واسترسلت في بلورة دور فرقة العمل المعنية بالتأثير الأجنبي في تبادل المعلومات مع النواب الأمريكيين والشركاء؛ مؤكدةً على ضرورة إيجاد بنية تحتية إعلامية تخضع للمساءلة.
لكن ما دلالات ذلك على وجه التحديد؟ رأى الصحفيان لي فانغ وكين كليبنشتاين من موقع “ذا إنترسبت- Intercept The” أن ثَمَّةَ دليلًا قد يتكشَّف من الدعوى القضائية التي أماطت اللثام عن وثائق؛ تشمل تفاصيل ضلوع فرقة العمل المعنية بالتأثير الأجنبي التابعة لمكتب التحقيقات الفيدرالي، في الاتصالات المتبادلة بين مكتب التحقيقات الفيدرالي ومنصة فيسبوك التي تحول اسمها إلى “ميتا” التي عمدت على أثرها إلى فرض قيود لمنع تداول الأنباء عن محتوى جهاز الحاسوب المحمول الخاص بهانتر، نجل الرئيس الأمريكي جو بايدن، وهو إجراء في إطار الرقابة الصحفية ليس بالعادي.
في حقيقة الأمر، إن تأكيد مكتب التحقيقات الفيدرالي ضلوعَه المباشرَ في قمع تداول القصة المشروعة تمامًا من قبل شركات التكنولوجيا العملاقة؛ يتخطى بمراحل ما تصورناه على أنه انتهاك صارخ لحرية الصحافة، بالنظر إلى ما أظهرته وثيقة أخرى عن تشكيل بوابة حكومية خاصة، يمكن للمسؤولين من خلالها منع تداول أي محتوى على منصتي فيسبوك والانستغرام.
وأثيرت في الدعوى القضائية عدةُ تصريحات أدلى بها مسؤول من مكتب التحقيقات الفيدرالي في بثّ صوتي (بودكاست)؛ مُتبجحًا بانخراطه الوثيق مع القطاع الخاص، وعلى رأسه شركات وسائل التواصل الاجتماعي، والتواصل معهم بوتيرة شهرية وأحيانًا أسبوعية في سياق المعلومات المضللة حول انتخابات 2020. وقال: “في حال العثور على أي محتوى غير عادي، سواء من قبلهم أو قبلنا، يتم مشاركة المعلومات الاستخباراتية مع شركات التكنولوجيا، وشركات التواصل الاجتماعي، حتى يتسنى لهم حماية منصاتهم الخاصة”.
بالعودة إلى اجتماع اللجنة الفرعية حول حماية البنى التحتية المهمة من المعلومات المضللة والزائفة الذي عُقد في مارس/ آذار 2022، وجه أحد المشتركين سؤالًا حول سبل “المضي قدمًا لإحداث الأثر المطلوب” في إطار المعلومات المضللة والزائفة؛ متسائلًا عن المسؤول عن مراقبة وسائل التواصل الاجتماعي لصالح الحكومة. وعندما أشار مسؤول من وكالة الأمن السيبراني إلى توصية معنية بشركات التواصل الاجتماعي، كانت قد تقدمت بها “مؤسسة ستانفورد” في إحدى الدراسات والمتعلقة بعدم الترويج للجهات الفاعلة في بث المعلومات المضللة والزائفة؛ جاء الرد على لسان أحد مسؤولي “موقع تويتر” بأن مضمون هذه التوصية هو ما دفعهم إلى تبني نظام صارم لتقويض حجم وأثر الجهات المضللة على منصته.
واشتملت الوثائق على رسالة إلكترونية مُؤرَّخة في 18 فبراير/ شباط من مسؤول آخر من “وكالة الأمن السيبراني” يعرض خلالها مساعي الوكالة في ظل احتدام التوترات الروسية الأوكرانية إلى استقطاب شركاء الصناعة للتداول في المخاطر المحتملة، وبلورة المواقف للرد عليها، فضلًا عن بحث فرص التنسيق. ولا يخفى علينا ما قد تمخض عن هذا الطرح؛ حيث بادرت “منصة فيسبوك” منذ بداية الغزو الروسي إلى تخفيف قيودها تجاه دعوات العنف المتعلقة بالحرب الأوكرانية (إلا أن هذا الإجراء اقتصر فقط على حيز الحرب الأوكرانية دون غيرها)، كما عدلت من سياستها طويلة الأمد مُطلقةً العنان لعبارات الإشادة والثناء على “كتيبة آزوف” اليمينية المتطرفة الأوكرانية، فيما كان مصير المراسلين ممن أثاروا تساؤلات حيال رؤى حلف الناتو للحرب ذاتها تعليق حساباتهم المصرفية على الباي بال – PayPal.
والجدير بالذكر، أنه في حال غضضنا الطرف عن دعم “وكالة الأمن السيبراني” الضمني لعمالقة الإعلام الإلكتروني في إطار مراقبة الآراء غير الملائمة -وفق تقدير الحكومة-؛ تتضافر الحلول البعيدة عن الرقابة التي تطرحها الوكالة نفسها مع مجموعة من المشكلات المحتملة. يتكشَّف ذلك من خلال الفكرة المطروحة بدعم المصادر الرسمية والموثوقة أو إرشاد الناس إليها. حيث من المفترض هنا أن هذه المصادر -التي تضم مسؤولين حكوميين وحراس بوابة نشر المعلومات؛ التي طالما تذمرت “وكالة الأمن السيبراني” من تعرض هذه المعلومات للتشويش بعد ظهور وسائل التواصل الاجتماعي[2]-؛ إنما هي مصادر مُنزَّهة عن الخطأ مع وجوب تقديس كل ما يخرج عنها تمامًا كالإنجيل على خلاف جوانب أخرى تطرقت إليها الوثائق حيال تدابير الصحة العامة في فترة الجائحة، دون أن نغفل أن مؤسسة الصحافة و”أنتوني فوتشي”[3] كانا نموذجين لتضليل الناس على نحو متكرر، حيال أمور تتعلق بفعالية الأقنعة الطبية وعدد الأشخاص المراد تطعيمهم لتحقيق مناع القطيع.
على الرغم من حشد “وكالة الأمن السيبراني” جهودها لمواجهة الخصوم الأجانب إلا أن ما وثقته الأبحاث تثبت أن القائمين على غالبية الحملات الدعائية السرية عبر الإنترنت؛ لا يعملون لصالح خصوم مثل روسيا وإيران، بل لصالح الولايات المتحدة أو حلفائها. في هذا السياق، أجرى باحثون من جامعة أديلاند مؤخرًا تحليلًا شمل أكثر من خمسة ملايين تغريدة في أول أسبوعين من اندلاع الحرب الأوكرانية، وخلصوا إلى أن 60 إلى 80 % منها صادرة عن برامج آلية، كما أن 90 % من الحسابات تندرج في فئة “تأييد أوكرانيا”. بالتوازي، تمخضت دراسة سابقة أُعدت في “جامعة ستانفورد”، شملت مئات الآلاف من التغريدات على مدى عشر سنوات، عن لجوء شبكة حسابات مترابطة، عبر مختلف منصات التواصل الاجتماعي، إلى استخدام أساليب خادعة لدعم السرديات المؤيدة لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها، بينما تعارض دولًا كروسيا والصين وإيران. وهنا تبرز دلالات التوافق بين شركات التكنولوجيا وقطاع الأمن القومي.
نشر موقع “مينت بريس نيوز- MintPress News” مقالًا للصحفي “آلان ماكليود” وثَّقَ فيه توظيف منصات وسائل التواصل الاجتماعي الخاضعة للرقابة المتنامية، كمنصات التيك توك وتويتر وغوغل وفيسبوك، عددًا كبيرًا من موظفي الأمن القومي السابقين، ومنهم من عمل سابقًا في وكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي، ووزارة الأمن الداخلي، والاستخبارات العسكرية وحلف الناتو وغيرهم، ومنهم من تقلد مناصب ترتبط مباشرة بتنظيم المحتوى. ويجدر التنويه إلى أن خدمة “باي بال” بادرت إلى تعليق الحسابات المصرفية لموقع “مينت بريس نيوز” وللصحفي “آلان ماكليود” تحديدًا إضافة إلى غيرهم. وهو ما يعكس مخاطر السماح للحكومة الأمريكية بممارسة سياسة الإملاء على شركات التكنولوجيا؛ فيما ينبغي أن تدرجه ضمن إطار المعلومات المضللة والزائفة.
ومن الأمثلة الأخرى عن التجاوز المستمر لصلاحيات وزارة الأمن الداخلي ومهامها -أضف إلى دورها المركزي في حملة قمع المتظاهرين المناصرين لجورج فلويد التي اندلعت في عهد ترامب في عام 2020- تدير الوزارة نظام مراقبة ضخم يستهدف جميع الأمريكيين إلى جانب جمع معلومات تحديد الموقع الجغرافي الخاصة بهم، دون الحصول على أمر قضائي، وجمع وتخزين المعلومات من الأجهزة الإلكترونية لأشخاص على الحدود، والتجسس على المعارضين السياسيين.
ويجدر التنويه إلى التقرير الصادر عن وزارة الأمن الداخلي عام 2020 يشير إلى قيام الوزارة بانتهاك متعدد للضوابط الدستورية خلال الاحتجاجات، فضلًا عن إخضاع كل المتظاهرين السلميين للرقابة إلى جانب بذل الجهود لربط كل متظاهر بمنظمة “أنتيفا”؛ بما يتسق مع فحوى الخطاب العام للرئيس “دونالد ترامب” آنذاك المفعم بالتضليل.
كل ما ذُكر يستوجب القلق حتى بالنسبة للأمريكيين الملتزمين بالقانون. لكن ما يستوجب أن يكون مصدرَ القلق الأعظم هو استخدام الناس على امتداد الأرض لمنصات التواصل الاجتماعي هذه؛ ناهيك عن تأثير بعضها الهائل -مثل تويتر- على الخطاب السياسي في الدول الناطقة باللغة الإنجليزية. إن امتلاك القدرة على صياغة ما يُنشر على وسائل التواصل الاجتماعي يمدّ أيَّة حكومة بقوة هائلة، حتى الحكومة التي قد يتقلد سُدَّتها “ترامب” أو أمثال “رون دي سانتيس”.
[1] في هذا المقال يطالع القارئ الكريم كيف تتحكم الأجهزة الأمنية في وسائل التواصل الاجتماعي، بل يقرأ أن كثيرًا من الحسابات التي أمامه يديرها رجال أمن وضباط ومساعدون؛ ليضمنوا توجيه الرأي العام بالتعييب أو الإشادة أو غيرهما، ويقودوا كل ما يراه الجمهور أمام عينيه، وليشِّكلوا وعيه كما يريدون. وكذا سيرى التضييق والملاحقة لكُل من يحاول كشف هذه المعلومات. (المُحرِّر)
[2] يقصد هنا أن وسائل التواصل الاجتماعي صنعت سيولة عظيمة في نشر المعلومات، وأصبحت عقبة في طريق المعلومات المقيَّدة في عصر الجرائد والإذاعات قبلها. (المُحرِّر)
[3] المسئول عن متابعة “كوفيد 19” في البيت الأبيض. (المُحرِّر)