ليس البابا رجل سلام، إنه نوعٌ فاسدٌ من دعاة السلام
هذا المقال ترجمة بتصرف لمقال: Pacifism and Papal Fallibility لكاتبه: Brian Stewart في موقع: quillette.com. الآراء الواردة أدناه تعبّر عن كاتب المقال الأصلي ولا تعبّر بالضرورة عن تبيان.
اعتاد كريستوفر هيتشنز أن يقول إنه في الثقافة الحديثة يتم الحكم على شخصية الشخص من خلال سمعته، وليس العكس. وأشار كذلك إلى أن هذه الظاهرة الغريبة هي حادةٌ بشكل خاص عند النظر إلى الشخصيات القابعة تحت طيلسان الدين. إنّ تساهل الجمهور لا يكون أبدًا ذا رحابةٍ إذا أصدر “رجل الإيمان” قولًا غبيًّا. قد يساعد هذا في تفسير سبب تمتع البابا فرانسيس بسمعة رجل السلام. أي شكوكٍ حول ما إذا كان يستحق هذا الشرف أم لا لن يهدأ بمجرد رده غير المجدي على الغزو الروسي لأوكرانيا. على العكس من ذلك، فإن أقواله حول هذا الموضوع تجعل فكرة أن كنيسة روما تتمتع بأي خبرة خاصة، ناهيك عن مكانة أخلاقية فريدة، في مسائل الحرب والسلام، فكرة غبية.
إن التدقيق في موقف البابوية حول مكانة السلطة في العلاقات الدولية من شأنه أن يكشف أن السمعة البكر التي تتمتع بها السلطات الكاثوليكية الرومانية في هذا الموضوع النقدي غير مستحقة تمامًا. إن دعاة السلام الذين ينبذون أي لجوء إلى العنف، بحكم تعريفهم، يشعرون بالفزع من المعتدي ومن الضحية على حد سواء، طالما أن كليهما يتقاتلان. من ناحية أخرى، يحرص المهتمون بالسلام على التمييز الأخلاقي بين تطبيقات القوة المختلفة وممارساتها، والتحقيق في كل من الوسائل المستخدمة والغايات المنشودة. كما أنهم يهتمون بشدة بالمنافسة على السلطة، لأن الحرب هي -كما علّمنا كلاوزفيتز- اللجوء إلى السلاح في خضم هذه المنافسة.
يبدو أن الكثير من الناس قد تأثروا بشكل مفرطٍ بإدانة البابا الروتينية لحرب فلاديمير بوتين المتجددة على أوكرانيا. ولكن ما مقدار الفضل الأخلاقي الذي يضمنه البابا لمجرد احتجاجه على اللجوء غير المبرر إلى السلاح؟ وبغض النظر عن إجابة المرء على هذا السؤال، فلا بد من موازنته على الجريمة المذهلة المتمثلة في الاحتجاج على لجوء أوكرانيا المبرر إلى استخدام السلاح.
أكثر من مرة في الأشهر الأخيرة، استشهد البابا بتأييد المهاتما غاندي للمقاومة اللاعنفية. سيوافق الكثيرون على أن هذا مثال نبيل يمكن الاستشهاد به، ولكن نادرًا ما يذكر الناس أن غاندي فشل في الاختبار الصريح للوضوح الأخلاقي الذي قدمته الحرب العالمية الثانية. لم يصرح في عام 1939 فقط أن عدم امتثال اليهود للمراسيم النازية قد يكون كافيًا “لإذابة قلب هتلر”، ولكن في رسالة في عام 1940 موجهة إلى “كل بريطاني”، قدم هذا المثال المرير للتكافؤ الأخلاقي والاسترضاء:
إنني أطالب البريطانيين وقف أعمالهم العدائية، ليس لأنهم مرهقون من القتال، ولكن لأن الحرب شرٌّ في جوهرها. تريدون قتل النازية؟ لن تقتلوها أبدًا بِتَبَنِّيكُم للحياد. إن جنودكم يؤدون نفس أعمال التدمير التي يؤديها الألمان. قد يكمن الاختلاف الوحيد في أن البريطاني لا يؤديها بنفس إتقان الألماني. أود منكم أن تلقوا أسلحتكم، لأنها عديمة الفائدة، وليست ذات نفع لإنقاذكم أو إنقاذ البشرية. سوف تدعون السيد هتلر والسيد موسوليني ليأخذوا ما يريدونه من بلدانكم، التي تعدونها ممتلكات لكم. دعوهم يستحوذون على جزيرتكم الجميلة، بمبانيها المزدهرة. سوف تعطونهم كل هذا، لكن لن تسلموا لهم أرواحكم أو عقولكم. إذا اختار هؤلاء السادة احتلال منازلكم، فغادِروها. إذا لم يسمحوا لكم بالهرب، أو لم يمنحوكم المرور الآمن، فاسمحوا لهم بذبحكم وتقتِيلكم، رجلًا وامرأةً وطفلًا، ولكن الشيء الوحيد الذي سَترفضونه هو: أن تدينوا لهؤلاء بالولاء.
قام اللاهوتي المسيحي رينولد نيبور بتشريح لا أخلاقية الموفق السلميّ منذ ما يقرب من قرن من الزمان، لكن لا يبدو أن البابا فرانسيس قد استفاد شيئًا من حكمة رينولد. في زمن رينولد نيبور كما في زماننا، ادعى دعاة السلام أن الحرب هي الشر الأكبر، لكنهم أهملوا شرح كيف يمكن تأمين العدالة وتحقيقها في العالم إذا استُنفدت الطرق السلمية. في الواقع، قال نيبور، كان ردهم هو التنازل عن المسؤولية والاستسلام للظلم، تاركين أعدادًا لا حصر لها تتحمل فظائع الاستبداد والطغيان.
من وجهة نظر نيبور، كانت المسالمة “السياسية” لعدد كبير من المسيحيين تشويهًا مروعًا للأخلاق المسيحية؛ لقد فشلت في التعرف على العناصر المأساوية للحالة الإنسانية: استمرار القوة والمصلحة الذاتية، عدم قابلية الإنسان للكمال، والطبيعة المتناقضة للتقدم الأخلاقي والمادي. باختصار، فإن أي شخص يستجيب للعنف الجماعي المتعمد لإمبراطورية قطاع الطرق من خلال التذرع بهذه المدرسة الفكرية البائسة قد تخلى عن كل مصداقيته أمام المسؤوليات العميقة للسلطة في عالم ساقط.
وقد بدا هذا كثيرًا من خلال تصريحات البابا بشأن أوكرانيا. بينما تدافع ديمقراطية أوروبية عن أراضيها وسكانها من الهجوم الإمبريالي الروسي المميت، يصرح البابا أن الأسلحة ليست هي الحل. لقد شجب “جنون” الغرب الذي يرسل المساعدات العسكرية إلى ديمقراطية محاصرة، ووبَّخ الناتو لأنه “نبح” على أبواب روسيا. وقد رفض دعوة الرئيس زيلينسكي لزيارة أوكرانيا كإظهارٍ للدعم والمساندة، على الأقل حتى تتاح له فرصة لقاء بوتين في موسكو (وهو أمر يرفض المستبد الروسي حتى الآن منحه).
ليس هذا هو المكان المناسب لتقديم تفسير مطول عن الجذور المعقدة لطموحات روسيا في أوكرانيا، أو عن الحرب الرهيبة التي اختارت المضيّ فيها، ناهيك عن طبيعة الحرب نفسها. يكفي أن نقول إن بوتين طالما أنكر مكانة أوكرانيا كدولة مستقلة، وأن قراره لخوض الحرب لم يكن مُسبَّبًا بتوسع الناتو باتجاه الشرق؛ فعلى مر تاريخ روسيا الطويل، نادرًا ما تمتعت بأمن أكثر استقرارًا مما أنتجته نهاية الحرب الباردة، وربما لهذا السبب رحّب وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بأخبار انضمام فنلندا والسويد باستهجان.
إن الماسوشية الطوباوية قد تظهر بلباس علمانيّ كما قد ترتدي طيلسان الدين والإيمان، وهي أمر يجب مقاومته في شتى أشكاله، لأنها منفصلة ليس فقط عن التاريخ، بل عن الطبيعة البشرية نفسها. إن فكرة أن بعض الأشياء تستحق القتال والموت في سبيلها، قد سيطرت على العلاقات الإنسانية ونظام الدول منذ العصور القديمة، وكان الدفاع عن الديار والوطن ضد الغزو الوحشي وضد الاستبداد دائمًا في مقدمة المبررات.
منذ اندلاع الجولة الأخيرة من الأعمال العدائية الروسية، قام الغرب بتسليح وتدريب القوات الأوكرانية، وقد ساعد هذا التدريب الأوكرانيين على إلحاق خسائر فادحة بالقوات الغازية الروسية. إنهم يفهمون ما يعجز البابا -في حكمته السامية- عن فهمه؛ وهو أن أفضل فرصة لتحقيق سلام قابل للحياة لا تكمن في الاستسلام، بل في الإعداد المستمر وإظهار البراعة العسكرية، لأن هذا فقط ما يمكن أن يعلم بوتين والنخبة الروسية الحاكمة درسًا في الردع لن ينسوه.
تنص عقيدة “الحرب العادلة” الكاثوليكية على أنه يجوز للدول استخدام القوة المسلحة بشكل شرعي في ظل ظروف معينة. لكن فرانسيس قد كدس الافتراء على هذا الأمر طوال فترة ولايته، خاصة فيما يتعلق بالدفاع عن باكس أمريكانا. في عام 2013، بينما كان الرئيس أوباما يفكر في شن غارات جوية لمعاقبة النظام السوري على قتل المدنيين بالأسلحة الكيماوية، قاد البابا مئة ألف شخص في وقفة صلاة من أجل السلام في ساحة القديس بطرس. ولدى سؤاله عن الحملة التي قادتها الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق عام 2014، قال البابا إنه “من المشروع إيقاف المعتدي الظالم” قبل أن يضيف بشكل غير مجدٍ “أنه لا يصح أن يكون أمر تحديد طرق وكيفية إيقاف الظالم بيد أمة واحدة”.
في رسالته العامة لعام 2020، “Fratelli tutti – الإخوة، جميعًا”، أكد فرانسيس أنه “من السهل الوقوع في تفسير واسع جدًا لهذا الحق المحتمل” في الدفاع المسلح عن النفس، لا سيما بالنظر إلى التهديد النووي الحديث الذي يجد المدنيون أنفسهم عرضة له. كتب: “من الصعب للغاية في الوقت الحاضر التذرع بالمعايير العقلانية التي تم وضعها في القرون السابقة للتحدث عن إمكانية” الحرب العادلة “. ربما لهذا السبب لم يجرؤ على أن تطأ قدمه أوكرانيا منذ حصار ماريوبول ومذبحة بوتشا.
بالنسبة لفرانسيس، كما بالنسبة لليسار الكوربييني، يكمن الخلاص في الأمم المتحدة، وهي مؤسسة يبدو أنه ينظر إليها باحترام صوفي. وكتب يقول: “إن ميثاق الأمم المتحدة، عند تطبيقه بشفافية وإخلاص، يكون مرجعية إلزامية للعدالة وقناةً للسلام”. هذا هو نفس الميثاق الذي يمنح الأنظمة المارقة حرية التصرف في انتهاك حقوق الإنسان مع الإفلات من العقاب طالما أنها تفعل ذلك داخل حدودها. ولم يتوقف ليعتبر أنه بدون قوة الحلفاء، لم تكن الأمم المتحدة لتُنشأ في المقام الأول. كما أنه لم يذكر السجل الكئيب الموحد للأمم المتحدة في منع النزاعات المسلحة، في أوكرانيا وأماكن أخرى لا حصر لها.
لا يمكن اعتبار أي من هذا كترجمة محكمة لنظرية الحرب العادلة، إذا تحدثنا بصيغة ملطفة. بالكاد يمكن للمرء أن يتخيل أن هذه السلسلة من البروميدات الصبيانية يتم التعرف عليها، ناهيك عن تمجيدها، من قبل أمثال أوغسطين أو الأكويني. كان الدعم البابوي للعدوان العسكري شائعًا في يوم من الأيام. دعا البابا في العصور الوسطى إلى شن الحروب الصليبية ضد المسلمين و(دائمًا) اليهود في الأرض المقدسة. قاد البابا يوليوس الثاني الفرسان إلى المعركة ضد الحكام الإيطاليين المتنافسين، واحتفظ الفاتيكان بقواته المسلحة حتى أواخر القرن التاسع عشر. كان آخر تأييد روما الكامل للحرب عندما قدس غزو الجنرال فرانكو لإسبانيا، وهو مشروع مسلح تم بدعم من هتلر وموسوليني.
من الواضح أن هذه الشوفينية الوحشية لم تعد تشكل خطرًا في الوقت الذي يُظهر فيه الكرسي المقدس نبذًا انعكاسيًا وشبه مطلق للعنف. لكن كون الفاتيكان لم يعد خطيرًا لا يعني أنه لم يعد يبعث على الأسى. ميز ماركو بوليتي، الخبير في الفاتيكان، أثناء كتابته للموقع الإلكتروني للصحيفة الإيطالية اليومية، النهجَ الذي تبناه البابا بيوس الثاني عشر في السنوات الأولى من الحرب الباردة. على عكس المحارب البارد القوي في الماضي، لا يطمح فرانسيس إلى أن يكون “القسيس العسكري للغرب”. من الواضح أن الخلط بين هذا، وبين “القسيس العسكري للكرملين” مسألة منفصلة.
مؤرخ القرن التاسع عشر والسياسي توماس بابينجتون ماكولاي قال ذات مرة إن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية تستحق الثناء لقدرتها على احتواء “الحماس (ولاحقًا التطرف ربما. ملاحظة المترجم)” الذي غالبًا ما كان يزدهر في صفوفها. اليوم، لم تعد مشكلة الكنيسة هي التعصب العنيف (وهو تقدم من نوع ما)، ولكن عدم الجدية والفراغ الأخلاقي فيما يخص الشؤون الأرضية. العنف المنظم الوحيد الذي يبدو أن فرانسيس غير قادر على إدانته بشكل لا لبس فيه هو عنف المتعصبين الدينيين الذين يتعرض نبيهم للتشهير. إن حمل السلاح للدفاع عن أرض المرء أمر لا يطاق ولا يمكن تحمله، لكن قتل المدنيين نيابة عن أيقونة مطعون فيها يُخَفَّفُ ويمكن تقبله إلى حد ما تحت مبدأ “لا يمكن للمرء أن يسخر من الإيمان”.
في مقالته عام 1949 عن غاندي، نصح جورج أورويل أنه “يجب دائمًا محاكمة القديسين مذنبين حتى تثبت براءتهم”. إن التبجيل الذي يحف حديث الناس عن تصريحات البابا فرانسيس بشأن الحرب في أوكرانيا ومناقشتها يشير إلى عكس ذلك؛ أيْ إنْ سمعته كرجل سلام ستكون على وشك أن تنقلب بسبب تفاهة أفكاره المروعة. إن هذا النوع من المسالمة التي يتبناها لن تجلب السلام، بل ستؤجج فقط ثقة وشهية المعتدين. إذا كان الأوكرانيون لا يهتمون بالبابا اليوم أكثر مما اهتم البريطانيون بغاندي عام 1940، فذلك لأنهم يدركون أن السلام ليس استسلامًا واسترضاءً؛ بل هو الهدف الأكثر شرعية للحرب.