منشورات سياسية على جدران الكرملين
روسيا السوط الإمبريالي الذي يجلد الثورات
بعد التمخُّضات السياسية التي شهدها العالم في العقد الأخير للقرن العشرين؛ والتي أفرزت تحولات جذرية في النظام الدولي، شكلت روسيا إشكالًا للذين يحاولون التسلل لمعرفة أقبيتها السياسية. فروسيا دولة حيرت المحللين الجِيُوسياسيِّين بفلسفتها السياسية التي تتسم بالضبابية من جهة، وبالازدواجية من جهة أخرى.
فأما الأولى فمردُّها للطبيعة السياسية التي تتبناها؛ فهي لا تحسب مع زمرة الديمقراطيين ولا مع نفر المحافظين، رغم العباءة الدينية الأرثوذكسية التي ما زالت تتحجب بها، خلافًا لباقي الدول الغربية. الأمر الذي جعل بعض المراقبين للمشهد الروسي يخترعون مفهومًا سياسيًا جديدًا لتوصيف الفلسفة السياسية الروسية (الديمقراطية اللاليبرالية).
فهي عصية على التصنيف تحت مظلة سياسية أو مفهوم أيديولوجي معين. وهذا ما ساعدها في قبضتها المحكمة على مفاصل الدولة منذ أزيد من عقدين. وهذه الضبابية ليست حكرًا فقط على السلطة الروسية، بل حتى المعارضة الداخلية هي الأخرى تتسم بنوع من الموالاة للسلطة. فهي تسير على نفس المنوال الذي رسمه لها النظام الروسي القائم؛ فهي معارضة شكلية على قلب واحد مع الحكومة القائمة.
صحيح أنه يحق لها انتقاد الحكومة داخل مجلس “الدوما”، لكن سياسية المعارضة تبقى عقيمة وموالية نوعًا ما فيما يتعلق بالقضايا الكبرى والانتخابات. أما المعارضة الروسية الحقيقية فتتمثل أساسًا في المعارضة الخارجية، والتي يمثلها “أليكسي نافالني” الذي تم الالتفاف عليه، وزُجَّ به في السجن، وأجهضت ثورته في ريعان ايامها.
أما الأمر الثاني فهو يتعلق بالأساس بالسياسة الخارجية التي تتبناها روسيا؛ فهي سياسية مزدوجة بين المعارضة التي تتسم بنبرة التحدي للمشاريع التدخلية والنظرة الاستعلائية للغرب، وبين المشروع الإجهاضي للثورات التحررية الساعية لصد براثن الطغيان. فروسيا تشكل اليوم العمود القمعي الذي يتكأ عليه أغلب طغاة العالم لإخماد التحركات الشعبية المُطالِبة بنفض غبار الاستبداد والسلطوية عن بلدانهم. كان آخرها ما حدث في كازاخستان.
وهذا التصور السياسي المزدوج ليس بدعة من بوتين؛ فهو نفسه ورثه من الاتحاد السوفيتي؛ فالاتحاد السوفيتي كان يتلفع برداء الحرية ودعم الثورات، والحقيقة أنه كان مجرد مشروع احتلالي للبلدان التي كانت تنضوي تحت لوائه. فدعمه للثورة الكوبية وأمريكا الجنوبية الثائرة على أمريكا وبلدان شرق آسيا، وبعض الدول العربية ليس لعيون القيم التحررية وليس غرضه الاصطفاف بجانب الحركات الاستقلالية؛ بل ما هو إلا تجاذب سياسي، وتحاقن أيديولوجي في إطار الحرب الباردة لخدمة المصالح الخاصة لروسيا السوفيتية. وخير مثال على ذلك “ربيع براغ” في التشيك سنة 1968، بقيادة “ألكسندر دوبتشيك” والذي كان يعتبر مشروعًا إصلاحيًا وليس تحرريًا أو مطالبة بالتفكك عن الاتحاد السوفيتي. وقد أثار هيجان موسكو وكبحَتْه الترسانة العسكرية السوفيتية باجتياح عسكري للبلاد من طرف قوات “حلف وارسو” بقيادة الاتحاد السوفيتي.
انسلاخ روسيا من كنف الاتحاد السوفياتي وانعكاساته
بعد أفول الاتحاد السوفيتي في مطلع العقد الأخير من القرن العشرين أحست روسيا أنها الوريث الشرعي والابن البار لمجد الاتحاد وإرثه الاقتصادي والسياسي. فحاولت أن تتمسك قدر الإمكان ببقايا قوة الاتحاد السوفيتي لضمان استمرارية هيمنتها، رغم الإرهاصات التي تلت الانهيار. وذلك من خلال تبني رؤية سياسية مختلفة تقوم على تخطي الوصايا الأيديولوجية للاتحاد الاشتراكي؛ من أجل كسب ود الغرب بالتحديد.
وقد تجسد هذا التصور السياسي الجديد مع وصول “بوريس يلتسن”؛ الذي يعتبر من أنصار التوجه الغربي. إلا أن هذه الرؤية آلت إلى الانهيار، وفشلت فشلًا ذريعًا. حيث فقدت روسيا مكانتها كمؤثر في الساحة السياسية العالمية، وأصبحت مجرد مراقب لما يجري في العالم من تحولات، وأصبحت كذاك الطريح في فراش الموت الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، ويستنشق حسرات الموت وآهات العجز؛ متذكرة الاتحاد السوفيتي والسنين الخوالي.
والحقيقة أن “بوريس يلتسن” كان يعلق آماله بالغرب ظانًّا أن التوجه الغربي لروسيا سيشفع له، ويحقق إقلاعًا اقتصاديًا، ويخرجه من العزلة والانتكاسة التي رانت على كيان الدولة ومفاصلها. فمحاولة روسيا لتغيير جلدتها الاشتراكية إلى الرأسمالية بشكل سريع أدى إلى تضعضُع اقتصادي وانكماش حاد، أثَّر على وضعيتها وفاقَمَ أزمتها الاقتصادية. ولامست البلاد حافة الانهيار، كما أسفر عن تأزم خانق للوضعية المعيشية للشعب الروسي. إضافةً الى هذه العوامل؛ كان للوضع الداخلي للبلاد انعكاس سلبي زاد الطين بلة، ويكمن بالأساس في حالة الفوضى وتحكم المافيا بالقرارات السياسية والاقتصادية ناهيك عن التغلغل الحاد للفساد في أواصر المؤسسات الروسية.
روسيا في عهد بوتين بين الإنقاذ والبناء
بعد مجيء “فلاديمير بوتين”، ضابط المخابرات السابق في “كي جي بي”، وتقلُّده مقاليد الحكم كرئيس لروسيا الاتحادية سنة 2000؛ وجد البلاد على حافة الانهيار وتعيش على واقع سياسي؛ أقل ما يقال عنه إنه مشلول. فأخذ على عاتقه مسؤولية إعادة تشكيل روسيا، وبناء اقتصاد متين. وهذا الامر كان يحتاج إلى حسم أمني من أجل إعادة استتباب الأمن ومواجهة الانفلات الصارخ الذي كانت تعيشه البلاد.
لذلك قام بشن حملة شرسة على المافيات الروسية ومحاصرتها، بالإضافة إلى ملاحقة رموز الفساد في البلاد. وهذه الخطوات كان لها وقع إيجابي على الحالة الاقتصادية بالأساس؛ حيث انتعش الاقتصاد من جديد واسترجع عافيته بعد سنوات من الكساد والخمول. أما على الصعيد السياسة الخارجية؛ فقد حاول بوتين أن يسمك العصا من وسطها. وذلك من خلال الميل نحو الدول الغرب بتوجس وبخطوات حذرة، مع المحافظة على دور روسيا كلاعب أساسي في الساحة السياسية الدولية.
رغم أن روسيا حينها كانت تعيش على وقع ثنائية أيديولوجية متضاربة بين التيار المناصر للغرب وبين التيار المحافظ؛ الذي يصر على أن تكون علاقة روسيا بمعزل عن الغرب، وفي أحسن الأحوال مبنية على أساس مبدأ إثبات القوة أولًا. ويظهر بشكل جلي أن هذا الموقف الثنائي للفاعلين السياسيين داخل روسيا قد أثر على السياسية الخارجية لروسيا، خاصة في تعاطيها مع الغرب.
روسيا في ميزان العلاقات الخارجية بين التوجس والتحدي
المنطق السياسي الخارجي لروسيا يخضع للكثير من التأويلات، وللعديد من التفسيرات في الحقل الجِيُوسياسي. وذلك -كما أسلفت الذكر- لطبيعة السياسة الخارجية التي تتبناها روسيا تجاه العالم، وتجاه الغرب بصفة خاصة. فالخطاب الروسي مزدوج بين الموالاة والمعاداة؛ موالاة الأنظمة السلطوية، ومعاداة التوسعات “النيو إمبريالية” في العالم.
والحقيقة هذه المعاداة معاداة عقيمة؛ فهي لا تعادي المشاريع التوسعية نصرة للقيم التحررية، ولكن تعادي هذه التوسعات لأنها تتضارب مع مصالحها. وهذا شبيه بمعاداة الفاشية والنازية في القرن الماضي للإمبريالية. ولمواجهة هذا التمدد تسعى روسيا لجمع دول السلاف، ومسلمي آسيا الوسطى، ودول ذات قوميات كإيران والصين؛ تحت مظلة تحالفية، لمواجهة الخطر الغربي وحلف الناتو؛ الذي يداهم المصالح الروسية في العديد من المناطق.
بالإضافة إلى هذا؛ فهناك تصور سياسي للفلسفة الخارجية الروسية مهم جدًا. والذي يكمن بالأساس في تبنيها لموقف صراع الحضارات في مقاربتها للعلاقات الخارجية. وهذا ما يفسره التقارب الأيديولوجي مع الصين والهند وإيران، بالإضافة إلى اليمين الغربي كالجبهة الوطنية الفرنسية بقيادة “مارين لوبان” وحزب الرابطة الإيطالي بقيادة “ماتيو سالفيني”، وفي بولندا والمجر.
أما المسألة الثالثة؛ فهي تتمثل في نظرة روسيا للتحالفات مع باقي دول العالم. فتحالفاتها السياسية نسبية تقوم على مبدأ البراغماتية السياسية؛ فأينما حُصلت مصلحتها تقيم تحالفات وتربط علاقات. فمثلًا هي ضد تركيا في سوريا، لكن خارج سوريا تجمع بينهما تقاطعات وأهداف. وكذلك ما حصل السنة الماضية إبان الصراع بين أذربيجان وأرمينيا، حول إقليم “ناغورنو كاراباخ“؛ حيث كانت روسيا مع أرمينيا بينما اصطفت تركيا مع أذربيجان. وهي مع نظام الأسد وإيران، لكنها تنسق مع إسرائيل لضرب النظام وإيران، وكان آخرها قصف مرفأ اللاذقية. وما يحدث الآن في أوكرانيا يشهد هو الآخر على نسبية العلاقات بين روسيا ودول العالم.
روسيا مشروع لتصدير الأنظمة السلطوية وكبح الثورات
لا تنظر روسيا للديمقراطية كقيمة سياسية بنظرة إيجابية، لكن كبضاعة غربية لا بد من مواجهتها. فالديمقراطية والليبرالية عنوانان عريضان وشر لا بد من درئه لضمان قوتها واستمرار توغلها. وفي سبيل ذلك؛ وظفت كل مقوماتها، واتكأت على سياسة تقوم على وأد الثورات وتصدير الأنظمة السلطوية.
فأما الأولى فتتضح بجلاء في طريقة تعاطي روسيا مع الثورات والانتفاضات في العالم. خاصة تلك التي تندلع في دول تعتبرها روسيا حليفة لها. والحقيقة أن هذه دول في المعيار الروسي ليست حليفة، بل مناطق نفوذ ومصالح؛ خاصة تلك الدول التي كانت تحت لواء الاتحاد السوفيتي، والتي تنظر إليها كمستعمرات أو كما يعتبرها بعض الساسة “الحديقة الخلفية” لروسيا؛ التي لا ينبغي التفريط بها ولا السماح “لدنس” الديمقراطية الغربية أن يلامسها.
فهاجس الخوف هو الذي يدفع روسيا للتدخل بكل قوتها، وليست مسألة الدفاع المشترك أو تحالفات إقليمية. وكان آخرها تدخل روسيا في كازاخستان في كانون الثاني مطلع العام الجاري؛ لوأد الاحتجاجات الشعبية الساخطة على ارتفاع الأسعار وتدني مستوى العيش في البلاد؛ حيث مالت روسيا لجانب الحكومة، وأرسلت مئات الجنود والمعدات العسكرية لمساعدة النظام الكازاخستاني، بل حشدت مجموعة من الجنود والدول لدعم النظام الكازاخستاني في إطار ما يسمى بمنظمة معاهدة الأمن الجماعي. وهي عبارة عن تحالف سياسي عسكري يضم الدول التابعة للاتحاد السوفيتي سابقًا. وتعتبر روسيا أكبر مستفيد من تشكليه.
فروسيا أحست بريح ستعصف بالنظام الكازاخستاني الذي يعتبر مواليًا وحليفًا لها في المنطقة؛ فسارعت لإنقاذه من الورطة التي كان يرزح تحت وطأتها. كما أن روسيا ترفض أي تغير للواقع الجغرافي والسياسي في المنطقة المحيطة بها؛ فعندما شعرت روسيا سنة 2008م أن جورجيا تحاول فرض واقع سياسي جديد في المنطقة، والسيطرة على مقاطعتي أوسيتيا وأبخازيا (وهما منطقتان مواليتان بصفة كاملة لروسيا، تعترف روسيا أنهما جمهوريتان مستقلتان، بينما تراهما جورجيا منطقتين من أصل جورجي)؛ قامت القوات الروسية بهجوم مضاد سريع على جورجيا. الأمر الذي أسفر عن اندلاع حرب بين البلدين.
روسيا والأنظمة العربية “وافق شن طبقة”
علاقة روسيا بالأنظمة العربية علاقة وطيدة، منسوجة منذ أيام الاتحاد السوفيتي؛ خاصة مع الأنظمة التي كانت تتبنى الأيديولوجية الاشتراكية (الناصرية والبعثية). والتي لم تطبق منها إلا القشور والعناوين البراقة، إلا أن هذه العلاقة أخذت منحنى مغايرًا بعد اندلاع الربيع العربي. فروسيا كانت ترى في الربيع العربي خطرًا كبيرًا عليها، لذلك عملت على إجهاضه. وذلك لسببين: أما الأول فيكمن في خشية روسيا من تدخل الغرب ومساندته للثورات التي نشبت في مجموعة من الأقطار العربية، وأما السبب الثاني؛ فمردُّه لخوف روسيا من تصاعد التيار الإسلامي، من خلال قنطرة الثورات، ووصوله لسدة الحكم. وهي التي ذاقت الويلات مع التيارات الإسلامية (خاصة في الشيشان وباقي جنوب روسيا). وتدخل روسيا في البلدان العربية يمكن أن يلاحظ بشكل أساس في ليبيا وسوريا.
1- روسيا في المستنقع السوري
كان نظام الأسد على شفا حفرة من الانهيار؛ لولا تدخل روسيا الحاسم في اللحظات الأخيرة سنة 2015؛ للملَمَة جراحه وتقويته. وتدخل روسيا في سوريا بمنظور تحليلي؛ ما هو إلا محاولة لاسترجاع الأمجاد السوفيتية، ولاسترجاع مكانتها كفاعل عسكري في العالم، وما هو إلا إرادة روسية لتصريف فائضها العسكري، واكتساب ميدان تدريبي لمحاكاة حالة حرب لجنودها. كما أنها اتخذت منها ميدانًا للتخلص من أسلحتها الكاسدة وتجريب أسلحة جديدة الصنع. وهذا ما صرح به وزير الدفاع الروسي “سيرغي شويغر” الذي قال في أحد تصريحاته: “جربنا أكثر من 320 نوعًا من الأسلحة في سوريا”. ناهيك عن خلق ذرائع من أجل إلباس وجودها العسكري ثوبًا شرعيًا، وحلب المناطق الحيوية التي تزخر بها سوريا، خاصة حقول النفط.
2- روسيا في ليبيا، بلاك ووتر النسخة الروسية
إذا كان تدخل روسيا في سوريا يكتسي طابعًا رسميًا؛ ويتمثل في الجيش الروسي، فإن روسيا في ليبيا حكاية أخرى تتسم بطابع النفي من قبل موسكو. فهي تنفي أي وجود عسكري لها في ليبيا، وتدعي أنها تنخرط في العملية السياسية من أجل إيجاد حل للأزمة اللبيبة دون تدخل مباشر.
لكن وراء هذا الموقف حقيقة مختلفة تمامًا؛ فالمراقبون للوضع الليبي يؤكدون وجود روسيا، ولكن هذه المرة من خلال شركة أمنية تسمى “فاغنر”. وهي عبارة عن شركة أمنية روسية تضم مجموعة من المرتزقة تنفذ الأجندات الروسية في ليبيا. ويعتقد أنها مملوكة لرجل الأعمال “يفغيني بريغوجين”؛ الذي له صلات وثيقة بالرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”.
ففي أكتوبر 2018؛ نقلت “ذا صن” البريطانية عن مسؤولين في المخابرات البريطانية أنه تم إنشاء قاعدتين عسكريتين روسيتين في بنغازي وطبرق، شرق ليبيا. ضلوع مرتزقة فاغنر لا يلاحظ فقط في ليبيا، بل في عدة دول تشهد نزاعات كإفريقيا الوسطى ومالي وسوريا، وفي الحرب في دونباس في أوكرانيا؛ حيث أصبحت هذه الشركة الأمنية القوة الضاربة لروسيا، ووسيلة تدخل تتستر تحتها في المناطق التي لا تريد أن تتدخل فيها بصفة مباشرة. وهي شبيهة بوكالة بلاك ووتر الأمريكية التي كانت تحصد جماجم العراقيين إبان حرب العراق.