القضية الفلسطينية ومنطلقات فكر التحرر
في تاريخ الصراع بين المسلمين وأعدائهم الموزع على مجموع القضايا التي ساهمت تطورات الأحداث فيها في رسم الواقع الذي نعيشه اليوم، والمشهد المعاصر ما هو الا أحد فصول المعركة الممتدة في التاريخ، وبما أن الصراع الدائر هو الانعكاس لصراع الأفكار، وبما أن التاريخ المعاصر شهد تواجد اتجاهات فكرية متعددة، مثلت محركات أفكار تغلغل الكثير منها في عالمنا الإسلامي ووجد له موطئ قدم بين النخب، فقد استبغ الصراع بهذه الخلفيات الفكرية عند حامليها، ورفعت هذه الخلفيات كشعارات في الصراع، ما وجه القضايا المطروحة في الواقع بحسب ما تقتضيه تلك الأفكار، ويمكن أن نقول أن الفكرة و التصور هو الزاوية التي يرى منها الإنسان واقعه والعلاقة بين أطرافه، بالتالي موقفه من مختلف القضايا المطروحة وطريقة تعامله معها..
وكنموذج على قضايا أمتنا، سنأخذ القضية المركزية فيها وهي قضية المقدسات، ومن المقدسات سنتناول قضية أول القبلتين وثاني الحرمين الشريفين المسجد الأقصى، ونحاول تحليل أثر الخلفيات الفكرية المختلفة التي طرحت على الساحة قديمًا وحديثًا، وانعكاسها على مسار الصراع.
خلفية المنهج الشيوعي
إثر قيام الثورة البلشفية على حكم القيصر في روسيا سنة 1917، ظهر لينين يحمل الفكر الشيوعي الذي أسسه كارل ماركس نظريًا ثم حول لينين مجموع أفكاره إلى حركة، وأقيمت على إثر الثورة البلشفية حكومة اشتراكية فيما يعرف بالاتحاد السوفياتي.
ورغم أن الثورة البلشفية قامت على أفكار الحادية، إلا أن القائمين عليها وأغلبهم كانوا من اليهود قد وضعوا من قراراتها اعتبار العداء لليهود عداء للجنس السامي يعاقب عليه القانون، والاعتراف بحق اليهود في إنشاء وطن قومي في فلسطين، وقد صدرت هذه القرارات قبل صدور وعد بلفور بأيام قليلة.
كما عملت الشيوعية على إيجاد موطئ قدم لها في البلاد العربية، وكونت أحزاب تنادي بمبادئها، فكان تأسيس أول حزب شيوعي في هذه المنطقة بفلسطين على يد يهودي روسي اسمه روزشتاين، ثم أرسلت روسيا لتنظيم الحزب في فلسطين كل من جاك جابيليف ورادول كارن بيرغ، وقد كان الحزب في البداية لا يضم إلا اليهود، ثم سُمح بضم العرب تدريجيًا.
وأُسست الأحزاب الشيوعية في كثير من البلدان العربية بنفس الشاكلة في مصر والعراق وبين الأردن وفلسطين وبين سوريا ولبنان وغيرها.
مثّل الاتحاد السوفياتي في بداية الثورة وبعدها المركز الذي يستلهم منه الشيوعيون العرب تصوراتهم وأفكارهم ومواقفهم، وقد أدى اعتناق المنتمين لهذه الأحزاب للشيوعية بما تحمله من مبادئ هدامة، إلى توجيه مواقفهم المتعلقة بالقضايا المحلية حسب ما تقتضيه المصالح البلشفية، وحسب ما تقره الشيوعية تجاه الهوية والوحدة والدين، وقد لعبت هذه الأحزاب دورًا كبيرًا في صرف الصراع عن حقيقته وتحويله إلى مجرد صراع هامشي لا يعتبر قضية المقدسات عاملًا أساسيًا فيه.
فبينما كانت الشيوعية تقوم بالمجزرة تلوى الأخرى وتوغل في دماء المسلمين في كل من تركستان الشرقية والغربية ويوغسلافيا والقرم والشيشان والشركس، وتبيد منهم الملايين وتهجر شعوبًا بأكملها وتحاصرهم بالمجاعات، وتهدم المساجد وتمنع المسلمين من كل حقوقهم وتطارد وتقتل علمائهم، بينما كانت الشيوعية تقوم بهذه الجرائم وفي بداية نشوء الكيان الصهيوني كان شيوعيو الأحزاب العربية يكتبون إلى موسكو بأن إنشاء وطن قومي لليهود هو الطريقة الوحيدة والوسيلة الناجحة لبلشفة العالم العربي، وقال يوسف سلمان سكرتير الحزب الشيوعي في العراق مرحبًا بإنشاء دولتين عربية ويهودية في فلسطين واشترط لهما الاشتراكية والتحالف ضد الرجعية الدينية.
وألقى فؤاد نصر سكرتير الحزب الشيوعي الأردني سنة 1957 كلمة قال فيها إننا نعلم ويعلم الجميع بأن اسرائيل أمر واقع لها كيانها السياسي والاقتصادي والعسكري، وأن اليهود شعب كباقي الشعوب، له حقه في الحياة، وأنا أعترف باليهود كدولة لأن الشمس لا تُغطى بالغربال.
أما موقع الشيوعية من الصراع الذي تعيشه الأمة فقد تراوح بين مؤيد للوجود الصهيوني في بدايته ثم تحول إلى قبول الكيان الصهيوني وفكرة التعايش بعد قيام دولة إسرائيل ثم أصبحوا حاملين للواء الأنسنة وتمييع القضايا المركزية التي يجتمع عليها المسلمون.
أما تأثيرهم في حقيقة الصراع فقد مثلوا دائمًا مثبطًا للأمة وشاغلًا لها في متاهات بعيدة عن حقيقة الحرب التي تعيشها، بل كانوا دائمًا ضد أي عمل تحرري يُبنى على الدين الإسلامي، حتى تحولوا إلى خصوم لهذا الدين، وواجهة استعمارية تمر سموم الغرب من أفكار ودعاوي شاذة من خلالها.
خلفية الفكرة القومية
يرجع البعض بداية تشكل الفكرة القومية العربية في الأمة من حملة نابليون بونابارت على مصر، والتي تأثر بها فيما بعد محمد علي باشا، الذي بدأ في رسم الدولة القومية المصرية على الطراز الغربي، وقام باستجلاب كوادر غربية عملوا على إحياء الشعور القومي بين تلامذتهم، كما أرسل محمد علي البعثات إلى فرنسا والذين عادوا يحملون بذرة القومية والتأثر بمبادئ الثورة الفرنسية.
وقد أرسل محمد علي ابنه إبراهيم باشا إلى الشام، كخطوة لتأسيس إمبراطورية قومية عربية، تنافس القومية التركية، وكانت تركيا في ذلك الوقت قد حدث فيها إثارة للشعور القومي عن طريق اتصالهم بالكوادر العسكرية الألمانية التي وقع استجلابها لتطوير الجيش، والذين حملوا معهم القومية الطورانية وعملوا على بثها في من حولهم، كما عملت الجمعيات كتركيا الفتاة والاتحاد والتركي على إذكاء النزعة القومية واتجهت البلاد نحو التتريك التام، ومع انتشار الفكر القومي في الشام عمل إبراهيم باشا على إلغاء أحكام الشريعة خاصة تلك التي تقيد نشاط النصارى، ما ساعد على انتشار الجمعيات التبشيرية التي حملت القومية ضمن أهدافها.
وقد ساهمت القومية المتصاعدة على تشتيت وحدة القوى التي كانت تمثلها الخلافة العثمانية، ومهدت لتفكيك الأمة إلى دول التجزئة على الشكل الذي أقرته معاهدات مثل سايكس-بيكو التي اقتسمت فيها التركة العثمانية إلى قوميات.
وكان وعد بلفور بوطن قومي لليهود على أرض فلسطين في هذا السياق، فالترابط بين معاهدة سايكس-بيكو وبين وعد بلفور هو ترابط حتمي، فلا يمكن أن تسقط السطوة على فلسطين إلا بسقوط المعاهدات الاستعمارية التي مهدت للاحتلال الصهيوني والتي تعمل بشكل مشابه على بقاء الهيمنة الغربية على بقية الدول، والتي قيدت الشعوب الاسلامية داخل سجون كبيرة يقوم عليها كلاب حراسة يرعاهم الغرب، يسهرون على إنفاذ مخططاته التي تصب كلها في حرب المكون الأساسي الذي من شأنه أن يوجه المعركة ضد الاحتلال وجهة صحيحة وهو الدين، ويعملون على سلب المسلمين حقوقهم في ثرواتهم وتأمين قنوات عبور لحركة النهب الدولي، وتسخير الطاقات البشرية والحيوية لخدمة الهيمنة.
في هذا السياق من توفير الغطاء الشرعي للاحتلال، جاء قرار تأسيس جامعة الدول العربية قبل إعلان قيام الكيان الصهيوني بسنة واحدة، وقد وقع الاختيار على دول بعينها لتتأسس عليها هذه الجامعة، وهي مصر، الأردن السعودية، سوريا ولبنان، ومعهم اليمن، وما عدا اليمن فكل هذه الدول هي التي لها تأثير مباشر في قضية فلسطين لكونها على الحدود، بينما أهمية اليمن بالنسبة للكيان الصهيوني هو وجود مضيق باب المندب الذي يمثل المنفذ الأساسي لإسرائيل، ثم لحقت بقية الدول العربية، لذلك يبدو واضحًا أن هذه الجامعة كان عندها وظائف محددة منذ تأسيسها، منها تقديم واجهة رسمية محددة للصراع، والابتعاد عن جوهر القضية.
كما أدت الفكرة القومية إلى إخراج بقية المسلمين من غير العرب من دائرة التركيز، وحصرت الاهتمام بقضايا الأمة في إطار ضيق مقارنة بالتواجد الإسلامي الممتد على الخريطة.
خلفية المشروع الصفوي
دائما ما نسمع ونرى في نشرات الأخبار التظاهرات التي تحمل الشعارات المعادية لأمريكا والعداء لإسرائيل في إيران أو في البلدان العربية التي يوجد فيها جماعات موالية لإيران، لكن يبدو المشهد في الواقع مخالف لهذا تمامًا، فإذا حاولنا أن نتعرف على الدور الإيراني من خلال الوظائف التي تقوم بها إيران والجماعات الموالية لها في مختلف الصراعات التي تعيشها أمتنا، سنكتشف أنها تقدم خدمة كبيرة وفريدة لأمريكا وإسرائيل.
لإيران مطامح في إعادة الامبراطورية الفارسية الصفوية، ولهذا تعمل من خلال الجماعات الموالية لها على تصنيع مصلحة لأمريكا واسرائيل، تتمكن من خلالها من الانتشار أكثر وضمان بقاء العمل على مشروعها النووي، ففي لبنان يمثل حزب الله حاجز عن أي مقاومة سنية متوقعة تنطلق نحو الكيان الصهيوني، وأداة لإضعاف أي تكتل سني داخل البلاد.
وفي سوريا دخل حزب الله ليدعم الدور الروسي والأمريكي في إجهاض إي محاولة للتحرر، وقد اقترفت الميليشيات الشيعية مجازر وانتهاكات كبيرة في حق المدنيين والعزل في سوريا وقدمت خدمة مميزة لأعداء الأمة ودعمت بقاء بشار الأسد.
يتكرر نفس الدور في اليمن حيث حملت جماعة الحوثي السلاح وانقلبت على الثورة الشعبية اليمنية، تحسبا لتكون كيان سني يمني، وللسيطرة على مضيق باب المندب الاستراتيجي والذي يمثل منفذ أساسي لإسرائيل.
وفي العراق كان الاحتلال الأمريكي معززًا بمليشيات الشيعة، وتقدموا الصفوف في حرب سلّمت الشعب والبلاد وثرواتها ليد الأمريكان، كذلك تعمل التكتلات البشرية الموالية لإيران في دول الخليج كأداة ضغط تقوي قبول الهيمنة الأمريكية عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا أكثر فأكثر، وقبل ذلك عملت الفصائل الشيعية في أفغانستان على إضعاف الجهاد الأفغاني ضد الاحتلال الروسي، ثم حملوا السلاح بعد خروج الروس للاستحواذ على السلطة في نصر لم يشاركوا في صناعته..
إن الشعار المرفوع في المحافل الشعبية في إيران أو من الجماعات الموالية لها كحزب الله وغيرها، ماهي إلا شعارات لا حقيقة لها في واقع الأحداث، بل تقوم السياسة الإيرانية على العمل مع الاحتلال الأمريكي والاحتلال الصهيوني ميدانيًا بما يوافق مزيدًا من تغلغل الهيمنة في كل أرض وجد فيها هذا الولاء لإيران، وترسيخ للقدم الصهيونية على أولى القبلتين وعلى الشام، والقدم الأمريكية على بلاد الرافدين واليمن وغيرها من بلاد المسلمين، ما يعد تواصل لنفس الممارسات المتكررة في التاريخ،
خلفية الفكرة الديمقراطية
ككل نظام عالمي يعمل على الهيمنة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، يسعى النظام العالمي الحالي بقيادة أمريكا على التبشير بالمنظومة القيمية الغربية كنموذج مفروض على مختلف الحضارات التي تشملها هذه الهيمنة، ما يجعل من تحدي إلغاء كل الموروث الثقافي الذي يخالف أو يصادم هذه المنظومة الغربية في قمة أولويات العاملين على بقاء حلة الهيمنة، فإذا كانت الحروب الصليبية قديمًا تحدث تحت شعارات نشر والتبشير بالمسيحية والمطامع الاقتصادية، فقد تحولت الحروب المعاصرة إلى نشرٍ وتبشيرٍ بمبادئ الديمقراطية والرأسمالية والليبرالية لإدخال بقية الأمم تحت المنظومة القيمية الغربية.
إن نشر الديمقراطية والمدنية بمفهومها الغربي يعتبر أحد أبرز الأسلحة التي تدعمها اليوم القوى الاستعمارية لتقييد أي محاولة خروج عن نظام الاستبداد الدولي، وإدخال مئات الملايين في الشعوب داخل منظومة العبودية الغربية، وفي هذا الاتجاه تُبنى أطروحات التوافق العالمي وحوار الحضارات وقبول الاخر، وتُؤسس مراكز بحثية تضخ فيها الأموال وتشحن فيها الطاقات العربية لصناعة التلبيس بين مفاهيم الديمقراطية والإسلام، وإخضاع الدين الإسلامي للمنظومة القيمية الغربية، يقع بالتالي تضخيم نقاط التقاطع ثم محاولة أسلمة ما يمكن من أفكار علمانية، بالتالي صناعة دين جديد فاقد للفاعلية، خاضع للأخر، معادي للتراث، قابل للتبعية.
وقد استغل الغرب وجود تيارات قابلة للانحناء أمام سلطة الثقافة الغالبة، ليعمل من خلالها على تجذير قيم كالديمقراطية بين الشعوب المسلمة، وصناعة مقاومة ديمقراطية متوافقة منزوعة المخالب، تعمل على تخدير الجماهير والتفلت من كل مواجهة مع الأعداء.
إن القضية الفلسطينية كمثال لقضية الأمة بأسرها، ما هي إلا قضية الذات الحضارية المسلمة التي تواجه احتلال قوى غربية، فإذا فقدت هذه الذات الحضارية خصائصها الدينية والتاريخية وذابت في الحضارة الغالبة بقبول العمل من داخل المنظومة القيمية التي صنعها وأرساها عدوها وبالأساليب التي يريد لها أعداؤها العمل بها، فإن عوامل القوة ستقل بينما قيود الأعداء ستكثر مع كل تنازل جديد لما تفرضه الثقافة الغالبة، كما سيسرع هذا المسار في تغريب الشعوب المسلمة وسلبها مقوماتها أكثر فأكثر.
لقد مر على تاريخ الصراع الذي تعيشه الأمة في تاريخها المعاصر وبعد سقوط كيانها الجامع الممثل في الخلافة، كثير من التجارب التي دخلت فيها تحت شعارات كالاشتراكية الشيوعية والعروبة القومية ثم مرورًا بالحزبية والديمقراطية، وقد كانت هذه الشعارات نتيجة للتغريب الذي شهدته أمتنا والذي قاده نخب ضيعت البوصلة واتجهت إلى اتجاهات أخرى بنت عليها عملها واستلهمت منها عقائدها، وقد تختلف تلك الخلفيات في ظاهرها لكنها تجتمع في إلغاء المكون الحضاري للأمة الاسلامية وتجنب دخول الصراع بالإسلام كعقيدة وشريعة ومنهاج للحياة.
إن الأمواج القادمة من الحضارة الغربية محملة بما تنتجه من تصورات ومناهج، ماهي إلا وسيلة لإبعادنا عن الروح الدافعة التي يحملها هذا الدين، والتي من شأنها أن تحدد وجهة المسلمين، كل المسلمين عربهم وعجمهم، وتقيم حياتهم على مركزية الوحي والذي منه يستلهم المتحركون في الواقع تصوراتهم وأفكارهم.
جيد جدا
جزاكم الله خيرا. وانار دربكم.
نسأل الله لكم التوفيق والاخلاص.