المسلمون: دعاة وقضاة وسياسيون

إجماع الصحابة هو أقوى الإجماعات عند جميع علماء أهل السنّة، بل إن بعضهم لا يرى إجماعًا إلّا إجماع الصحابة، فالصحابة هم أفصح الناس وأزكاهم وأقربهم عهدًا بالرسول -صلى الله عليه وسلّم-، أخذوا عنه مباشرة، وربّاهم على يده وعينه، لذلك إذا ظفرت بفهمهم في مسألة ما، فعضّ على ذلك بالنواجذ، فذاك هو الفهم.

فما كان فهم الصحابة لمسألة السعي للسلطة والصراع السلطوي؟
لقد أجمع الصحابة على وجوب نصب إمام يبايع على إقامة الكتاب والسنّة، وهذا الإجماع الذي نقله غير واحد من العلماء يتضمن الإجماع على وجوب تحصيل القوة والسلطة التي تمكن من تنصيب هذا الإمام، ولكن تعالوا ننظر في فهم بعضهم بالتفصيل.

الجزيرة العربية

تعالوا نذهب إلى الجزيرة العربية ونعود بالزمن إلى أول بعثة الرسول -صلى الله عليه وسلّم- وهو مستضعف، يعرض نفسه على القبائل ليبايعوه على أن يكون سيدهم، يسمعون له ويطيعون، وينصروه، ويحموه كما يحمون نسائهم وأولادهم، فيأبى البعض، ويوافق البعض بشرط أن يحصل على السلطة بعد وفاة الرسول، فيأبى الرسول -صلى الله عليه وسلّم- ويصر على أن الأمر لله لا يستحقه أحد بعهد أو وراثة إنّما هو شورى بين المسلمين.

وها هو الرسول -صلى الله عليه وسلّم- يفاوض أحد زعماء قبيلة بكر وشيخ حربها -يعني وزير دفاعها- وهو الصحابي -الذي لم يكن مسلمًا وقتها- المثنّى بن حارثة الشيباني، المثنّى كان رجلًا راجح العقل بارعًا في الإدارة وقد أسلم متأخرًا وحسن إسلامه واستشهد -رضي الله عنه- في قتال الفرس قبيل القادسية.

قام الرسول -صلى الله عليه وسلّم- بإعطائه فكرة عن الإسلام وعن مضمون الدعوة، فماذا كان تعليق هذا الصحابي العربي الذكي الذي سمع مضمون رسالة الإسلام مباشرة غضًّا طريًّا من بين شفتي صاحب الرسالة؟ لقد قال: “إنّ ما جئت به يا محمد مما تكرهه الملوك!”.. كيف هذا؟ لعل الرجل أساء الفهم، فيستدرك عليه الرسول -صلى الله عليه وسلّم- ويصحح فهمه، ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلّم- أقرّه وصدّقه على هذا الفهم وقال: “ما أسأتم بالرد إذ أفصحتم بالصدق!”.
إذًا المثنّى لم يخطئ الفهم، بل هذا فهم الرسول صلى الله عليه سلّم كذلك، “إنّ دين الإسلام مما تكرهه الملوك”، ولكن لماذا لم يقل الرسول -صلى الله عليه وسلّم- له (نحن في حالة استضعاف، والسلطة ليست مقصودة لذاتها، والصراع السلطوي مذموم، والمقصود هو إحسان العلاقات الإنسانية، فإنّ الملوك لا تكره ذلك؟!).

بلاد الشام

تعالوا ننتقل إلى الشام ونتقدّم في الزمن بضع سنوات لنشهد الحوار بين هرقل ملك الروم وبين سفيان بن حرب زعيم قريش التي كانت تحارب الرسول -صلى الله عليه وسلّم- في ذلك الوقت، سأل هرقل سفيان -رضي الله عنه- عن مضمون الرسالة فقال: “فماذا يأمركم به؟ قلت: يقول: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما كان يعبد آباؤكم، ويأمر بالصلاة والصدقة، وبالعفاف وبالصلة.. فقال هرقل: سألتك عما يأمركم به، فزعمت أنه يأمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة، والصدقة، والعفاف والصلة، فإن كان ما تقول حقًا يوشك أن يملك موضع قدمي هاتين”.

لماذا لم يفهم هرقل أنّها دعوة صوفية تدعو لاعتزال السلطة حتى ولو مرحليًا، من أجل التفرغ للتوحيد والصلاة والصدقة والعفاف؟ لماذا فهم أن الدعوة تسعى للسلطة كما تسعى لهذه القيم، ولم يرى انفكاكًا فضلًا عن أن يرى تعارضًا بين السعيين؟ أتدرون لماذا؟ لأن هرقل من أهل الكتاب، ويعرف سنن الأنبياء، ويعرف أنّهم إخوة مهما اختلفت شرائعهم فإنّ دينهم واحد، وقد أخبرنا الرسول -صلى الله عليه وسلّم- أن السياسة كانت أحد أهم وظائف الدين التي كان يقوم بها أنبياء بني إسرائيل، كما جاء في صحيح البخاري: “كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء”، يعني وظيفة النبي -صلى الله عليه وسلّم- ووظيفة الخلفاء من بعده هي نفس وظيفة الأنبياء في بني إسرائيل وهي أن يسوسوا الناس بالدين، لذلك قال الله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّه)، ولذلك قال صلى الله عليه وسلّم في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه: “من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله”، ولذلك قال هرقل: “بوشك أن يملك موضع قدمين هاتين”، وقد حدث.

العراق

تعالوا نختم بالعراق ونتقدّم أكثر بالسنين لنسمع الحوار الذي دار بين ربعي بن عامر -رضي الله عنه- أحد قيادات الصحابة وبين رستم زعيم الفرس في مفاوضات دارت بينهما قبل القادسية فقال رستم: “ما جاء بكم؟”
فقال ربعي: “الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضِيق الدنيا إلى سعَة الدنيا والآخرة، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإِسلام”.

ختامًا

نحن يا سادة ليست وظيفتنا نشر التوحيد فقط، بل نشر التوحيد وإقامة العدل بين الناس، لذلك أخطأ من قال نحن دعاة لا قضاة، بل نحن دعاة وقضاة وسياسيون، ندعو للتوحيد ولا نكره أحدًا عليه، وفي نفس الوقت نرقب العالم كلّه، ولا نسمح لأحد أن يظلم أحد، فإن فشى الظلم في مكانٍ ما ذهبنا لنقيم العدل مكانه، ولا عدل يقام بلا قوةٍ وسلطةٍ تقيمه، لذلك فإن السعي للقوة والسلطة بالحق وللحق هو من أعظم مقاصد الدين وواجباته التي يحبها الله تعالى، وقد قال سبحانه في محكم تنزيله: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ).
لذلك من يظن أن هدفنا هو إسقاط الانقلاب فقط، فهو مسكينٌ واهم، إن غايتنا أن تعود الخلافة الإسلامية وأن تكون أعظم وأقوى دولة في العالم، وأن نقيم نحن محكمة العدل الدولية التي تحكم بين باقي الدول فيما يختلفون فيه، وأن نقيم نحن مجلس الأمن العالمي الذي يرسل قواته لتنفيذ قرارات محكمة العدل الدولية الإسلامية.

وأقسم بالله سيحدث ذلك، وعدنا به الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلّم- حيث قال أنّه ستكون مرّةً أخرى خلافة على منهاج النبوة، وقال -صلى الله عليه وسلّم- في الحديث الذي صححه ابن حبّان والحاكم والألباني: “ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام، وذلًا يذل به الكفر”.

قال الشيخ الألباني تعليقًا على هذا الحديث: “إنّ الظهور المذكور في الآية لم يتحقق بتمامه وإنما يتحقق في المستقبل، ومما لا شك فيه أن دائرة الظهور اتسعت بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- في زمن الخلفاء الراشدين ومن بعدهم ولا يكون التمام إلا بسيطرة الإسلام على جميع الكرة الأرضية، وسيتحقق هذا قطعًا لإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك”.

الكاتب: ماجد عابدين.

ضيوف تبيان

يمكن للكتّاب والمدونين الضيوف إرسال مقالاتهم إلى موقع تبيان ليتم نشرها باسمهم في حال موافقة… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى