مترجم تقرير راند: التفرقة بين النظام العالميّ، والنظام الدولي

عند تناولنا بالمناقشة السياسات الواجب اتّباعها إِزاء النّظام العالمي المُتهالك، وَجَبَ علينا الوقوف على معنى الاصطلاح أولًا قبل أي شيء. فلفظة النظام تتعدّد معانيها في سياق السياسة الدوليّة.

وللنُظمِ عامّة  أشكالٌ عِدّة [i]؛ ولكن نظرًا للأهداف المرجوّة من وراء البحث، يقصر باحثو راند حديثهم على تصورٍ واحدٍ للنظام ألا وهو: مجموع المعايير، والقوانين، والمؤسسات التي تُنظّم العلاقات بين اللاعبين الأساسيين من الدُولِ الفاعلة على الساحة الدوليّة.

تعريف النظام:

النّظام: هو بناء هيكليّ مُستقر من العلاقات بين الدول، والتي تتضمّن ترابطًا بين بعض أجزاء هذه الدول، بما فيها الأحداث العرضيّة الحاصلة على ساحة كلّ دولة، وتأثيرها على ما يحوطها من دولٍ أخرى (كالثورات والأزمات الاقتصاديّة مثلًا)، أيضًا دوائر صناعة القرار من منظمات سياسيّة عالميّة وأنظمة حاكمة.

إذًا فالعلامة الفارقة التي يتميّز بها النظام كشكل هي استمراريته، واتّساق بنائه ووحدته الأمر الذي يُفرّقه عن الفوضى والعلاقات العشوائيّة.

يُعرِّفُ عالم السياسة والمُنَظِّرُ جون إيكنبرى النظام-العالمي-بكونه: «مجموعة ترتيبات حكوميّة مُتفقٌ عليها بين الدول، مُتضمّنةً القوانين الرئيسيّة، والمبادئ المعمول بها، والمؤسسات المُشرفة على تحقيق الترتيبات سالفة الذِكر، وفق ما يتراءى صحيحًا لمصالح الدول وأجنداتها السياسيّة المُختلفة».

التفرقة بين النظام العالميّ، والنظام الدولي

إنّ التصورات النظريّة البارعة لاصطلاحي: مؤسسات، وأنظمة حاكمة؛ قد تتشابه بنيويًا مع اصطلاح “النظام” إلا أنّها لا ترادفه؛ فالنّظام بوسعه أن يرتكز على تحالفات معقودة، مؤسسات عاملة (على الصعيدين الحكومي، والخاصّ بشكل رسمي، كمؤسسة البنك الدولي أو بشكل غير رسمي، كالجمعيات الأهليّة ومُنظمات المجتمع المدني) وقوانين مُعتمدة، ومُتطلبات دولية (مُحدّدة بعدد من الوسائل كالمعاهدات مثلًا)، وقواعد (إما موضوعة أو طارئة أحيانًا تفرضها ظروف وأزمات)، يُشار إليها قاطبة في هذا البحث تحت بند «آليات النظام العالميّ». وانطلاقًا من هذه القاعدة أيضًا يُصبح بمقدورنا التفرقة بين النظام العالميّ، والنظام الدولي.

  • النظام الدولي

يقتصر فقط على الأنماط المُتّبعة قانونيًا، واقتصاديًا، وسياسيًا بين الفاعلين الدوليين من شركات، ومؤسسات، وحكومات وأفراد عند التّعرض لمشكلة تَمسّ إقليمًا أو قارّةً، ويتخطاها النظام العالميّ إلى آفاق أرحب وأشمل ليتضمّن النيوليبراليّة كنظريّة حاكمة للسياسة الدوليّة، والعلاقات الدوليّة العالميّة، والاقتصاد العالميّ، الذي يُهيمن عليهم جميعًا قطبٌ واحد أو أكثر يفرض أفكاره وتوجهاته على حلفائه، والنّظام العالمي يمتدُّ عبر تاريخ الإنسانية بخطوط عريضة ثابتة، ويضمّ نظامًا دوليًا مُتبعًا، تتغيّر قواعده وتتبدّل وفق الاتّفاق بين الدول، أو بين النظام العالمي وبين السياق الأممي الشامل الذي تمارس فيه مُختلف الدول وظائفها.

والنظام الدولي يعكس كافة أشكال المُعاملات بين الدول اقتصاديًا، وسياسيًا، واجتماعيًا، وثقافيًا، وبيئيًا ..إلخ من أنماط العلاقات التشاركيّة الموجودة بين الدول.

فالنظريّة السياسيّة للعلاقات الدوليّة التي وضعتها مدرسة “الواقعيّة الجديدة”، أو ما يُشار إليها بــ “الواقعية الهيكليّة”، تذهب إلى اعتماد علامتين رئيسيتين للنظام الدوليّ:

  • الأولى تتعلّق بطبيعته العشوائيّة، وتوزيع موازين القوى فيه، أو ما يُعرف بالقُطبيّة.
  • والثانية هي الروابط التي يتمّ بمُقتضاها تحديد نطاقات سلوكيّات وأفعال الدّول وترسيم المساحات التي ستتولى تلك الدول العمل من خلالها.

وبالرغم من غرسها لسلوكيّات الدول، غير أنّ العوامل المُشار إليها سلفًا، تُعدّ عوامل عامّة، وعلامات طارئة للنظام الدوليّ لا ترقى للنموذج الهيكلي للنظام العالمي.

يذهب بعض المُحلّلون أبعد من ذلك، ليُفرّقوا بين النظام الدولي، والمُجتمع الدولي، فيعرّفوا الأخير بكونه «التأثير الذي تمارسه المعايير الليبراليّة على السياسة الدوليّة»، الأمر الذي يتمّ غالبًا من خلال النشاطات والفاعليات المُترابطة للجمعيات الأهليّة حول العالم.

تؤكّد المدرسة الانجليزية للعلاقات الدوليّة، بدورها على وجود تصور خاص بــ “مجتمع دولي”، يتكوّن إثر تجمّع عدد من الدّول يُوفّق فيما بينها وِحدة مصالحها، واتّفاق قِيَمِها، فتشرع تلك الدول من فورها لربط أنماط العلاقة بينها بأطُر مؤسسيّة وقوانين تُنظم تلك العلاقة؛ لضمان تحقيق مصالح الدول خاصّة، والمصلحة العامة التي بات هذا التّجمع يُعبر عنها.

إنّ تصور المجتمع الدولي يسبق في وجوده وماهيته مُصطلح النظام العالمي، وبالتأكيد فإنّه من الصعب الإقرار بوجود مُجتمع مع إغفال وجود نظام يقوم عليه، ويُرتّب مصالحه لذا فإنّ الارتباط بين المفهومين “المجتمع والنظام” جليٌ واضح.

  • النظام العالمي

أمّا عن اصطلاح “النظام العالمي”، فإنّه بوجهٍ عام يتخطّى الأُطر الواقعيّة، ليُشير إلى ترتيبات مُنظمة عُقدت داخل النظام الدولي؛ فالنّظام العالمي يفترض نسبة من التكوين النظامي أو البناء الهيكلي، الراسخة دعائمه عن طريق آليات نظاميّة تلعب دورًا في تحديد العلاقات، وضبط السلوكيات بين أعضاء هذا النظام.

حتى وإن أضحت هذه الأنماط مُتّسقة هيكليًا، إلا أنّها طارئة الحدوث بلا تدبيرٍ ولا تخطيط، تحدث بشكل عام إثر التفاعلات بين الدول واتّصالها ببعضها، أو بنتائج محسوبة جرّاء اعتماد نهج للتّعامل مع حادثة ما (كالأنماط التي تبغي دولةٌ فرضها فتخطط للحرب مع دولة أخرى).

وإنّ وجود النظام العالمي لا يفترض بالضرورة وجود نيّة مُسبقة، ولا تمازج بين الدول، لكنّه يفترض بالحتميّة وجود أنماط مُحدّدة للعلاقات بين الدول (أيًا كانت هذه العلاقات سواء أكانت توافقيّة أم كانت فوقية تفرض بمُقتضاها دولة رأي رجالاتها ورؤيتهم على أخرى).

ومتى أضحى النّظام العالميّ واقعًا، فإنّه لا يمارس تأثيرًا فاصلًا ولا حتى مُهيمنًا على منافع الدول وسلوكياتها.

إرساءً لمفهوم تعدديّة العوامل المؤثرة على أفعال الدول؛ فمع عوامل التاريخ، العِرق [ii]، والثقافة وأخيرًا الصفات الشخصيّة للقادة والسّادة  تأتي كعوامل-وبينها النظام-مُشَكِّلة لشخصية الدولة، وعلامات مُحددة لمنافع أبنائها، واهتماماتهم فيما يُعرَض لهم من مشكلات ومُستجدات إقليميًا ودوليًا، وفي هذا إيضاحٌ كافي لأهميّة النظم في المجتمعات والنظام العالمي ككلّ وهو موضوع المناقشة والطرح.

فمن الوفاق الأوروبى (كاتّفاق 1904 بين إنجلترا وفرنسا مثلًا) مرورًا بــ “عُصبة الأمم” وانتهاءً بالنّظام الليبرالي لما بعد الحرب، إتّخذ “النظام” أشكالًا مُتباينة في المُمارسة مُختلفة في النواتج والآثار.

فالنّظام في إطار العلاقات الدوليّة، يُمكن أن يُفهم كمُدخلات في طاقتها التأثير على تصرفات الدول وأفعالها أو كنواتج لعلاقات مُستمرّة في أطر ثابتة بين مجموعة من الدول، وذلك على النقيض من العُنف المُوجّه، أو حالة الحرب المُعلنة بين الدول.

إنّ النظام كمُدخلة، يتمثّل في كونه بُنيانًا أو إطارًا شُيّدَ لهدفٍ مُحدّد، وأثرٍ مرجو كوضع واعتماد القواعد والمعايير التي تدخل ضمن اتّفاقيّة الحدّ من الرؤوس النوويّة، وأسلحة الدّمار الشامل مثلًا، وهذا البنيان أثّر على أفعال الدول وسلوكيّاتها بشكل كُلّي، واعتمادًا على هذه القاعدة، تُعدّ آليّات النظام بمثابة أدوات لبناء الدولة.

لكنّ النظام من الشائع أن يُنظر إليه أيضًا كناتج أو كهدف في حد ذاته، كونه الطريق الأمثل لاستخدام آليات النّظام بشكل أكثر تنظيمًا في النّظام الدولي.


الهوامش

[i] إيكنبرى يُعرِّف ثلاثة أشكال للنظام: الأول هو النظام الناجم عن توازن القوى بين الدول، الثاني هو نظام يفرضه المُهيمن، والأخير هو النظام التوافقي بين الدول، وهذا بالضبط ما يُشبه مفهوم النظام الجمعي مُتعدّد الجوانب، الذي تحكم بمقتضاه مجموعة من الدول باتّخاذ موقف عالمي تجاه قضية بعينها.

[ii] (ثقافة العرق وطبائع أهله، وهي سماتٌ لا تتبدّل واستنتج جوستاف لوبون في كتابه السنن النفسيّة لتطوّر الأمم، أنّ صفات الأعراق والشعوب تُحدد سلوكيّات وأهداف أبناء العرق الواحد، وتُفسّر ردود أفعالهم، وإليها يُعزَى تفسير أسلوب حياتهم في المقام الأول، بينما ذهب شارل دومونتسكيو في كتابه روح القوانين، إلى كون طبائع الأعراق والشعوب تُحدد أنسب حياة سياسيّة، وأدقّ نظام لَزِمَ أن يسوس أمور الناس)

محمد سماحة

كاتب صحفي و مُترجم حر .. أهوى القراءة في مباحث الفلسفة والتاريخ وبعض نصوص الأدب… More »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى