الدعوة.. ولغة الخطابة

يكاد يسيطر على أسلوب الدعوة الإسلامية “لغة الخطابة” وطريقتها، دون استحداث وسائل أخرى تلائم الثورة التي حصلت في مجال التأثير والإعلام.. والمقصود بالثورة هنا ليست هي “الثورة التقنية” في مجالات الإعلام والاتصال، وإنما الثورة في مجال التأثير والإيحاء، واٌلإقناع، وخلق الدوافع، وهندسة الانفعالات!

إن لغة الخطابة لا شك مطلوبة، ومُؤثرة.. لتُلهم الوجدان، وتُثوّر العواطف، وتحرك المشاعر، ولكن ليس هذا كل شيء. إن لغة الخطابة التي تعتمد الأسلوب اللغوي الراقي، والعبارات الجزلة، ونبرات الصوت الهادرة، والمُهددة، والمتوعدة، والواعدة… إلخ، لا تصلح أن تكون هي اللغة الوحيدة التي نخاطب بها الناس، وإن من العجب أن نجد أحيانًا أنه يتم مخاطبة النشء والأطفال بها!

وإن وجود النوابغ من النشء والصبية، فهؤلاء إنما يُتوجه بهم إلى “التربية القيادية” والمخصصة للنوابغ، أما البقية -والأعم الأغلب- فلا تصلح هذه الطريقة بصورة وحيدة، كما لا تصلح كذلك لعموم الناس من الكبار.

تثوير الخطاب العاطفي

إن تثوير الوجدان بالخطاب العاطفي لا شك أنه يلمس المشاعر، ويحرك الوجدان.. ولكن استخدامه يجب أن يكون بصورة “حذرة” تفهم أن الناس تمل، وتريد التغيير.. كما أنها أحيانًا تريد لغة أسهل وأقرب إليهم، قريبة لتصوراتهم وأذهانهم لا يحتاجون معها إلى كبير جهد في الفهم والتواصل.. لغة لا تريد أن تجعل بينهم وبين الخطباء والوعاظ حاجزًا، أو تستهول الفجوة بين ما هو مطلوب، وما هم عليه!

وإن النظر في طريقة القرآن الكريم، وهو يدخل على النفس من كل شعابها، نجد الكفاية فيما نصبوا إليه من صورة صحيحة في الدعوة إلى الله.. ونجد التنوع في آيات القرآن الكريم، وهي تخاطب الوجدان وتُثوّر المشاعر، وهي تحث الناس، وتحركهم وتدفعهم، ونراها وهي تخاطب العقل والفكر وتدعو إلى التأمل والسير في الأرض، وإدراك السنن وقيام الدول وانهيار الحضارات، بل ونرى القصة في القرآن وهي تحكي في أسلوب شيق -وحاسم في نفس الوقت- مصير الأمم، والجماعات.. ومصير المؤمنين والمكذبين، ونرى آيات القرآن وهي تغوص في أعماق النفس الإنسانية، وتكشف عن مكنوناتها وأسرارها! ونرى آيات القرآن وهي تطوف بنا في أرجاء الوجود، وتكشف لنا -في بلاغة ربانية- عن جمال الكون، وحركته، وتسبيحه، ثم ربط كذلك ذلك بالخالق جل جلاله..

فنجد اللغة التثويرية، واللغة العقلية والفكرية، واللغة الجمالية والأدبية، واللغة النفسية، واللغة الروحانية… إلخ فلا تدع مجال تهرب أو تتفلت منه النفس!

وإننا نجد بروز “الأسلوب الخطابي” المسيطر على الخطاب الدعوي نتيجة التربية المعتمدة على طريقة واحدة نمطية، جامدة.. وقالب ثابت لا يتغير، فعندما يَشرع المسلم في الدعوة لا يجد إلا هذه البضاعة! ولا يتم تدريبه على الطرق الأخرى، وكيفية التأثير في الناس، أو ابتكار الوسائل التي تساعده على ذلك، وقد لا يُجيد المسلم إلا أسلوب الخطابة، وليس في ذلك عيبًا.. إنما العيب هو في عدم اكتشاف باقي المواهب والأدوات الأخرى في أساليب الدعوة أو عدم صناعتها والاهتمام بها.

وإن مهارات التواصل، والتأثير، وتكوين العقل الجمعي.. قد قطعت شوطًا طويلًا في علوم البشرية، واستخدمتها الدول في خلق تصورات الشعوب، ودوافعهم، وطريقة رؤيتهم للأشياء.. وليس أولى من المسلمين -حملة رسالة الله إلى البشرية- من إتقان هذه العلوم.. وفهم نفسية “سيكولوجيا” الجماهير، والسنن النفسية، والاجتماعية، والإعلامية… إلخ، لنحمل الحق الذي في أيدينا بالصورة التي تليق به. إن الأسلوب الخطابي، وقدرته على التأثير السريع، قد ينتج عنه زوال تأثيره بسرعة أيضًا.

أهداف خطاب الدعوة

ويجب أن يكون في خطة الدعوة، قائمة من الأهداف، والمهام المطلوب تحقيقها، حتى يتم مراجعتها بعد فترة، وفق خطة محدّدة الموارد، والتوقيت، ونطاق العمل، وليس هو عملًا نأتيه كيفما اتفق!

فإن كنا -على سبيل المثال- نريد “تشبيع” المجتمع بفكرة معينة، فلا بد من تنويع الأسلوب، وتكراره بصور مختلفة، وفي أثواب زاهية، وبألوان عديدة.. ونراقب مدى استجابة الناس للغة الخطاب، ومدى شعورهم بالملل، ثم نضع الخطة المطلوبة لرفع مستوى الاستجابة، وطرق الإقناع والإفهام.

وإن كنا -على سبيل المثال- نريد “تعليم” الناس أمر دينهم، فلا بد من مناقشة أولًا مفاهيم الناس، وترك مساحة التعبير والكلام لهم، وطرح شبهاتهم، وتأكيد الحق الذي عندهم، وإزالة الغبش والباطل برفق ورحمة وعلم، ويأخذ التعليم المقرون بالدعوة، أشكالًا عديدة منها:

  1. إفهام الناس لبواعثهم النفسية من خلال المكاشفة عن خبايا النفس، واستخدام لغة القرآن، دون محاولة لـ “الجلد المعنوي” للناس، فهي مسألة قد تدفع الناس للتفلّت أو اليأس.. وكلاهما مرفوض، إنما المطلوب السيطرة على النفس وتزكيتها.
  2. وقد يكون “اكتشاف” الصفوة من النشء والشباب وعزلهم عن البيئة المحيطة التي يصعب تغييرها أو تأخذ وقتًا طويلًا في تصحيح مسارها، ذلك أن في “الاكتشاف والانتقاء” حفظ للثروة الاجتماعية التي يهبها الله لكل مجتمع، فالنوابغ والأفذاذ والقادة، هم ثروة المجتمع، وغالبًا ما يكونوا قلة، ولا بد من وجود “منهجية علمية” في التعامل معهم، والحفاظ عليهم، واستثمارهم في نهضة الأمة.
  3. وأحيانًا كثيرة تكون لغة المحاكاة والقدوة هي أبلغ لغة… فمخالطة الناس، والتساهل معها، والتقرب منها، والتلطف بها، وإجزال العطاء لها بلا شرط، ولا أمر، يكون له عظيم الأثر، ويجب أن يحذر الداعية من “هاجس” و”شهوة” إيقاف الناس لإلقاء الخطب عليهم… إن الناس تراقب الداعية، وتراقب صاحب كل دعوة بينها، وعندما تجد “الصدق والإخلاص” وتجد “البذل والحرص عليهم” دون انتظار جزاء أو شكر، هي التي تهرع إلى الداعية لتستفتيه في كل شيء -حتى أبسط وأخص الأشياء- بعد أن يكون الداعية مد جسور الحب والثقة بينه وبين الناس، وعندها يسهل التوجيه والتلقي والاستجابة.

ختامًا

إننا بحاجة إلى العودة إلى منهاج النبوة في أسلوب وطريقة الدعوة.. وفي التنوع الذي كان يلائم كل شخصية تحاور وتسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- ولقد كان النبي الكريم حريصًا على أن يفهم دعوته العلماء من الصحابة والبسطاء من الأعراب، والمرأة، والطفل، والشيخ.. فلم يكن -صلى الله عليه وسلم- من المتكلِّفين.

وإننا بحاجة إلى رسم الخطط الدعوية التي تستفيد من العلوم المستحدثة في جانب التأثير والتواصل، حتى نصل إلى الصورة الصحيحة المتكاملة التي تليق بدعوة الإسلام.

أحمد طه

كاتب ومهتم بالشأن الإسلامي.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى