قراءة في النزاع اللبناني-الإسرائيلي حول الحدود البحرية والغاز
شكل لبنان بعدًا مهمًا في العقيدة الصهيونية، وللقادة الكبار في الحركة الصهيونية (أبرزهم حاييم وايزمان)، قبل حتى قيام الورم الإسرائيلي في المنطقة. فكل المخططات التي كانوا يطرحونها في إعدادهم للمشروع الصهيوني كانوا يضعون لبنان نصب أعينهم؛ سواء لبعده السياسي -والذي يمكن تحقيقه بالتحالف مع الموارنة اللبنانيين الذين يمسكون بزمام الأوضاع السياسية في البلاد-، أو لبعده الطبيعي والجغرافي -خاصة فيما يتعلق بالمياه اللبنانية-.
وتتجلى المطامع الصهيونية بمياه لبنان أولًا في نهر الليطاني، وثانيًا في الحاصباني -أحد فروع نهر الأردن-. وقد ازداد هذا التصور لأهمية لبنان للكيان الإسرائيلي بعد قيام إسرائيل. فدافيد بن غوريون يرى في مذكراته أن إسرائيل الكبرى تمر عبر لبنان أولًا، وقد عبر عن نواياه تجاه لبنان قائلًا : إن اقتطاع جنوب لبنان وإلحاقه بالدولة اليهودية؛ سيكون نقطة انطلاق ينشأ عنها التفاهم والنوايا الحسنة بين الدولة اليهودية وجيرانها العرب.
لبنان باعتباره غلافًا حدوديًا مع فلسطين المحتلة؛ تختلف طبيعة التعاطي معه وتصوره من قبل الساسة الإسرائيليين، بخلاف باقي دول الطوق (بالمفهوم الناصري). وهذا يظهر بشكل جلي حين قال وزير الحرب الإسرائيلي موشيه دايان في تشرين الأول 1967: إن حدود إسرائيل “طبيعية” مع جميع جاراتها باستثناء لبنان. وإن كان هذا القول مجرد توصيف لطبيعة الحدود الشائكة مع لبنان؛ فإن ثناياه تنطوي على نظرة الكيان الإسرائيلي للبنان كلقمة سائغة. وينم عن النوايا الإسرائيلية المتجذرة في أواصر الكيان، الساعية لقضم وابتلاع لبنان برًا وبحرًا.
القطرة التي أفاضت الكأس
مع مطلع الألفية، تم اكتشاف احتياطيات ضخمة من الغاز والنفط في شرق البحر المتوسط؛ حيث أعلنت شركة نوبل إنرجي الامريكية، مطلع سنة 2009 عن اكتشاف حقل “تمار”، الواقع قبالة سواحل فلسطين المحتلة، الذي قُدّرت احتياطياته بنحو 238 مليار متر مكعب من الغاز. وبدأ ضخ الغاز الطبيعي منه في أواخر آذار/مارس 2013. كما اكتُشف في حزيران/يونيو 2010 حقل “ليفيتان”؛ الأمر الذي دفع لبنان للقيام بعمليات المسح في قاع البحر أسفرت عن احتمال وجود الغاز والنفط بكميات كبيرة في السواحل اللبنانية-الفلسطينية؛ مما أيقظ اللبنانيين من غفلة دامت ردحًا من الزمن، ودفعهم للتحرك للذود ولو بشكل باهت عن مصالحهم في المياه الإقليمية اللبنانية
مما أدى الى نشوب نزاع حاد بين لبنان والكيان الإسرائيلي حول مسألة ترسيم الحدود البحرية، واحتدام الخلاف حول الإشكالات العالقة المرتبطة أساسًا بالخطوط البحرية المتنازع عليها، التي تنطلق منها عملية الترسيم. فبعد جولات تفاوضية سابقة غير مباشرة -والتي وصلت لطريق مسدود- تأتي جولة جديدة بطابع جديد وظروف راهنة. تسعى إسرائيل تحت غطائها سعيًا حثيثًا لإبرام اتفاق أو على الأقل اتفاق الإطار لترسيم الحدود ولإضفاء شرعية على عملية استخراج النفط والغاز في المناطق المتنازع عليها -والتي تبلغ مساحتها 860 كلم في شرق البحر الأبيض المتوسط-. وقد بلغ هذا النزاع ذروته بقيام إسرائيل، في 5 حزيران/يونيو الجاري، باستقدام سفينة الإنتاج والتخزين والتفريغ العائمة، التابعة لشركة انرجيان إلى حقل كاريش المتنازع عليه تمهيدًا لضمه لمنصتها الاقتصادية البحرية الخالصة.
جذور النزاع
للغوص في أسباب الخلاف والنبش عن مواطن النزاع بشأن قضية ترسيم الحدود لا بد أن نعود لـ17 يناير/كانون الثاني 2007؛ وهو تاريخ عقد اتفاق لترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص. وبالرغم من أنّ قبرص صادقت على هذا الاتفاق فإن الجانب اللبناني اعتبره مجرد حبر على ورق، ولم يصادق عليه البرلمان اللبناني. وفي عام 2008 قرر مجلس الوزراء اللبناني تأليف لجنة لإعادة دراسة مسودة مشروع الاتفاق الموقّع مع قبرص، وترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية بشكل أحادي سنة 2009.
وفي 17 ديسمبر/كانون الأول 2010، عقدت كل من قبرص والكيان الإسرائيلي اتفاقًا لترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة. وكان من المفترض أن يتم الاتفاق بشكل ثلاثي (لبنان-قبرص-الكيان)؛ لكن طبيعة العلاقة بين لبنان والكيان الإسرائيلي العدائية، وعدم وجود اعتراف بدولة الاحتلال حالا دون وجود لبنان في طاولة المفاوضات بين قبرص واسرائيل. وبالتالي شكلت التصرفات الأحادية من طرف قبرص والطمع الخبيث أثرًا عميقًا على حقوق لبنان وثروته في المناطق المتنازع عليها.
ففي 10 يوليو/ تموز 2011 أقر الكيان الإسرائيلي مخطط منطقته الاقتصادية الخالصة، مستغلًا الإحداثيات الواردة في الاتفاق القبرصي-اللبناني (الذي لم يدخل حيز التنفيذ وغير معترف به دوليًا)؛ كحدود للمنطقة الاقتصادية الخالصة لإسرائيل من جهة لبنان. مما أدى إلى إشعال فتيل النزاع بين الطرفين فالإحداثيات التي اعتمدت عليها إسرائيل تنطلق من الناقورة برًا، ومن الخط 1 بحرًا؛ مما يعني دخول إسرائيل حوالي 860 كلم2 داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة التي أعلن عنها لبنان سابقًا والتي تتمثل في الخط 23.
وفي سنة 2011 أرسل الكيان الإسرائيلي خرائط الإحداثيات لترسيم حدوده للأمم المتحدة، بعد أن قدمت لبنان بدورها إحداثياتها الخاصة في تشرين الأول/ أكتوبر 2010؛ والتي يطالب فيها لبنان بالخط 23، فيما يطالب الكيان الإسرائيلي بالخط 1 لترسيم ما يعتبره منطقته الاقتصادية الخالصة في شرق البحر الأبيض المتوسط، مما يحسم الخلاف بين الطرفين على مساحة تقدر بـ 860 كيلومترًا مربعًا.
بعد إرسال الكيان الإسرائيلي الإحداثيات للأمم المتحدة حاول أن يضفي شرعية على عمليات المسح والتنقيب؛ حيث كثف من عمليات التنقيب في أعماق المناطق المتنازع عليها. ففي عام 2013 أعلنت إسرائيل اكتشاف حقل كاريش الذي يزخر بثروات هائلة من النفط والغاز، وفي منتصف 2022 أعلن الكيان الإسرائيلي إدخاله سفينة يونانية للتنقيب عن الغاز والنفط في حقل كاريش؛ تمهيدًا لربطه بشبكة غاز إسرائيل. الأمر الذي رفع من منسوب التوتر وأثار هيجان لبنان. واعتبره عملًا استفزازيًا وعدوانيًا في منطقة متنازع عليها.
مفاوضات بين التخبط اللبناني والتعنت الإسرائيلي
بعد أن امتنعت الأمم المتحدة عن لعب دور وسيط بين الطرفين، ورفعت يدها عن هذا الملف المحموم؛ معللة ذلك بأن ترسيم الحدود البحرية أصعب من ترسيمها بريًا؛ حاولت أمريكا أن تلعب دور الوسيط، وهي الوسيط المنحاز لإسرائيل، حيث وافق لبنان والكيان الإسرائيلي على تحكيم أمريكا لحل الخلاف، في مفاوضات حامية الوطيس. قادها من الجانب الإسرائيلي وزير الطاقة يوفال شتاينتس، ومن الجانب اللبناني رئيس البرلمان نبيه بري، الذي يحتفظ بملف “الحدود” البحرية، ويشرف على المحادثات مكلفًا من الرئيس عون. ويمكن أن نقسم المفاوضات تحت الرعاية الامريكية لمرحلتين:
– مرحلة فريدريك هوف: وهو دبلوماسي أمريكي عينته أمريكا لحل الخلاف. وقد اقترح -بعد أن رأى تباينًا حادًا في المواقف من جانب الطرفين- حلًا وسطيًا يقوم على تقاسم الثروات، بدلًا من تحديد الحدود وترسيمها. لكن هذا الاقتراح قوبل بالرفض من الطرف اللبناني؛ لأنه يشكل تطبيعًا مع الكيان الإسرائيلي. حاول بعدها هوف اقتراح خط جديد يتوسط الخط 1 والخط 23؛ مما يعني منح لبنان 490 كيلومترًا مربعًا، بينما يمنح إسرائيل 370 كيلومترًا مربعًا من المنطقة المتنازع عليها. لكن الطرفين رفضا المقترح، فمن جهة لبنان الحصول على 55% من المناطق المتنازع عليها لا يضمن امتلاك لبنان لحقل قانا كاملًا، وبالتالي سيعطي بعض أجزاء منه لإسرائيل، ناهيك عن حصول إسرائيل على حقل كاريش كاملًا. أما بالنسبة للكيان الإسرائيلي فبسبب الرفض -كما ذكر فريدريك هوف بنفسه في مذكراته أنهم أبلغوه أن إسرائيل- لا يمكن أن تقبل بشيء اسمه 45% لأنها لا تقبل إلا بنسبة الكبيرة.
– مرحلة آموس هوكشتاين: وهو أمريكي إسرائيلي، عيَّنه بايدن لتولي ملف الوساطة الامريكية لحل الخلاف بشأن ترسيم الحدود. حاول إحياء المقترحات التي قدمها هوف، لكنه وصل لطريق مسدودة. وما زاد من سوء الأوضاع تبني لبنان لخط جديد؛ حيث غيّر لبنان موقفه وطالب بالخط 29، أيْ بدأ بالمطالبة بمنطقة مساحتها 1460 كيلومترًا مربعًا بدلًا من 860؛ بعد أن رأى في الخط 23 إجحافًا كبيرًا وتضييعًا لحقوقه. وقد دعم الرئيس عون هذا الاقتراح وذلك بعد اعتماد الجيش على خرائط وإحداثيات جديدة. ومن البديهي أن الكيان الإسرائيلي سيعارض هذه المطالبة (فمن لم يقبل الخط 23 كيف يقبل الخط 29). جوهر هذا الرفض الإسرائيلي يكمن في كون ترسيم لبنان حدوده البحرية على الخط 23 يجعل حقل الغاز كاريش الذي تملكه إسرائيل اليوم ينتقل كله إلى لبنان.
وفي شباط /فبراير 2022، دعا هوكشتاين لبنان إلى تبني موقف موحد من أجل “المضي قدمًا” في المحادثات، رافضًا اعتماد خيار الخط 29؛ الأمر الذي جعل الساسة اللبنانيين يتراجعون عن فكرة الخط 29. حاول بعدها الاعتماد على اقتراح هوف الثاني لكن بلمسة جديدة؛ والتي تتمثل في تحريك الخط الذي وضعه فردريك هوف، بحيث يصبح كل حقل “قانا” كاملًا من حصة لبنان، وكاريش من نصيب الكيان الإسرائيلي. فالتقارير الأخيرة تشير إلى أن هذه هي الصيغة الأخيرة للاتفاق بين الجانبين، وأن هذا هو اتفاق الإطار الذي قد يفضي إلى اتفاق نهائي. ولم تتبقَ إلا جزئيات مرتبطة بضمانات من كلا الطرفين.
كاريش مقابل قانا
تبدو صيغة “هذه بتلك” المخرج الوحيد والحل الأنسب للوسيط الأمريكي لإيجاد حل للنزاع بين لبنان والكيان الإسرائيلي. والحقيقة أن هذه صيغة تكتنفها عدة إشكالات حادة وخطيرة؛ فحقل كاريش يقع جنوبي بلوكَّيْ 8 و9، وتبلغ مساحته 150 كيلومترًا مربعًا، وبعد عمليات المسح والتنقيب التي جرت عليه، تقدر احتياطيات الغاز الموجودة فيه بنحو 1.3 تريليون قدم مكعب؛ كما تم حفر 3 آبار فيه، وأن بداية استخراج الغاز منه تنتظر فقط الضوء الأخضر من طرف الكيان الإسرائيلي، في حين أن حقل قانا –والذي يقع في البلوك 72 وهو “الفتات” الذي اقترحه هوكشتاين على لبنان- إلى حدود الساعة مجرد حقل نظري، لم تحدث فيه أية عمليات حفر أو تنقيب للتأكد من وجود الغاز والنفط، وإمكانية وجود الغاز والنفط فيه تستند فقط إلى دراسات نظرية من خبراء يؤكدون احتمالية كبيرة لوجود ثروات نفطية وغازية في حقل قانا. وبالتالي فهو حقل نظري في ظل عدم وجود عمليات الحفر والتنقيب لإثبات ذلك.
وتجربة لبنان مع احتمالات وجود الغاز كانت قاسية، فقبل قانا أشارت دراسات عن إمكانية وجود كميات كبيرة للغاز والنفط في البلوك رقم 4. لكن بعد عمليات التنقيب من طرف شركة “توتال” الفرنسية (وهي الشركة التي ستتكلف بحقل قانا في حالة حصول لبنان عليه) تبين لهم ألَّا وجود لتلك الثروات في هذا البلوك البحري؛ وبالتالي لا مجال لمقارنة حقل قانا بكاريش. وقد وضحت المتخصصة في شؤون الطاقة لوري هايتيان عن مفارقة معادلة قانا في المفاوضات، حيث قالت “إن لبنان لا يملك أية قدرة على فرض تعديلات على مقترحات هوكشتاين والمطالبة بحقل قانا أو غيره. وقانا أصبح في المخيلة اللبنانية حقلًا يحتوي على الكثير من الغاز، وعلى رغم الدراسات الموجودة يبقى حقلًا نظريًا”.
فلبنان أمام واقع وحتمية لا مناص منهما تلزمانها بالحصول على اعتراف إسرائيلي بحقل قانا كاملًا؛ الأمر الذي يتطلب، ليس فقط ترسيم الحدود بناءً على الخط 23؛ بل تجاوز هذا الخط مما يمكنها من الحصول على حقل قانا بالكامل وتأمينه من إمكانية تقاسمه مع الكيان الإسرائيلي.
الإشكالات العالقة
رغم المسار “الإيجابي” الذي سلكته المفاوضات غير المباشرة منذ استئنافها، إلا أنها ما زالت تكتنفها عدة عوائق وتشوبها عدة إشكالات. هذه الإشكالات بعضها مرتبط بجزئيات متعلقة بالمسارات والطرق التي ستفضي إلى عقد الاتفاق، وبعضها متعلق بظرفية الواقع السياسي لكلا الطرفين والعوامل المؤثرة فيه، وأخرى مرتبطة بآليات وطبيعة التفاوض.
أما الإشكالات المتعلقة بالطرق التي ستؤدي لعقد الاتفاق، فتتمثل أساسًا في عائق الحدود البرية. فكل ترسيم للحدود البحرية تكون انطلاقته من آخر نقطة في الحدود البرية، إلا أن الحدود البرية بين لبنان وفلسطين المحتلة غير مرسمة. أما الحدود المعمول بها حاليًا فهي تستند فقط للخط الأزرق، وهو الخط الفاصل الذي رسمته الأمم المتحدة بين لبنان من جهة وإسرائيل وهضبة الجولان المحتلة من جهة أخرى في 7 يونيو 2000. ولا يعتبر الخط الأزرق حدودًا دولية لكن تم إنشاؤه بهدف وحيد هو التحقق من الانسحاب الإسرائيلي من لبنان. ويوجد خلاف بين لبنان وإسرائيل على 13 نقطة على طول الحدود بينهما؛ فالسؤال الذي يحتشد في الصدور هو كيف يمكن أن يتم ترسيم الحدود البحرية في ظل عدم وجود حدود برية؟
وقد كان لبنان يسعى لمزامنة تحديدها بحريًا مع تحديدها بريًا، إلا أن نقاط الخلاف الشائكة بين الطرفين حالت دون ذلك، والحقيقة أن لبنان يعاني من عدة مشاكل على عدة جبهات حدودية؛ حيث إن ترسيمها مع سوريا أيضًا ما زال عالقًا، وتوجد عدة خلافات حادة بشأنها، فيرى الجانبيان أن مسألة ترسيم الحدود البرية لن تتم إلا بوجود مزارع شبعا المحتلة وانسحاب الكيان الإسرائيلي منها. وكلا الطرفين ينادي بأنها جزء من أراضيه.
أما الاشكال المرتبط بظرفية الواقع السياسي لكلا الطرفين؛ فينظر إليه من جانبين: الأول يكمن في التخبط السياسي الذي يعيشه لبنان منذ عقود، والذي أرخى بظلاله على الموقف التفاوضي للبنان، فلبنان يعيش على واقع سياسي أقل ما يقال عنه إنه مشلول. وذلك بسبب تعاقب عدة حكومات؛ كل حكومة تورث الأخرى. هذا الملف الساخن وعدم استقرار الوضع السياسي والاقتصادي للبلاد بالإضافة إلى وجود مواقف متباينة حتى داخل المشهد السياسي اللبناني بشأن الصيغة والخطوط التفاوضية؛ مما يجعله في كل جولة تفاوضية يدخل تائهًا، لا هو قادر على التمسك بالمواقف السابقة، ولا هو قادر على تبني رؤية واضحة لتعزيز موقفه في المفاوضات.
وطبيعة هذه المفاوضات مع طرف معروف بالمكر والتعنت تستدعي وجود أرضية سياسية مستقرة لخوضها، فلا غرو أن الموقف اللبناني في هذا الشأن كان ضعيفًا مقارنةً بالجانب الإسرائيلي. وهذا أمر طبيعي بكون الكيان الإسرائيلي يحظى بكل الدعم ويعيش هدوءًا سياسيًا في الملفات الخارجية.
أما الجانب الثاني في هذا الإشكال فيتعلق بالظرفية الحالية التي يمر بها الطرفان؛ فكل من الكيان الإسرائيلي ولبنان مقبل على استحقاقات انتخابية، وكل منهما يحاول أن يعقد الاتفاق وإنهاء المفاوضات في أسرع وقت قبل انتخابات الكنيست في الكيان الإسرائيلي، وقبل الانتخابات الرئاسية في لبنان. فعقد اتفاق ترسيم الحدود هو ورقة رابحة للكيان الإسرائيلي يمكن أن يعزز بها الحظوظ الضئيلة لحكومة تصريف الأعمال بقيادة لابيد في الانتخابات القادمة التي من المزمع عقدها في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني. أما الجانب اللبناني فهو يسعى أولًا لحسم هذا الملف وعدم توريثه للرئيس القادم، وبالتالي يكون ختامها مسكًا للرئيس ميشيل عون، وثانيًا سيعزز من حظوظ صهره جبران باسيل الذي يسعى للرئاسة.
أما الإشكال الثالث والمتعلق بآليات وطبيعة التفاوض، فهو ذلك الشق المرتبط بلبنان في علاقته بالطرف المفاوض. فالموقف الرسمي اللبناني لا يعترف بالكيان الإسرائيلي والمفاوضات تجري بصيغة غير مباشرة؛ مما يلقي بفرضية حدوث تطبيع ضمني، مع طرف يعتبر عدوًا وأدخل لبنان في عدة مشاكل وسبب له الويلات؛ مما يجعل عقد الاتفاق أمرًا صعبًا تحقيقه، فالمفاوضات بشأن ترسيم الحدود البحرية (وهي الأصعب) تحتم التفاوض بشكل مباشر فما ظنك لو كانت غير مباشر.
بالإضافة إلى أن الطرف الإسرائيلي معروف عنه التعنت والمماطلة والأكثر من ذلك هو في موقف القوة مقارنة بلبنان كليلِ الجناحين، وله عدة أوراق يمكن أن يلعب بها لكي يخرج كطرف فائز في هذه المفاوضات. فالضغط على لبنان، في ظرفية اقتصادية حرجة جدًا يئنُّ تحت ركامها المواطن اللبناني نتيجة الأوضاع المتهرئة الجاثمة على الحالة المعيشية للمواطنين. فلبنان في أمس الحاجة لعقد الاتفاق مما يساعده على تقليص الإنفاق على الطاقة على خلفية انهيار البنية التحتية للكهرباء، ومعالجة مشكلات التلوث والبيئة، وتقليص الدين الخارجي وإيجاد فرص عمل. الأمر الذي يساعد لبنان على الخروج من ربقة التضعضع الاقتصادي التي لم ينكب بمثلها من قبل.
أوراق لبنان المتاحة
في الحقيقة يصعب الحديث عن نقاط القوة المتاحة للبنان، والأوراق التي في جعبته على طاولة المفاوضات؛ باعتبار لبنان الغصن الأوهن أمام الكيان الإسرائيلي من عدة نواحٍ؛ إلا أن هناك خطوات قد تعزز موقف لبنان لترسيم حدوده البحرية.
أول هذه الخطوات يتمثل في تبني مسار قانوني لمجابهة الكيان الإسرائيلي؛ فإلى حدود اللحظة كل الإجراءات التي يقوم بها لبنان تدخل في إطار المجهودات غير القانونية، وليس المقصود بهذا أنها خطوات غير شرعية، ولكن المراد بذلك أنها لا تُحكِّم مؤسسة دولية لحل خلافها الحدودي. فلبنان يعتمد على أسلوب التوفيق والوساطة والذي يتمثل في تحكيم طرف ثالث للبت في النزاع، بغية إيجاد حل وسطي بين الطرفين. ولإضفاء طابع قانوني أكثر نجاعة يكون بتحكيم وإحالة النزاع لمؤسسة دولية (المحكمة الدولية لقانون البحار أو محكمة العدل الدولية أو المحكمة الدائمة للتحكيم). الخطوة الثانية تتمثل في ترميم الوضع السياسي الداخلي في لبنان، ومحاولة توفيق الآراء والمواقف بشأن الصيغ التفاوضية، مما سيمكن لبنان من تعزيز قوته وفرض شروطه بثبات، أما الخطوة الثالثة فتكمن في تحريك ملف التحالفات الإقليمية والدولية للبنان لكسب ودها وضمها لصالحه.
موقف حزب الله
حزب الله لم يكن بمعزل عما يجري من مفاوضات بين لبنان والكيان الإسرائيلي. فحزب الله طرف مهم في معادلة الاتفاق سواء لثقله التأثيري في لبنان، أو لتهديداته المتواصلة للإسرائيليين كان آخرها في 17 سبتمبر 2022؛ حين هدد حسن نصر الله إسرائيل قائلًا: “لا يمكن السماح باستخراج الغاز من كاريش قبل حصول لبنان على مطالبه المحقة وإن استخراج الغاز من كاريش خط أحمر”. وقبلها بمعادلته الشهيرة (ما بعد بعد كاريش).
وخلف هذه التصريحات للأمين العام للحزب واقع جديد وتغير في المواقف؛ فعندما طُرحت فكرة ترسيم الحدود مع الكيان الإسرائيلي بعد انسحابه من جنوب لبنان سنة 2000، كان حزب الله مع حركة أمل من أشد المعارضين لعقد أي اتفاق مع الإسرائيليين، سواء بخصوص الحدود البحرية أو البرية. وبالرغم من أن موقف حزب الله تجاه ملف ترسيم الحدود البحرية هو الموقف الذي تتخذه الدولة حسبما يدَّعي الحزب؛ وبهذا الشأن فإن حزب الله ينام قرير العين مطمئن الفؤاد، فحليفه نبيه بري رئيس البرلمان وميشيل عون هما اللذان يمسكان بزمام المفاوضات.
فإن حسن نصر الله يحاول تجنب الفخاخ المنصوبة له، والتي قد تضعف دوره داخل لبنان كقوة تأثيرية كبيرة، فحزب الله يحاول أن يتمركز بحذر في هذه المفاوضات لاحتواء لغط معارضيه ولتجنب أية اتهامات ضد الحزب بوصفه؛ يضر بقدرة لبنان على الخروج من الأزمة والوقوف ضد مصالحه. كما أن عقد اتفاق ترسيم الحدود يضعف من مكانته كقوة “مقاومة” ويمس بشرعيته للاحتفاظ بـ”سلاح المقاومة”. كما أن أعداء الحزب داخل لبنان خاصة في تحالف 14 آذار يرون أن موقف حزب الله مجرد محاولة لتبرير وجود السلاح بحوزة الحزب، في المقابل يسعى حسن نصر الله من خلال تهديداته المتواصلة لتعزيز مكانته وسط الشعب اللبناني، خاصة وأن صدى تهديداته كان له وقع جد كبير داخل الكيان الإسرائيلي. فوفقًا للقنوات الإسرائيلية فإن سلاح البحر الإسرائيلي سيعمل على تأمين حماية للمنصة في قلب البحر من خلال مركبات بحرية فوق المياه وتحتها، وكذلك بمساعدة غواصات. وأكدت أن سلاح البحر على أهبة الاستعداد أيضًا للرد في حال استهداف مركبات بحرية في قلب البحر، كما سيتم نصب منظومة “القبة الحديدية” قرب حقل كاريش .
موقف الغرب
يمكن توصيف موقف الغرب من النزاع وسلسلة المفاوضات الجارية بين لبنان والكيان الإسرائيلي، بالعبارة التالية “العجوز الذي تصطك أسنانه من شدة البرد، ويمني النفس بالحصول على الغاز، وينتظر عقد الاتفاق على أحرّ من جَمْر”. فرغم ميل الغرب ميلًا كاملًا للجانب الإسرائيلي في هذه المفاوضات فإنهم يرون في ترسيم الحدود الصيغة القانونية التي تمكنهم من شراء الغاز في المناطق المتنازع عليها دون الدخول في دائرة الاتهامات.
فمع إعلان الكيان الإسرائيلي في يونيو من العام الجاري نيته بدء استخراج الغاز من حقل كاريش؛ طار الأوربيون فرحًا وشكل لهم بارقة أمل في شتاء من المحتمل أن يكون أشد بردًا وأكثر قساوة. ففي حالة عقد اتفاق ترسيم الحدود البحرية ستكون أوروبا أكثر المستفيدين منه، حيث سيتم توريد غاز شرق المتوسط إلى أوروبا وهي التي تلهث وراء الغاز وحالها كحال الظمآن في الصحراء يرى السراب فيظنه ماء. وفي ظروف راهنة تتسم بمناخ مكتنز بالمتغيرات خاصة بعد قطع الغاز الروسي عن الغرب، مما يحتم على الكيان الإسرائيلي المسارعة في استخراج الغاز وضخه للأنابيب الأوروبية، مما سيمكن إسرائيل من تحقيق أرباح طائلة، أما الجانب اللبناني فهو بعيد عن معادلة تصدير الغاز في الظروف الحالية التي يمر بها والمنظومة السياسية المتهرئة من الداخل والوضع الاقتصادي القاتم الذي تشهده البلاد، فهي أكثر فاقة للغاز.
أمريكا تراقب الوضع
مع ازدياد تآكل دورها التأثيري في المنطقة، ترى أمريكا في الاتفاق مصلحة جد مهمة؛ أولًا لتحسين دورها في الشرق الأوسط، وثانيًا لمساعدة حليفها الإسرائيلي في عقد الاتفاق والحصول على أكبر حصة من المساحة المتنازع عليها؛ الأمر الذي سيفضي لترسيم الحدود مما يعني استخراج الغاز بصفة شرعية وضخه لحلفائها في الغرب. فأمريكا بادرت وسعت بشكل حثيث لتنصيب نفسها راعيًا للمحادثات غير المباشرة بين لبنان والكيان الإسرائيلي؛ فالثمار التي ستجنيها أمريكا من خلال هذه الاتفاق في حالة عقده، تتمثل أساسًا في غلق أحد أهم الملفات الساخنة في المنطقة ودرء بؤر التوتر -ولو بصورة مؤقتة-؛ مما سيقلل من فرص نشوب حرب بين الجانبين. كما أن أمريكا ترى في طيات هذا الاتفاق بداية لاختراق الموقف الرافض لتطبيع العلاقات، إن لم يكن في هذا الاتفاق تطبيع ضمني بالكيان الإسرائيلي، مما يشكل نقطة نجاح للجانب الأمريكي، كما أن أمريكا ترى في ترسيم الحدود البحرية فرصة لتهيئ الأجواء التفاوضية لترسيمها على المستوى البري.
الخلاصة
رغم أن أجواء المفاوضات تبدو وكأنها تمر في ظروف إيجابية حسب الارتسامات الأخيرة للمبعوث الأمريكي؛ فإن تصلب المواقف والتعنت الإسرائيلي، يجعلان من فرص عقد الاتفاق جد ضئيلة. فالكيان الإسرائيلي لن يسمح بتمرير أي اتفاق يضمن تساوي الحقوق بين الطرفين، فما ظنك بأن يحصل لبنان على حق أكثر من إسرائيل، كما أن لبنان في ظل المناخ الانتخابي المقبل قد يسرع من وتيرة المفاوضات لإنهائها قبل الانتخابات الرئاسية، مما قد يجعله يمضي على الاتفاق معصوب العينين؛ فلغة التهديدات والعنتريات لن يكون له وقع كبير على الاستفزازات الإسرائيلية خاصة في حقل كاريش. فإن لم يسلك لبنان مسلكًا قانونيًا مصحوبًا بضغط دبلوماسي على المجتمع الدولي وتحرك سياسي رفيع فإن حاله سيكون مثل حال الأعرابي الذي سرقت منه الإبل. ولكن هذه المرة بعبارة “فازوا بكاريش والغاز وأشبعناهم شتمًا”.
المصادر
- سايمون هندرسون، خطوط في البحر: النزاع على الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان.
- ماهر الشريف، النزاع اللبناني-الإسرائيلي على الغاز: جذوره وتطوره.
- فادي مغيزل، الطرق القانونية لحل النزاع اللبناني-الإسرائيلي بشأن الحدود البحرية.
- رندة حيدر، الصراع بين إسرائيل ولبنان على حقول الغاز البحرية: ترجمات عن العبرية.
- محمد عبد الرحمن عطوي، الخطر الصهيوني على لبنان.
- علي حسين باكير، رقعة الشطرنج اللبنانية-الإسرائيلية: النزاع على الحدود والغاز شرق المتوسط.