أثر اليهود على شعوب العالم منذ ظهورهم حتى العصر الحديث

بعد أن انقسم اليهود على أنفسهم بعد وفاة نبي الله سيدنا سليمان عليه السلام، وتفرُّقِ كلمتهم، واتباعهم لأهوائهم وشرور أنفسهم أصبحوا ضعفاء أمام التهديد الكلداني الذي يقوده الملك البابلي (نبوخذ نصر)، الذي فرض عليهم الجزية بادئ الأمر، وأرسل مبعوثين له ليشرفوا على جمعها، لكن اليهود غدروا بهم فقتلوا بعضهم، وشردوا البقية، مما أثار غضب الملك البابلي الذي توجه من فوره إليهم، واقتحم القدس وأحرقها، وسبى اليهود وأخذهم أسرى إلى بابل، ومعهم ملِكهم الذي سُملت عيناه، وبذلك انتهت الدولة اليهودية التي قامت على أرض فلسطين، وأُخذ اليهود إلى بابل، ليُعاملوا فيها معاملةً حسنة، فلم يباعوا بالسوق مثل العبيد، بل أصبحوا جزءًا من الشعب الكلداني، فأتيحت لهم فرص العمل والإقامة والحياة، لكن دون أن يغادروا بابل، وعلى الرغم من ذلك اتبعوا غريزتهم بالغدر، فثاروا على الملك البابلي، ومن ثم تواصلوا مع كورش الفارسي وأعانوه على هزيمة البابليين، وبعد أن تمَّ له النصر انتقموا من البابليين أشد الانتقام ليعودوا إلى فلسطين خاضعين لحكم الفرس، حتى جاء الإسكندر المقدوني، الذي هزم الفرس، وضم أراضيها لمملكته.

وقد عاش اليهودُ -في ذلك الوقت- في ظل الإمبراطوريةِ الرومانية حياةً طبيعية، شأنهم شأنُ مختلفِ الشعوبِ والأقوام الذين خضعوا لها، فلم يُعاملوا بأقل من معاملةِ غيرهم، فأعلنوا ولاءَهم للإسكندر الأكبرِ بعد أن حرَّرَهم من الفُرس، والذي منحَهم حقوقًا كثيرةً، فمارسوا مختلفَ أنواعِ المهن، وتولوا وظائفَ عليا، مثل الفيلسوفِ اليهودي فيلون الإسكندري، وأخيهِ الإسكندر الذي كان كبيرَ جماركِ الإسكندريةِ ومستشارَ والدةِ الإمبراطور الروماني، كما أنهم كانوا يتمتعونَ بحُرِّيةِ التنقل في أرجاءِ الدولة، بالإضافة إلى حريةِ ممارسةِ الشعائرِ الدينية، لكن على الرغم من كل هذه الامتيازات بقي اليهود متعصبين لعرقهم، ينظرون لغيرهم نظرةً دونية، فأعلنوا تمردهم على الدولة الرومانية عام 70م، ليتحرك الجيش الروماني تجاههم فحاصر القدس واقتحمها، فحرق الرومان المعبدَ اليهودي، وقاموا بنفيهم إلى خارجِ بيتِ المقدس، إلى جميع أراضي الدولة الرومانية.

 ومنذ ذلك الوقت تشتَّت اليهود في الأرض، واختلطوا بشعوب العالم، لكن لا بد من الإشارة إلى أنّ ما حلّ بهم من تشتيت وطردٍ لم يكن إلا نتاج أفعالهم، فلم يقابلوا إحسان البابليين بإحسان، ولم يقاوموا غريزتهم المتأصلة عند كثير منهم القائمة على الخيانة والغدر أمام الامتيازات والتفضيلات التي قدمتها الدولة الرومانية، فاستحقوا ما حصل بهم من تشريد وطرد، لكنهم مع ذلك استمروا على نهجهم في الخيانة والغدر في الدول والمجتمعات التي استقروا بها، فأثاروا العديد من الفتن فيها حتى وصل بهم الأمر لدفع شعوب أوروبا للثورة على الكنيسة، للتحرر من زعامتها حتى يتسنى لهم السيطرة على الشعوب الأوروبية، وقيادتهم للعلمانية والإلحاد، إضافةً إلى المساهمة في قيام الثورة الفرنسية، التي شهدت عمليات إعدامٍ واسعة لأبناء الشعب الفرنسي.

اليهود في ظل الحكم الإسلامي

حظيَ اليهودُ في العالمِ الإسلامي بتسامحٍ أكبرَ مقارنةً بوجودِهم في العالم الغربي، فقد كانَ لهم حريةُ ممارسةِ الأعمالِ كلها، والتملكِ وامتهانِ الحِرَفِ والمهنِ المختلفةِ لا سيما الطبُّ، أما في أوروبا فكانوا ممنوعينَ من تملكِ الأراضي والاشتغالِ بالزراعة، كما أنه جرى حصرُهم في أحياءٍ خاصةٍ بهم، يمنعونَ من الخروجِ منها ليلًا، وفي العالمِ الإسلامي كان لليهودِ حقوقٌ مساويةٌ لبقيةِ الناس، حتى أنهم تولوا مناصبَ عليا في الدولةِ الفاطمية مثل اليهودي يعقوب بن كلس، الذي استفادتِ الدولةُ الفاطميةُ من مواهبِه بتعينِه وزيرًا في بلاطِ الخليفة، وذلك على الرغمِ من رفضه اعتناقَ الإسلام، مما فتحَ البابَ بعد ذلك لتوظيفِ اليهود وغيرِ المسلمين في أعلى مناصبِ الدولة.

وقد كشفتْ وثائقُ الجنيزا المقدسةُ عند اليهودِ والتي تعودُ إلى الفترةِ من القرنِ العاشرِ وحتى القرنِ الثالثِ عشرَ عن علاقةِ العربِ مع اليهودِ في مصرَ، فقد كانتِ العلاقةُ تتسمُ بالتسامحِ والتعاون، ولم يكن لدى اليهودِ رغبةٌ في تملكِ فلسطين واحتلالِها وإقامةِ دولةٍ لهم فيها، لأنهم كانوا يعتبرونَ أنفسَهم جزءًا من الدولةِ الإسلاميةِ التي تسيطرُ على فلسطينَ وغيرها من الأقاليمِ والأمصار، بالإضافة إلى أنهم كانوا يقصدونَ بيتَ المقدسِ لأداءِ شعائرهم الدينيةِ بحُريةٍ تامة دون معيقات.

ولم يقتصر دور المسلمين على توفير حياةٍ كريمةٍ لليهود في دولتهم، بل تعدى الأمر إلى إنقاذهم  من محاكم التفتيش الإسبانية، التي أُقيمت في الأندلس بعد سقوطها، فوجه السلطان سليمان قائده البحري خير الدين بربروسا إلى إنقاذ مسلمي ويهود الأندلس، فنُقل الآلاف منهم  إلى أراضي الدولة العثمانية، لكن على الرغم من هذا التسامح والإحسان كان اليهود يتشوقون للحظة التي يغدرون بها بالمسلمين، فبدأوا يستغلون ضعف الدولة العثمانية، فبادروا لإنشاء المنظمة الصهيونية، وجمعوا الأموال لأجل ذلك، وأرسلوا زعيم الصهيونية العالمية ليعرض على السلطان العثماني عبد الحميد الثاني شراء فلسطين، الأمر الذي رُفض تمامًا، مما أدى إلى إشعال فتيل الحرب العالمية الأولى.

جرائم اليهود في العصر الحديث

بعدَ الحربِ العالميةِ الأولى وخسارةِ الدولةِ العثمانيةِ وحلفائِها، سعت كلٌّ من بريطانيا وفرنسا إلى تقاسمِ أملاكِ الدولةِ العثمانية، فعقدتا معاهدةَ سايكس بيكو المعروفةَ، لينتج عنها تقسيمُ البلادِ العربيةِ في منطقةِ بلاد الشام، فبادرتِ الحركةُ الصهيونيةُ إلى إقناعِ التاجِ البريطاني بمنحِهم فلسطينَ كأرضٍ دائمةٍ لهم، وذلك للتخفيفِ عن بريطانيا من مشكلةِ هجرةِ اليهود الكثيفةِ إليها من دولِ شرقِ أُوروبا وروسيا، فعمدَ وزيرُ الخارجيةِ البريطاني آرثر بلفور Arthur Balfour إلى عقدِ اجتماعٍ مع مُمثلي الحركةِ الصهيونيةِ واليهودِ، وذلك لإرسالِ وفدٍ منهم لفرنسا وإقناعِها بالتنازلِ عن حصتِها في فلسطينَ لصالحِ بريطانيا تمهيدًا لوعدِه الذي سمحَ لليهودِ بإقامة دولةٍ لهم على أرضِ فلسطين. بالتأكيدِ كان لبريطانيا مصالحُها الخاصةُ من وراءِ ذلك، فوجودُ اليهودِ في فلسطينَ سيحمي التواجدَ البريطاني في قناةِ السويس، وسيؤمنُ السيطرةَ البحريةَ البريطانيةَ على البحرِ الأبيضِ المتوسط.

ولكي يدعم اليهود موقفهم أمام بريطانيا والعالم  حملتِ الصهيونيةُ العالميةُ مُمثَّلةً بزعيمِها ثيودور هرتزل Theodor Herzl شعارًا يدعم الرؤيةَ الصهيونيةَ بضرورةِ احتلالِ فلسطين، إذ إنها أرضُ الميعادِ الإلهي وهي أرضٌ خاليةٌ لا بشرَ فيها، وأنها ملائمةٌ للشعبِ اليهودي، فلن يتسببَ وجودُهم في تلك الأرضِ بأية مشاكلَ لأي دولة، بالإضافةِ إلى أنّ العربَ المتواجدينَ فيها هم قلةٌ قليلةٌ، وليسوا أكثرَ من جماعاتٍ همجيةٍ لا رأي لها ولا قيمةَ، ثم إنهم تسببوا بخرابِ تلكَ الأرض، بعبارة أخرى اعتبرتِ الصهيونيةُ أنّ أرضَ فلسطين محتلةٌ من العربِ الذين جعلوها أرضًا قاحلةً بلا زراعةٍ ولا صناعة.

إلا أنَّ المراجعَ التاريخيةَ تُكذِّبُ الروايةَ الصهيوينة، فقد كانتْ فلسطينُ في زمنِ الدولة العثمانيةِ مركزًا زراعيًّا وتجاريًّا وسياحيًّا على مستوى عالمي، فقد كانت منتوجاتها الزراعيةُ -لا سيما زيتُ الزيتونِ- تُصدَّرُ للخارج، وكان الصابونُ النابلسي الأفخم في جودتِه يُصنَّع في نابلس، التي كانت مزارًا سياحيًّا للسياح، حتى أنها وُصِفتْ بدمشقَ الصغيرةِ لجمالِها وتميزها، فأرضُ فلسطينَ لم تكن خاليةً من السكانِ كما ادَّعت الصهيونيةُ، وإنما كانتْ عامرةً ومتحضرةً في ظلِّ الدولةِ العثمانية.

المقاومة الفلسطينية أمام المشروع الصهيوني

لقد اصطدمت آمال المشروع الصهيوني أمام الصمود العربي الإسلامي، إذ قاوم العرب الوجوديْن البريطاني واليهودي، وأطلقوا ثوراتٍ عدة تجاههم، فاستعصت فلسطين عليهم، وزادت خيبات اليهود باندلاع الحرب العالمية الثانية التي أخَّرت سقوط فلسطين بيدهم فترةً من الزمن، لكن ما إن انتهت الحرب حتى عادت بريطانيا والصهيونية لمشروعهما في تأسيس وطنٍ قومي لليهود في فلسطين، فبدأت العصابات اليهودية حركتها ضد العرب الفلسطينيين بعد أن أثبتت نفسها على أنها حليف قويّ للولاياتِ المتحدةِ لا سيما بعدَ ظهورِ الاتحادِ السوفيتي كقوةٍ منافسةٍ لها، فقدمتْ نفسَها على أنها ستكونُ بمثابةِ شرطي في المنطقةِ العربية، وقد أثبتتْ ذلك في حربِ النكبةِ عامَ (1948م)، وحربِ العدوانِ الثلاثي على مصرَ عام (1956م)، وحربِ النكسةِ عام (1967م)، فأصبحتْ في نظرِ الولاياتِ المتحدةِ الحليفَ الذي لا يعوضُ، والذي لا يكلفُها حمايةً عسكريةً بشريةً كإرسالِ الجنودِ وما شابه، فكلُّ ما هو مطلوبٌ إمدادُها بشحناتِ السلاح، حتى أنها سلمتْها في حربِ لبنان أسلحةً جديدةً لتجرِّبَها على المدنيين، لتستمر جرائم اليهود تجاه شعوب العالم دون رادع أو حدٍّ تقف عنده.

الموقف اليهودي المعاصر بين تأييد للصهيونية ومناصرة القضية الفلسطينية

واليوم يستمر اليهود والصهاينة بجرائمهم تجاه الشعب الفلسطيني والأمة العربية، مستندِين في ذلك على الادِّعاءُ الأساسي الذي انطلقتْ منه الصهيونيةُ العالميةُ في مطالبتِها بأرضِ فلسطينَ، المستنِد على نصوصِ التوراةِ التي اعتبرتْ فلسطينَ أرضَ الميعاد، التي وهبَها الله لبني إسرائيلَ دونَ غيرهم، وبذلك أعطتِ الصهيونيةُ لنفسِها الدليلَ الديني والتاريخي الذي يُمَكِّنها من إثبات وجودها المزيف على هذه الأرضِ وبشتى الطرقِ الممكنة، وقد استفادَ أولُ رئيسِ وزراء لإسرائيلَ ديفيد بن غوريون David Ben-Gurion من هذه النصوصِ الدينيةِ في العديدِ من المواقفِ لكسبِ تأييدِ اليهود، وتوجيهِهم لخدمةِ أهدافِ الصهيونية، وذلك بعد أن يتمَّ تعديلُ وتحويرُ المعاني الدينيةِ للنثرِ الموجودِ في الكتابِ المقدس، لما يخدمُ مصلحةَ الحركةِ الصهيونية، ما يؤججُ الثورةَ في صدورِ الشبابِ اليهودي على الوضعِ القائم، ويحركُ فيهم المشاعرَ المُطالِبةَ بأرضِ الميعادِ حتى لو تمَّ ذلك بسلبِ هذه الأرْضِ من أصحابِها الأصليين.

إلا أن كثيرًا من علماءِ الدين اليهودي عارضوا هذا الاستغلالَ لنصوصِ التوراةِ لخدمةِ الفكرِ الصهيوني، حتى أنهم نظروا إلى أنَّ الصهيونيةَ تلغي قوانينَ الرب، وتستبدلُها بقوانينَ بشريةٍ عنصرية، ثم إنّ الصهيونيةَ تنكرُ حقَّ العربِ الطبيعي في فلسطينَ، بدعوتها لطردِهم منها  وإبادتِهم، فمثلًا نادى الفيلسوفُ النمساوي اليهودي مارتن بوبر Martin Buber وغيرُه من المفكرينَ اليهود المعتدلينَ، بإقامةِ دولةٍ تجمعُ العربَ واليهودَ في فلسطين، واعتبروا أن المذابحَ التي ترتكبُ على أرض فلسطين هي جرائمُ ضدَّ الإنسانية، وهي تشابهُ الهولوكوست النازي.

المصادر

  • أساطير الصهيونية: جون روز، مكتبة الشروق الدولية، لبنان، د.ط.
  • المفسدون في الأرض: جمال ناجي، مكتبة السائح، مصر، 1973.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى