الصهيونية زمن الخلافة والسلطان عبد الحميد الثاني المُفترى عليه
إن كتاب “دور السلطان عبد الحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين” للدكتورة فدوى نصيرات من منشورات مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت 2014، هو ذروة ما تم تأليفه في الهجوم على السلطان وموقفه من الصهيونية، وهو مليء بالمعلومات غير الصحيحة، والتحليلات غير الدقيقة، والازدواجية في الطرح، وتطويع الحقائق لتتلاءم مع نتائج مسبقة أعدت سلفًا في سبيل التوظيف السياسي وليس الهدف العلمي الأكاديمي.
الافتراء والرد
وعلى كل حال ليس هذا هو مكان الرد عليه فقد أفردت لذلك دراسة خاصة (نظرات في كتاب دور السلطان عبد الحميد في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين) (1)، ما أريده هنا هو الاستشهاد باعترافاتها الكافية لتبرئة موقف متهمًا بعيدًا عن أي رد مطول عليها، فهي ترد على نفسها، والمهم أنه رغم تطرف الدكتورة في إدانة السلطان عبد الحميد فقد اضطرتها مواقفه الصلبة للاعتراف بما يلي:
“ونقول إن عبد الحميد كان عنده رغبة شديدة بحل كل مشاكل الدولة العثمانية المالية ورفع السيطرة الأوروبية على الدولة، لكن المحرم وحدود المحرم هو الذي وقف في طريق عبد الحميد، فهرتزل أراد التعهد وعبد الحميد أراد المال، وعبد الحميد لم يكن قادرًا على منح التعهد بشكل مباشر.
كان السبب الرئيسي لعدم توصل هرتزل إلى اتفاق مع الأتراك هو إصراره على الجمع بين المالية ومشاريع الاستيطان، والعثمانيون بدورهم فصلوا بين السندات المالية والحصول على التعهد من أجل فلسطين، وعندما أصر هرتزل على التعهد أسقط السلطان أي ضمانة أو حتى الوصول إلى أي تفاهم مع الصهاينة في الأمور المالية.” ص 176.
الغريب أن الدكتورة تعترف أن سبب عدم التوصل إلى اتفاق صهيوني-عثماني هو رفض السلطان عرض هرتزل المالي مقابل الموافقة على الاستيطان. ولكن طرحها يدافع عن أنظمة عربية تستجدي الاتفاق مع الصهاينة والسبب الرئيس في فشل الاتفاق هذه المرة ليس صلابتنا في رفض الاستيطان بل رفض الصهاينة لطرح “الشرعية الدولية” رغم كونه يعترف بتسليم أكثر من ثلاثة أرباع فلسطين للاستيطان الذي تعترف به رسميًا هذه الأنظمة على اختلاف توجهاتها.
وتتابع الدكتورة فدوى نصيرات وصف موقف السلطان عبد الحميد في كتابها المكرس للهجوم عليه: “إن عبد الحميد مع تقدم المفاوضات وانكشافها أصبح يدرك أن هناك مشاعر إسلامية ضد المشروع تزداد قوة يومًا بعد يوم، فكان من نتيجة ذلك أن تناقصت رغبته في عقد الصفقة، وزاد حرصه على عدم إغضاب الرأي العام الإسلامي الذي كان السلطان قد بدأ يتزلف إليه ليستميله ضد أوروبا”. ص 176-177.
السلطان الدموي الأحمر
أين هو إذن استبداد السلطان الدموي الأحمر الذي يجاري بل يتزلف الرأي العام في أمته مقاومًا رغبته الشخصية بالاتفاق مع أعداء الأمة؟ وأين هو من ديكتاتوريات التجزئة التي كانت حريصة على التزلف إلى الغرب وحضارته ومقاومة الرأي العام في بلادهم بالقوة والقهر والدم لإجباره على قبول رغبات القادة الشخصية في الخضوع والخيانة والاستسلام لأعداء الأمة؟
قالوا إن السلطان مستبد وهو يتزلف إلى أمته ويفضلها على دول أوروبا العظمى ويقف ضد رغباته الشخصية التي زعموا أنها تميل للتفاهم مع الصهاينة. وقالوا إن قادة التجزئة عظماء وهم يتزلفون إلى أوروبا وأمريكا والصهيونية بتسليم فلسطين ضد رغبة أمتهم ويفرضون انحرافاتهم الشخصية على شعوبهم!
اعترافات د. فدوى
تكمل الدكتورة فدوى نصيرات اعترافاتها في أثناء هجومها على السلطان عبد الحميد وموقفه من هرتزل والصهيونية: “إن عبد الحميد، المشهود له بالذكاء والمهارة الدبلوماسية في تسيير الأمور، لا يمكنه أن يتورط في عمل كهذا وبالصورة التي أرادها هرتزل، لكنه أبقى على شعرة معاوية بينه وبين هرتزل وذلك لمحاولته التخلص من الدين العام وإنعاش البلاد اقتصاديًا بالأموال اليهودية. وفي المقابل كان لا يستطيع أن يقدم شبرًا واحدًا من فلسطين فكان يريد الأخذ دون عطاء، إلا أن هرتزل لم يقم وزناً لأي عطاء من قبل السلطان خارج فلسطين.” ص 177.
هل من يريد مصلحة بلده عميل؟
رجل يفاوض عدوه ليأخذ منه ما ينعش بلاده الواسعة والمنهارة ولكن دون أن يتنازل له عن شبر واحد، ما هي بالضبط جريمته؟ وهل بيننا فعلاً أي اختلاف على موقف السلطان؟ وكيف يستحق الإدانة من لم يجرؤ على تقديم شبر واحد من فلسطين في الوقت الذي يستحق التبجيل من قدموا رسميًا وقانونيًا ودوليًا أكثر من ثلاثة أرباعها للصهاينة؟
ومما قالته الدكتورة فدوى نصيرات أيضًا أثناء هجومها الحاد على موقف السلطان عبد الحميد: “لم يكن غريبًا أن يرفض السلطان إغراءات الصهيونية المالية، وليس غريبًا أن يرفض كل ما عُرض عليه من مال رغم حاجة الدولة إليها، لأن المقابل كان أرض فلسطين وهو مستحيل.” ص 180.
فإذا كان السلطان قد رفض كل ما عرض عليه من مال، فكيف يُتهم بعد ذلك “بعدم الحسم“؟ فما هو الحسم إذا لم يكن كذلك؟ أو يُتهم بأنه يسعى للحصول على المال اليهودي وهو يرفضه كله؟ أو يتهم بأنه “غض النظر” عن تسلل الصهاينة؟ أليس في هذا الغض تنازل من غير مقابل في الوقت الذي يُعرض عليه ثمن كبير؟ وهل يقدم عاقل، فضلًا عن دبلوماسي مشهود له بالذكاء، باعتراف الدكتورة المحترمة، على عدم قبض الثمن الكبير المعروض عليه مقابل تنازلاته؟ وإذا كان هرتزل صاحب العرض يرفض الصفقة إلا وفقًا لشرطه وهو البيع الرسمي الفرماني، أليس من الأولى أن نُفسر التسلل بعوامل أخرى أكثر قبولًا من التنازل المجاني، كالهجرة غير الشرعية والفساد الإداري والضعف السياسي لدولة تلفظ أنفاسها الأخيرة ومع ذلك ترفض الاستسلام بصك رسمي؟
وإذا كنا نهاجم سلطانًا رفض “كل ما عُرض عليه من مال“ وكانت فلسطين ثمنًا مستحيلًا لديه، فما بالنا نبجل حكامًا استسلموا رسميًا وقانونيًا، ومخازن أسلحتهم تعج بالمشتريات الفلكية ومع ذلك كانت فلسطين ثمنًا مقبولًا لمجموعة من المناصب الشكلية والصدقات الدولية والتعويضات الزهيدة؟
خلاصة موقف دولة الخلافة من الصهيونية بلسان الأعداء
خلاصة موقف دولة الخلافة من الصهيونية كما اعترف به ذروة الأدبيات المعادية له:
- رفض السلطان عبد الحميد التنازل عن شبر واحد من فلسطين.
- رفض كل ما عرض عليه من أموال رغم حاجة دولته الماسة في زمن إفلاسها.
- دخل السلطان في مفاوضات للحصول على المال دون تنازله عن شيء.
- سبب موقف السلطان الذي اتهم بالاستبداد والدموية، هو مراعاته بل تزلفه للرأي العام الإسلامي الذي كان يناهض المشروع الصهيوني (ومع ذلك يوصف حكمه بالفردية!)، وكانت بطانة السلطان العربية مثل عزت باشا العابد وأبي الهدي الصيادي (الذي صورته الدعاية بصورة سلبية جدًا كراسبوتين) هي السبب في تشجيع السلطان على هذا الموقف.
- كان السلطان يتزلف لأمته ليستقوي بها ضد أوروبا وليس العكس كما حدث في زمن التجزئة، فأين الذين يتزلفون للغرب اليوم على حساب أمتهم ثم يوصفون بالخلفاء الجدد؟
- كان أقصى ما أُخذ على الموقف السلطاني غضه النظر عن تسلل اليهود إلى فلسطين وإصداره فرمانات جزئية في محاولة لاستجلاب المال اليهودي دون منحهم براءة رسمية تشوه منصب الخلافة. لكن هذه النظرية (أي غض النظر المتواطئ) لم تفسر لنا كيف يرفض السلطان منح فلسطين بصفتها ثمنًا “مستحيلًا “مقابل مال وفير، ثم تصبح الآن ثمنًا مقبولًا ما دامت في النهاية ستصبح لليهود؟
وكيف سيفسر ذلك لأمته وهو حريص على التزلف لرأيها العام ضد أوروبا، وكيف يرفض التنازل عن شبر بثمن كبير جدًا ثم يتنازل بهذه السهولة مقابل مبالغ مبهمة لم يتم تحديدها ولم يتم رصد أي اتصالات أو وعود بشأنها كما فعل هرتزل مثلًا.
وكيف يمنح هرتزل ميزة التسلل مع أن هرتزل نفسه كان ضدها ولا يريد سوى الترخيص الفرماني؟ وهل يصح في عملية التأريخ أن نربط ربطًا عشوائيًا واعتمادًا على خيوط متخيلة بين أي تعامل مع مؤسسات أوروبية يمثلها شخصيات يهودية وبين تسلل اليهود إلى فلسطين دون أدنى دليل يربط وثائقيًا بين هذه الظواهر؟
ولم تنجح الخطة المتخيلة أصلًا لأن عملية التسلل نفسها كانت تواجه عقبات كثيرة ذكرها المؤرخون مما جعل عشرات الآلاف من المهاجرين يعودون أدراجهم وهو ما لا يتفق مع فكرة “غض النظر“ أو “التواطؤ الخفي“ التي تطلبت حشدًا من الأكاذيب والتحريفات والتأويلات التي تتجاوز المعلومات الموثقة (مما تم رصده في دراسة خاصة في كتاب السلطان والتاريخ).
في وقت نجد هناك تفسيرات أكثر نجاحًا لتسلل اليهود المحدود من فكرة التواطؤ وهي الفساد الإداري والهجرة غير الشرعية التي ما زالت إلى اليوم مشكلة في العالم رغم تطور وسائل التحكم والاتصال، بالإضافة إلى الضعف السياسي الذي كانت تعاني منه الدولة العثمانية وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة ومع ذلك ترفض الرشوة والاستسلام بصك رسمي.
المهم بعد كل هذا، كيف يتم التطابق بين هذا الموقف الذي وقفته الخلافة زمن انهيارها فضلًا عن مواقفها في أزمان القوة والعزة وبين الموقف التركي الحالي في زمن زهوه؟ ثم ماذا كان موقف دولة التجزئة في أبهى صورها؟ وهل تفوقت على الموقف العثماني في أضعف حالاته والذي لم يعجب أنصار الدولة الوطنية؟
يجيب المقال القادم عن هذه التساؤلات.. تابعونا
بارك الله فيك اخي – اشكرك علي مجهودك في جمع هذة المعلومات اثابك الله – اسمح لي ان اخذ نسخه من مقالاتك هذة لنشرها في موقعي لزيادة الوعي والمعرفه بين الناس