شبهة أن القرآن مقتبس من الكتاب المقدس

ليست شبهةُ «كونِ القرآن الكريم مأخوذًا من الكتب المقدَّسة الأخرى» إلا شبهة مماثلة للشبه القديمة التي قد جاء بها أهل الكتاب من النصارى وغيرهم، فقد أخذوا يشكِّكون في مصدر القرآن، فيقولون حينًا إنه من صنع محمد صلى الله عليه وسلم، ويقولون حينًا آخر إنه مأخوذ من الكتب المقدسة الأخرى، فكيف عرض النصارى هذه الشبهة؟ وهل لها من أصل أم أنها توهُّمٌ منهم؟ وكيف ردَّ أهل العلم عليها؟

عرض شبهةِ أنَّ «القرآن الكريم مأخوذ من الكتب المقدسة الأخرى»

شبهة أن القرآن مقتبس من الكتاب المقدس

قد لخَّص القس أنيس شروش مزاعم النصارى في هذه الشبهة، فقال مخاطبًا ديدات: «دعني أتحداك أن 75% من القرآن الرائع في لغتي العربية الرائعة مأخوذ من الكتاب المقدس»، وقال أيضًا: «الواقع أن هناك نصوصًا عديدة من مقاطع العهد الجديد قد استعارها القرآن واقتبسها، هناك حوالي 130 مقطعًا في القرآن مستوحاة من سفر المزامير، ونجد الروايات غير القانونية المرفوضة (الأناجيل الأبوكريفا) عند النصارى موجودة في القرآن. إن الآية 35-37 من سورة آل عمران تحكي بدقةٍ الروايةَ الإنجيلية الأسطورية التي تحكي قصة زكريا المشهورة ومولد ابنهما».

ومعظم المفكرين المسيحيين يؤمنون أن محمدًا كان يلتقي بنسطور (ولعله أراد بحيرا) خلال أسفاره إلى الشام، وحين كان في سن 12 رأى بحيرا فيه علامات النبوة، وبعد سنة أقنعه بذلك، وسافر معه، وعلمه كل ما يتعلق بما نسميه «قصص الكتاب المقدس».

الإجابة على هذه الشبهة

 من المؤكد أن على المسلم الواعي والواثق من دينه والعالم بالحق أن يتيقن أن ما من شبهة طرحها غير المسلمين إلا وهي زائفة، وأن علماء المسلمين قد أجابوا عليها، وما يحدث في عصرنا ليس إلا إحياءً لشبهة سابقة بشكل جديد، ليزرعوا في قلب المسلم ضعيفِ الإيمان والبعيد عن دينه الشكَّ والريبة، ولكنه لو بحث قليلًا لعلم الإجابة والردَّ الصحيح على هذه الشبهة.

وأما ما عرضه القس فليس إلا كذبًا وافتراءً ليس له عليه من دليل، وإن كل عالم بموضوعات القرآن والكتب المقدسة يعلم مدى الكذب الذي زُعِم في هذه الشبهة، وقد تحدى ديدات رحمه الله القسَّ بأن يأتي بمثال واحد يؤكد زعمه، فعجز عن ذلك، وينقل ديدات عن العالم ولير قوله:«هناك فقرة واحدة في القرآن جرى اقتباسها من كتاب المزامير وهي: {الأبرار يرثون الأرض} (المزمور 37/11). وقد ذكر القرآن وجود هذه الفقرة في المزامير، فقال:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)} الأنبياء، فالقرآن ذكر أن الفقرة موجودة في الزبور، فيما نقل متى الفقرة ذاتها في إنجيله (انظر متى 5/5) ولم يشر إلى أنه اقتبسها من المزامير» .

وبعد ذلك لا بد من الرد على هذه الشبهة من كل أوجهها ليثبت كذب ناقلها، وعدم استناده لا إلى منطق ولا إلى دليل، فشبهته كبنيان بلا قواعد لو هبَّت عليه ريح لأسقطته فوْق صاحبه، وفي ذلك نقول:

إن القرآن الكريم والكتب السماوية المقدسة الأخرى تعود كلها إلى ذات المصدر، ألا وهو الله سبحانه وتعالى، وهذا يعني أن وجود تشابه ببعض الصور والتشبيهات ليس إلا إثباتًا على وحدة مصدر القرآن والكتب المقدسة الأخرى، ومن ذلك قول النجاشي: «إن هذا (يقصد القرآن) والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة» .   

ولو فرضنا صدق هذه الشبهة، ألم يكن من باب أولى أن يتخذها أعداء الإسلام من المشركين حجة لهم عليه، حيث إنهم لم يتركوا شبهة كبيرة ولا صغيرة إلا وعرضوها، كزعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم تعلم القرآن من روميٍّ حدَّاد أعجمي، فرد عليهم القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل:103].

قد كان النبي صلى الله عليه وسلم أُمِّيًّا، أي لا يجيد القراءة ولا الكتابة، فكيف ينقل من الكتب المقدسة التي لم تكن قد كتبت بالعربية إلا بعد قرن من الإسلام، فكما هو معلوم أن أول ترجمة عربية للتوراة كانت بعد ظهور الإسلام بقرن من الزمان، حيث كان أسقف إشبيليَّة يوحنا أول من ترجم التوراة إلى العربية عام 750م، ثم ترجمها سعدية بن يوسف عام 942م، وكتبها بأحرف عبرية، ثم كتبها يافث بن علي في أواخر ذلك القرن بأحرف عربية. 

شبهة أن القرآن مقتبس من الكتاب المقدس

ولو فرضنا أن ما يزعم به أصحاب هذه الشبهة حقيقي، فكيف للقرآن أن يفضح اليهود والنصارى، ويهتك أستارهم ويذمهم، ألم يكن من الأولى أن يشابههم فيما يزعمون، كما في قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء:171].

لم ينزل القرآن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم جملة واحدة، وإنما نزل مفرقًا بحسب الحوادث والوقائع، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوقف في الحكم على بعض الأمور حتى ينزل الوحي، وهذا ينافي ما تزعمه هذه الشبهة، فلو كان عالمًا بالأحكام من الكتب الأخرى لجاء بها مباشرة وعرض القرآن جملة واحدة.

اختلاف الأحكام بين القرآن والكتب المقدسة الأخرى خير دليل على بطلان هذه الشبهة، حتى أن مخالفة أهل الكتاب مقصدٌ شرعيٌ حثَّ الشرع عليه، ومنه ما جاء في الحديث الصحيح: ((خالفوا اليهود والنصارى، فإنهم لا يصلون في خفافهم، ولا في نعالهم)). رواه ابن حبان و أبو داود وصححه الألباني.

وأما ما زعم به أصحاب هذه الشبهة عن كون النبي صلى الله عليه وسلم تعلم على يد بحيرا الراهب وغيره فهو كلام لا أصل له، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسافر إلى الشام إلا مرتين، مرة في صغره مع أبي طالب ولقي فيها بحيرا الراهب، والثانية في شبابه وقد ذهب في تجارة لخديجة، وعاد بعدها مباشرة، ويعجب المرء كيف ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم الاطلاع على كتب لم يكن بمقدور الأحبار والرهبان في ذلك الزمان أن يطلعوا عليها كلها. 

وبهذا نكون قد رددنا على «شبهة كون القرآن الكريم مأخوذا من الكتب المقدسة» بكل أوجهها، وبيَّنَّا كذب هذا الافتراء بكل أركانه، فأصبحت الحقيقة واضحة وضوح الشمس لا يخفيها ضباب ولا غمام، وأن من زعم هذه الشبهة لم يُرد إلا إبعاد الناس عن قبول الحق واتباعه، وأنّى لهم ذلك، فالحق له نوره الوهَّاج الذي يبدِّد الظلمات من طريقه، قال تعالى: {يُريدُونَ أنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَه وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32].

المصادر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى