الرد على شبهة أنّ النبيَّ صلّى اللهُ عليه وسلّم ألّف القرآن
خلال أيامٍ سبرنا أغوارها وعقليات اطلعنا على كيفية تفكيرها وكتبٍ قرأنا فيها الأسطر وما بين الأسطر، نستقي أنّ النفس البشرية عندما تُريد أن تبخس حقّ أمرٍ ما فإنّ أفضل سبيلٍ تسلكهُ هو التحجيم من قيمته وإعطاءه أقلّ ممّا يستحق ليتسنى لهذه النفس أن تصول وتجول في طرح فكرتها التي لم تكن لتتكون يومًا لولا الطرق الملتوية التي سلكتها.
شبهة أنّ النبيَّ صلّى اللهُ عليه وسلّم ألّف القرآن
قبل البدء بطرح هذه الشبهة وما هي الأبواب التي حاول المستشرقون الدخول منها عبثًا، لا بدّ أن نتطرق لتعريف كلمة شبهة في اللغة والاصطلاح.
الشُّبْهَةُ لغةً: الالتباس، والغموض، والشكّ، ومعناها في الاصطلاح: ما الْتبس أمرُه فلا يُدرَى أَحلالٌ هو أَم حرام، وحقّ هو أَم باطل والجمع: شُبهٌ وشبهات
ولقد قام المستشرقون بطرح شبهاتٍ كثيرة حول كتاب الله العظيم ولا زالت تُثار الشبهات ضد الإسلام ورسول الله وشريعة الله تعالى.
وكان من هذه الشبهات أنّ هذا القرآن هو من تأليف سيد المرسلين ونبي الله الكريم سيدنا محمّد عليه أفضلُ الصلاةِ والتسليم، وينكرون أنه تنزيلٌ من ربّ العالمين، وهذا أمرٌ ليس بالجديد فهو قول الجاهلية منذ أربعة عشر قرناً مضت، قال تعالى: (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) سورة الفرقان: الآية5
فلو كان القرآن الكريم من تأليف سيدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم كما يزعمون، نطرحُ سؤالاً هامًا وهو هل ألّفه من عند نفسه أم كان له معلمٌ ما؟!
- ولو كان هو من ألّفه فلماذا نسبه لغيره؟! ألم يكن أحرى به أن ينسب الفضل لذاته فيزداد علواً في نظر قومه وأتباعه؟!
يقول الدكتور محمّد عبد الله درّاز في كتابه “النبأ العظيم نظراتٌ جديدة في القرآن”: (أيُّ مصلحةٍ للعاقل الذي يدّعي لنفسه حق الزعامة ويتحدى النّاس بالأعاجيب والمعجزات لتأييد تلك الزعامة، نقول أيّ مصلحةٍ له في أن ينسب بضاعته لغيره، وينسلخ منها انسلاخًا؟ على حين أنّه كان يستطيع أن ينتحلها فيزداد بها رفعةً وفخامة شأن، ولو انتحلها لما وجدَ من البشرِ أحدًا يُعارضهُ ويزعمها لنفسه).
- ولو كان وراءه معلمٌ، فمن هو؟! من يزعم أنّ لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم معلمًا من البشر فليخبرنا باسمهِ.
يقول الدكتور محمّد عبد الله درّاز في كتابه “النبأ العظيم نظراتٌ جديدة في القرآن”: (أمّا أنّ محمدًا صلّى الله عليه وسلّم لم يكن له معلمٌ من قومه الأميين فذلك ما لا شبهة فيه لأحد، ولا نحسب أحدًا في حاجة إلى الاستدلال عليه بأكثر من اسم الأمية الذي يشهد عليهم بأنّهم كانوا خرجوا من بطون أمهاتهم لا يعلمون من أمر الدّين شيئًا).
أم أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم تلقّى العلم من أحد العلماء وقرأ عليه قصص الأولين والآخرين!! وهذا ما لم يرد بين طيات الكتب يومًا الدينية منها أو التاريخية.
يقول الدكتور محمّد عبد الله درّاز في كتابه “النبأ العظيم نظراتٌ جديدة في القرآن”: (ليس علينا أن نُقيم برهانًا أكبر من هذا التّحدي لإثبات أنّ ذلك لم يكن، وإنّما على الذين يزعمون غير ذلك أن يُثبتوا أنّ ذلك قد كان، فإن كان عندهم علمٌ فليخرجوه لنا إن كانوا صادقين).
ما هو الهدف من إثارة هذه الشبهة؟
تُعتبر هذه الشبهة التي أُثاروها عاملاً مساعدًا لهم في طرح أفكارهم ونقدهم ورفضهم للكثير من المسائل والحقائق التي وردت في القرآن الكريم معتبرين أنّ هذه الأمور مجرد أساطير لا يقوى بشرٌ على ادعائها بسبب طاقاته المحدودة مقارنة مع سلطة الله العليا، فيقومون بالطّعن بكلّ ما يخالف تصوراتهم البشرية المحدودة من الغيبيات والعقائد المُسلّم بها في ديننا القويم، كنزول الوحي من السماء ووجود الملائكة واليوم الآخر والجنّة والنّار فهذه لديهم مجرد خيال وخرافات!
يقول الأستاذ الدكتور محمّد السعيد بن جمال الدين معلّقًا على هذه الشبهة التي أثارها الغرب في كتابه الشبهات المزعومة حول القرآن الكريم: (ولا يمكننا -بطبيعة الحال- أن ننتظر من المستشرقين خلاف ذلك لأنّهم إن سلّموا بأنّه منزّلٌ من عند الله لوجبَ عليهم التّصديق به والإذعان له، ولزمهم اتّباعه، ولأنّهم لن يفعلوا وتأبى قلوبهم، فكان لا بدّ لهم من الحكم سلفًا بأنّ مصدر القرآن بشريّ لكي يُطبّقوا عليه منهجًا يصلح للتطبيق على النّصوص البشرية).
دورانٌ حول أصل بعض الكلمات في القرآن الكريم
كان ممّا استشهد به المستشرقون والغرب الذين يدّعون أن القرآن من تأليف النبي صلّى الله عليه وسلّم وليس كلام الله تعالى هو ورود كلمات غير عربية الأصل في القرآن الكريم مثل (أرائك، استبرق، إنجيل، تابوت) زاعمين أنّ هذه الكلمات استخدمها النّبي محمّد عليه الصّلاة والسّلام من مصادر يهودية ونصرانية.
الرد على هذه الذريعة
قام الإمام جلال الدين السيوطي بتأليف كتاب ” الْمُهَذَّبَ فِيمَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمُعَرَّبِ ” والذي يدور حول ما وقع في القرآن الكريم بغير لغة العرب وبيّن فيه أنّ الأئمة قد اختلفوا في وقوع كلماتٍ معرّبة في القرآن الكريم:
- مذهب من قال بعدم وقوع كلمات معرّبة في القرآن الكريم: منهم الإمام الشّافعي وابنُ جرير وأبو عبيدة لقوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) سورة يوسف: الآية2
قال أبو عُبيدة: (إنّما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فمن زعم أنّ فيه غير العربية فقد أعظم القول ومن زعم أنّ كذابًا بالنبطية فقد أكبر القول).
- مذهب من قال بوقوع كلمات معرّبة في القرآن الكريم: قالوا بأنّ ورود بعض الكلمات بغير العربية لن تُخرج القرآن الكريم عن كونه قرآنًا عربيًا، وقالوا بأنّ المعنى من سياق الآية 44 في سورة فصلّت (أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) هو: “أكلامٌ أعجمي ومخاطبٌ عربي!”
يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه “دفاع عن القرآن ضد منتقديه”: (إنّ حياة النّبي محمّد صلّى الله عليه وسلّم قبل ظهور رسالته وبعدها معروفة للجميع على الأقل في مظاهرها الخارجية ولا أحد قديمًا أو حديثًا يمكن أن يؤكد أنّ النبي محمّد صلّى الله عليه وسلّم كان يعرف غير العربية إذًا كيف يمكن أن يستفيد من هذه المصادر كما يدّعون!).
سعيٌ حثيث لهدم المبنى من خلال تغيير المعنى
حاول المستشرقون سلكَ طرقٍ عدّة وادّعاء حججٍ شتّى، حرصًا على إثبات هذه الشبهة فكان ممّا قاموا به التشكيك في تفسير معنى كلمة “النّبيّ أُمّي” لينفوا عن النبيّ صلّى اللهُ عليه وسلّم هذه الصّفة ويثبتوا أنّه لم يكن أُميّاً بل كان يعرف القراءة والكتابة حسب زعمهم، ممّا يؤيد ادعاءاتهم، ضاربين بالتوراة والإنجيل عرض الحائط إذ أنّه ورد في هذين الكتابين السماويين أيضًا أنّ النبي عليه الصلاة والسلام نبيٌ أمّي، قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} سورة الأعراف: الآية 157
الرد على هذه الذريعة
قال تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) سورة العنكبوت: الآية48
لا يظنّ أحدهم أنّ بإصراره على نفي صفة الأمية عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم منكرين بذلك عدم معرفته بالقراءة والكتابة ليس إلّا ضربًا من الجهل والتعنّت العصبي لفكرتهم، فلو حتى ثبت -وهو ليس كذلك- صحة قولهم فهذا لن يترك أثرًا ولو بمقدار شعرةٍ في قلب كل مؤمن أنّ يرتاب حول مصدر القرآن ويظنّ أنّه بشريُ المصدر! وهذا ما لم تزعمه قريش وهي التي ألفقت ما ألفقت حول شخص النّبي صلّى الله عليه وسلّم لكنّها لم تقم باتّهامه يومًا بتأليف كتاب الله تعالى، بل ورد عن الوليد بن المغيرة قوله: (والله لقد سمعت منه كلامًا ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وما يقول هذا بشر.)
واجب المسلمين من هذه الشبهات
نحنُ المسلمون ندركُ تمام الإدراك أنّ القرآن الكريم هو (تَنْزِيلٌ مِنْ ربِّ العَالَمِيْن) ولا شكّ لدينا بذلك فمن خلق هذا النظام الكوني العظيم لن يعجزه أن ينزلَ علينا هذا الكتاب الكريم، بينما قدرات البشر والتي مهما علت تبقى محدودة لا تقوى على خلق ذباب ولو اجتمعوا له ضعف الطالب والمطلوب، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) سورة الحج: الآية 73
ويكفينا أن نتمعن بأسلوب القرآن الكريم وإعجازه اللغوي والعلمي والقوانين التي رسّخها لبناء مجتمعٍ سليمٍ قويم لم يستطع قانونٌ بالعالم أن يحيط بهذه الجوانب التهذيبية الاجتماعية من كافة جهاتها يومًا.
المصادر:
- الشبهات المزعومة حول القرآن الكريم- أ.د محمّد السعيد بن السّيد جمال الدّين.
- كتاب الإتقان في علوم القرآن-جلال الدين السيوطي.
- دراسة القرآن الكريم عند المستشرقين في ضوء علم نقد “الكتاب المقدّس” – أ.د محمّد خليفة حسن.
- النّبأ العظيم نظراتٌ جديدة في القرآن – د. محمّد عبد الله درّاز رحمه الله
- كتاب تفسير القرآن الكريم – المقدم – محمد إسماعيل المقدّم.