هل الإسلام دين تقييد للحياة؟

قد عرَّف بعض علماء النفس الدين على أنه يكبت النشاط البشري، وينكّد على الإنسان حياته، لما فيه من الشعور الدائم بالذنب، فما هي حقيقة ما يدعيه هؤلاء العلماء من كون الإسلام يقيد الإنسان؟ وهل يورث الإثمُ المسلمَ شعور الهم والغم؟

نص الشبهة

قد توجه علماء النفس إلى أن الدين يكبت النشاط البشري، وينكد حياة الإنسان بسبب الشعور المستمر بالذنب بعد الأثم، وبحسب زعمهم فهو -أي شعور الإثم- يورث أصحاب الدين الهمَّ في كل ما يصنعونه، وأن ذنوبهم لا يغفرها إلا الامتناع عن الشهوات وملذَّات الدنيا.

وقد ذكروا أن هذا كان حال أوروبا في عصور الظلام حين كانت متمسكة بدينها، وأن حالهم قد تبدَّل وتغيَّر بعدما نزعوا طوق الدين الذي كان يقيدهم، فأطلقت الحرية لمشاعرها، والتي انصبت في العمل والإنتاج.

ثم يتساءل هؤلاء العلماء بقولهم: هل تريدون العودة إلى الحال الذي كنا عليه؟ وهل تريدون تقييد الشباب بالدين مرة أخرى؟ 

الرد على الشبهة

إزالة الدين من المجتمع الأوروبي هو حال أوروبا، فالدين الذي فصلته أوروبا هو دينها وهي أعلم به، أما الإسلام فليس مشابهًا لغيره من الأديان، لذا سنقتصر في كلامنا على الكبْت في الإسلام خصوصًا وليس في الأديان عمومًا.

تعريف الكبت

في بداية القول لا بد من وضع تعريف لكلمة «الكبت» ، حيث ساء فهمها بين المثقفين والعوام، فليس المقصود من الكبت الامتناع عن العمل الغريزي كما يظن الكثيرون، وإنما يقصد بالكبت: «عدم اعتراف الإنسان في نفسه أن هذا العمل الغريزي يجوز أن يخطر بباله، فيحسبه عملًا مستقذرًا لا يجب عليه الالتفات إليه».

والكبت هو أمر لاشعوري، ولا يعالج بالإتيان بالعمل الغريزي، فلو اعتقد الشخص أن ما يعمله عملٌ قذر ولا يجوز له فعله لبقي في حالة الكبت حتى ولو أتاه عشرات المرات، فالكبت سيورثه هنا صراعًا مع نفسه، فيقول: هل كان يجب أن أفعل هذا؟ وماذا كان عليَّ أن أفعل؟

وهذا التفسير هو ما نص عليه العالم فرويد في صفحة 82 من كتابه؛ (three contributions to the sexual theory): «ويجب أن نفرق تفريقًا حاسمًا بين هذا «الكبت الشعوري» وبين عدم الإتيان بالعمل الغريزي، فهذا مجرد (تعليق للعمل)».

الإسلام يعترف بالشهوات الفطرية


هل الإسلام دين تقييد للحياة؟

بناءً على التعريف السابق فالكبت ينتج عن الشعور بأن الفعل الغريزي هو مستقذر فلا يعترف به الإنسان، وأنه لو اعترف به لما كان هناك كبت أصلًا، وهذا حال الإسلام فهو يعترف بالدوافع الغريزية والشهوات الفطرية، ويظهر ذلك جليًا في قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14].

فقد جمعت هذه الآية الدوافع الغريزية التي زينت في قلب الإنسان، وبذلك نص الإسلام أن ما يحدث من الأمور الغريزية ليس إلا أمرًا طبيعيًا وليس أمرًا مستقذرًا، فلا يجب على الإنسان أن ينكر ما لم ينكره القرآن.

لكن الإسلام ومع اعترافه بهذه الأعمال والدوافع الغريزية إلا أنه وضع لها ضوابط لتنصرف إلى مصارفها الصحيحة، وبذلك يكون الإنسان هو أمير شهواته، فلا يجعلها تسوقه كما تساق الغنم، ولا تجعله عبدًا لها، فالحياة لن تقام ولن تبنى إذا ظل الإنسان عاكفًا على شهواته وملذاته، مفرغًا كل طاقته في سبيلها، يحيى بها وعليها، وعندها بماذا سيمتاز عن الحيوان الذي يلحق شهواته أينما وجدت.

الإسلام يرتقي بالنفس البشرية

لم يسمح الإسلام للإنسان بأن يجعل شهواته تسوقه أينما شاءت، وكأنه بذلك حيوان ينام ويستيقظ على غرائزه، ومن أجل ذلك وضع الإسلام ضابطًا للغريزة وطريقًا محددًا لها، فيكون الإنسان هو أمير نفسه وشهواته يسوقها حيث شاء، ولا يجعل لها القيادة عليه، وهل مِن عاقل يسمي ما دعا الإسلام إليه كبتًا، فالإسلام قد اعترف بغرائز الإنسان وجعل لها مصارفها، فأين الكبت؟

وقد تجنب الإسلام الضرر الذي قد يلحق بالفرد والمجتمع إذا ما انساقوا وراء شهواتهم، فكيف لمجتمع أفنى طاقته في شهواته أن ينبي ويعمِّر ويسود في الأرض؟ ولا ننسى أن فعل الغرائز والشهوات ليس من شبع، فهو قد يصل إلى الحالة التي يصبح فيها الشغل الشاغلَ لصاحبه، فيتحول بذلك إلى عذاب دائمٍ لا يهدأ، حاله كحال جائع لا يشبع مهما أكل.

الإسلام يدعو للاستمتاع بزينة الله في الأرض

هل الإسلام دين تقييد للحياة؟

كثيرة هي الآيات التي دعت النبي والمؤمنين إلى الاستمتاع بملذَّات الدنيا على الأوجه الشرعية، فالإسلام لم يأت بالرهبانية أو العزلة أو إنكار الرغبات الطبيعية، وفي ذلك يقول الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف:32]، ويقول أيضًا في سورة القصص: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}، ويقول أيضًا في سورة الأعراف: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [القصص:31].

ولم يقتصر الحال على القرآن الكريم، فقد جاءت السنة النبوية تؤكد هذه الحقيقة، فيقول صلى الله عليه وسلم: ((حُبِّبَ إليَّ من دُنْياكمُ النِّساءُ والطِّيبُ وجُعِلَت قُرَّةُ عَيني في الصَّلاةِ)) أخرجه النسائي (3939)، وأحمد (14069) باختلاف يسير، والبيهقي (13836) واللفظ له.

وبذلك يكون صلى الله عليه وسلم رفع من قدر ملذات الجنس إلى الطيِّب الذي هو أزكى رائحة في الأرض، ويقول صلى الله عليه وسلم في غير موضع عندما سأله بعض الصحابة: ((يا رسولَ اللهِ! أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكونُ له فيها أجرٌ؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرامٍ أكان عليه فيها وزرٌ؟ قالوا: بلى، قال: فكذلك إذا وضعها في الحلالِ كان له فيها أجرٌ)). أخرجه مسلم.

وهنا يتجلى السؤال: أي الكبت الذي يتكلمون عنه؟ أطلب الإسلام من الإنسان إلا أن يضبط شهواته ويضعها في موضعها المشروعة؟

الأمم تسود عندما تسود على شهواتها

لا يجب أن يخيل إلا الأذهان أن الإسلام بدعوته إلى ضبط الشهوات، يدعو إلى حرمان الناس من قضاء ملذاتهم، فالتاريخ الإسلامي خير دليل على أن الأمة الإسلامية استطاعت أن تحافظ على كيانها وهويتها عندما ضبطت شهواتها، وما من أمة استطاعت أن تثبت نفسها في الصراع الدولي إلا وكان أهلها قد دربوا أنفسهم على ضبط الملذات واحتمال المشقات.

حقيقة الخطيئة في الإسلام

الخطيئة في الإسلام ليست وحشًا يلحق الناس ولا كابوسًا يدمر حياتهم، فمن فعل الخطيئة لم يكن عليه إلا أن يُلحقها بالتوبة النصوح والاستغفار الصادق، وسينال بذلك مغفرة وأجرًا لا يعمله إلا الله، وفي ذلك يقول الله تعالى في آل عمران: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)}.

يا الله كم بلغ كرمك ورحمتك! فأنت لا تغفر لمن اقترف الفاحشة فحسب وإنما تعطيه أجر توبته رضاك ورحمتك وتجعله من عبادك الصالحين، سبحانك ما أوسع رحمتك!.

الخاتمة

في الختام ومما سبق أعلاه، نجد أن هذه الشبهة لا تقوم على تعريف ولا على قواعد صحيحة، فما هي إلا تعميم لخاص على خاص، فقد عمَّم أصحابها مفهوم الكبت الذي ربما وُجد في أديان الأخرى على الإسلام، وهذا من أعجب العجب أن يحكموا على الإسلام من غيره من الأديان لاشتراكهم بمسمى «الدين»!  

المصادر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى