لعبة الحبار.. ضجَّة الأفكار التي تتداعى علينا
في ظلّ السلطان الضخم للإعلام في عصرنا، وفي ظلّ تمركُز الإنتاج المرئيّ في يد قبضة شركات ضخمة عابرة للحدود؛ صارت الأفلام والمسلسلات تفرض نفسها على المُشاهد فرضًا، فيراها ويسمع بها المُهتمُّ وغير المهتم. إنَّها لا تنتظر اهتمامك، بل تأتي إليك من كل حدب وصوب لتقول: ها نحن هنا.
ومن أبرز الأمثلة على هذا السلوك المُتنامي مسلسل لعبة الحبار (Squid Game) الذي لا يمكن وصفه بالشُّهرة، فقد تعدَّى هذه المرحلة بعديد المراحل. لقد صار هذا المسلسل هوس العالَم في الشهور الفائتة؛ وفاق كلَّ الإنتاجات السابقة عليه شهرةً، وجاذبيَّةً، وتأثيرًا. فوجدنا الجمهور والشركات والمطاعم من كلِّ بقاع العالم تقلِّد هذا المسلسل، وتحوِّله من مُنتَج إعلاميّ فنيّ إلى واقع حقيقيّ، ومَعلَم نرسم بعض واقعنا من خلاله. ومُطالعةٌ بسيطةٌ لمحرِّكات البحث باسم المسلسل، ونظرة عابرة على آلاف المقاطع المُصوَّرة من الجمهور المتمحورة حوله قادرانِ أنْ يكشفا لنا عن تأثيره.
وسيتضح من العرض القادم أنَّ صنَّاع المسلسل كانوا ماهرين في استخدام أدواتهم، ليصعنوا بها هذه الضجَّة الضخمة؛ أقول هذا من حيث فنيَّة العمل وحسب. فالمسلسل نجح في استخدام أدواته الفنيَّة لتصدير المعاني التي أرادها، وصناعة تأثيره المُنتظر.
كيفيَّة تلقِّي الأعمال الفنيَّة في عالَمنا الإسلاميّ
وهنا يجب أنْ نتوقَّف لننتبه أنَّنا -أقصد المُسلمين- نمتلك خلفيَّةً وفكرًا وهُوِّيَّةً وعقيدةً تُسمَّى “الإسلام”. هذا الغطاء الفكريّ الضخم يجب أن يكون مِنظارنا ومِصفاتنا في كلّ ما نراه ونسمعه ويُعرض علينا، وقد صرنا -ويا للأسف- مُستقبلين فقط، مَعروضًا علينا من كل ثقافة وفلسفة ونمط، من الشرق ومن الغرب. تتداعى علينا نتاجاتُ الأُمم -كما وصف الحديث الشريف-.
وخلاصة القول هنا قاعدتانِ: الأولى أنَّ الإسلام هو منطقنا الذي نضبط به فكرنا، والأخرى أنْ نُنبِّه أنفسنا بما قد يُداخلنا، ونُنبِّه غيرنا لما يُعرَض عليه ويتفشَّى بيننا. ومن هذا المنطلق سأعرض هنا لهذا المسلسل من وجهة نظر إسلاميَّة، لنحقِّق جميعًا شيئًا من هذا الهدف. وسأبدأ بالتعريف بالمسلسل لمَن لمْ يره، ثُمَّ أتناول منه جزء المعاني التي احتواها، وهو الجانب المرتبط بنا كمُسلمين. وقد أعود بإذن الله فيما بعد إلى الكتابة عن كيفيَّة تلقِّي الأعمال بنظرة إسلاميَّة بشكل نظريّ.
ما هو مسلسل لعبة الحبار؟
هو مسلسل عرضتْه شبكة “نتفلكس” للبثّ التدفُّقيّ، في شهر سبتمبر من عام 2021م. والمسلسل كوريّ جنوبيّ نسبةً. أتى في تسع حلقات، مُدَّة كلٍّ منها حوالَيْ ساعة؛ إلا الحلقة الثامنة فمُدَّتها نصف الساعة. تصنيف المسلسل إثارة ومغامرة ودراما. وتصنيفه العُمريّ للكبار فقط؛ لاحتوائه على كثير من العُنف، وبعض المشاهد المُخلَّة. ويدور المسلسل في عدد من المستويات حول مجموعة من الرجال بالغي الثراء يجمعون الناس أصحاب الديون ليعرضوا عليهم كسب كمّ هائل من الأموال لمَن يستطيع منهم أن يتجاوز عددًا من الألعاب، ويفوز بالجائزة.
ما قصة مسلسل لعبة الحبار؟
يظهر بطل المسلسل الذي يُواجِه الكثير من المشكلات الاجتماعيَّة وأصحابَ الديون الخطيرين الذين يطاردونه ويتوعَّدونه بالسوء في محطَّة قطار أنفاق. في غفلة من الزمن يأتي شابٌ مُهندم يجلس بجواره، في البدء اعتقد أنَّه يدعوه إلى المسيحيَّة. فإذا بهذا الغريب يعرض عليه مبلغًا كبيرًا من المال إذا استطاع أنْ ينتصر عليه في لعبة يدويَّة. يُدهش البطل ويجرب، ويفشل مرَّاتٍ، ثمَّ ينجح. وبعدها يعرض عليه الشاب الفوز بمبالغ طائلة إذا استطاع أنْ يفوز في مجموعة من الألعاب. ويعيطه بطاقةً للاتصال منظرها غريب.
يقرِّر البطل أنْ يتصل بالرقم المُدوَّن على البطاقة. ثُمَّ تأتيه سيارة ليركبها، وفور استقراره بها تنطلق غازات مُخدِّرة، لا يفيق منها إلا على سرير في قاعة ضخمة تحتشد بالأَسِرَّة؛ حيث يجد نفسه صار “رقم 456” مع 455 شخصًا آخرين يخوضون هذه الألعاب.
تنعقد صداقة البطل مع رجل عجوز كان أوَّل الواصلين “رقم 1″، ويتعرَّف على شخصيَّات أخرى. تبدأ اللعبة الأولى؛ فإذا بالجميع يندهش أنَّ اللعبة التي سيحصدون مبالغ ضخمةً من ورائها عبارة عن لعبة أطفال كانوا يمارسونها. تبدأ اللعبة بأنْ يجري الجميع وصولًا إلى خط نهاية الساحة الكبيرة، في أثناء قول الدُّمية التي تظهر أمامهم: “إشارة خضراء، إشارة حمراء”، والتوقف عندما تصمت. هذه هي القواعد، ومَن لا يلتزم بها يتمُّ إقصاؤه من اللعبة.
ثمَّ تأتي المفاجأة المذهلة عندما يتحرك أحدهم أثناء الصمت فإذا به يقتل رميًا بالرصاص فورًا! يندهش الجميع ويصرعون، ويبدأون في الهرولة محاولين الهرب، فإذا بالقناصين يقتلون كلَّ مَن تحرَّك أثناء الصمت. ولا يبقى من العدد الكُلِّيّ سوى 201 بعدما قُتل 255.
وبعدها تنكشف اللعبة للجميع، ويعرفون أنَّ الإقصاء يعني أنْ تموت فورًا، وأنَّ كلَّما مات المتنافسون كلَّما امتلأت جرَّة الزجاج الضخمة المُعلَّقة فوق ساحة نومهم بالأموال. ثمَّ تدور أحداث، ويبدأ كل واحد في اللعب رغبةً في الوصول إلى الجائزة الضخمة التي ستحلُّ كلَّ مشكلاته بعد تجاوز المستويات الستَّة للألعاب. وكلُّها ألعاب أطفال كانوا يلعبونها وهم صغار. ويبدأ البطل يكوِّن صداقات، ونتعرَّف معه على بقيَّة شخصيَّات المسلسل.
وعلى صعيد آخر يُكشَف لنا أنَّ الكثيرين يساعدون في تنظيم هذه اللعبة، كلُّهم يلبسون أقنعةً وزيًّا موحَّدًا أحمر، ويفترقون درجاتٍ في الشكل الهندسيّ المرسوم على القناع، ويترأسهم قائد يلبس لباسًا مُفارقًا لهم. كما نكتشف أنَّ “رقم 1” هذا العجوز المُتهالك هو صاحب اللعبة، وأحد الشركاء الرئيسين فيها، وأنَّ هذه اللعبة تقام منذ 1988، وأنَّ القائمين عليها هُم ثلَّة من مليارديرات العالَم.
مسلسل “لعبة الحبار” و”نتفلكس” لعبة المنافع المتبادلة
نلحظ أنَّ شركة “نتفلكس” قد انتقلت من التركيز الأمريكيّ إلى الإنتاج العالَميّ. فهي تحاول أنْ تتعاون مع صُنَّاع السينما في كلّ مجتمع وثقافة. لأكثر من سبب: أوَّلها هو المنفعة الضخمة التي تخطِّط أن يعود هذا التعاون بها إليها. فمُخاطبة كلّ مُجتمع بمُمثِّليه تزيد من تعاطُفه مع مُنتجها، وتعلُّقه بها، كما تُضخِّم من آمال كلِّ صانع أنْ يشترك مع الشركة الضخمة عابرة الحدود.
وهنا ننتقل إلى السبب الآخر وهي تصدير “النمط الحياتيّ” أو أسلوب الحياة الذي تريده، والذي صرَّحتْ بأنَّها على استعداد للتخلِّي عن أيّ قيد أو قيمة -في نظرها تقصد- إلا هذا الأسلوب الحياتيّ الذي تعمل على نشره، وتصرِّح أنَّها تعمل على نشره. ولعلَّ هذا المسلسل بما يحمله من إمكانات وفُرص للمُشاهدة مثال لما تفعله؛ فقد أتت بالفكرة التي حاول أصحابها تنفيذها، وأنفقت فيها الكثير من الأموال لتضرب ألف عصفور بحجر واحد -أو بعمل واحد-: تظهر في شكل الشركة المُهيمنة على العالَم، التي تُنفِّذ مشاريع في كل الدول، وتُوحي للجميع أنَّها “تحتوي” الثقافات تحت نشاطها، وتكسب جمهورًا بالملايين من دولة أو عدد من الدول (منطقة شرق آسيا) الذين تُعبِّر عنهم في هذا المسلسل وغيره، بأبناء هذه المنطقة أنفسهم.
ولعلَّنا هنا نكتشف النمط الذي تريده “نتفلكس“، والذي يُفسِّر لنا وجود مُسلم في المسلسل اسمه “عليّ”، وكذلك الفتاة من كوريا الشماليَّة. فالكُلُّ مُمثَّل في عالَم “نتفلكس”. وفي هذا التمثيل “الذكيّ” فرصة لنُهمِّش مَن نريد، أو نقدِّمه بالصورة التي نريد، وكذلك لنُلمِّع مَن نريد من نماذج حياتيَّة وقِيَميَّة، دون أنْ نترك للآخرين فرصة الاعتراض بأنَّنا نقدِّم نماذج مُعيَّنةً ونقصي النماذج الأخرى. إنَّها خطَّة الشيطان الكاملة في الحقيقة!
المعاني التي تضمَّنها مسلسل لعبة الحبار
مسلسلنا كُتلٌ من المعاني يظهر لها شخصيَّات وأحداث. فلا يمكن القول بمعنى تمحور حوله، بل قد جاء المسلسل بالكثير من المعاني، بل في عبارة أدقَّ بمجموعات أو فصائل من المعاني. وأنوِّه أنَّ بعض ملامح المعاني في المسلسل تشتبك مع بعضها الآخر؛ خاصةً الصنفين اللذينِ يتمحورانِ حول الرأسماليَّة والدولة الديمقراطيَّة الحديثة؛ فبينهما العديد من الاشتباكات التي لا يمكن الفصل بينها. ولعلَّ هذا لطبيعة الدولة في تصورها الحاليّ الذي يغلب عليه مذهب “النيوليبراليَّة” (الليبراليَّة الجديدة)؛ والذي تشتبك فيه بشدَّة أواصر السلطة والرأسماليَّة. ولعلَّ هذا أيضًا يعود لطابع الدولة الكوريَّة الجنوبيَّة التي نبعت منها ثقافة المسلسل.
وبعضٌ من معاني المسلسل حميدة لنا -نحن المسلمين-، بل نشترك فيها معه؛ خاصةً نقده الحادّ للنظام السابق ذكره، ونقده للرأسماليَّة بوجه خاص. لكنَّ البقيَّة من المعاني يجب أنْ نتوقف أمامه؛ لنعرف مغزاه، ولنُبقيه بعيدًا عنَّا. وسأقتصر هنا فقط على المعاني التي تهمُّنا، وسأتجنب المعاني الخاصة بالداخل الكوريّ، وهي كثيرة لكنَّها لا تهمُّنا في شيء، رغم أنَّ منها نَبَعَ المسلسل وصَدَرَتْ معانيه. وسأرتب المعاني من الأقلّ عُمقًا إلى الأعمق.
يا له من عنف جميل!
الإشكال في مُسلسلنا هنا ليس في العُنف وحسب، وليست في كمّ العنف القاسي والكثيف الذي تطالعه عيوننا؛ بل هو في عُنصر آخر أطلق عليه “جماليَّة العُنف”. فقد يُقدِّم لنا الصانع الدراميّ العُنف لكنْ من منظور مُنفِّر مُبشِّع، يشعر معه المُشاهد بالضيق من هذا العُنف.
لكنَّ مسلسلنا قدَّم العُنف في صورة جماليَّة مُفرطة، وقد يبدو هذا لخدمة هدفه الأكبر في تعبيره عن المعاني الأساسيَّة التي أراد التعبير عنها. وهذا لا يمنع من التنبُّه إلى تأثير هذا العُنف. مثلًا المشهد الطويل الذي تنتهي به الحلقة الأولى، وهو من أبدع وأجمل مَشاهد المسلسل عبارة عن “مذبحة” كاملة نراها أمامنا؛ حيث يُقتل عشرات وعشرات من الأشخاص، وهم يحاولون الهرب بعدما اكتشفوا أنَّ الإقصاء يعني القتل الفوريّ.
وفي مشهد آخر نجد أنفسنا نتمنى أنْ ينتصر أبطالُنا في لعبة “جذب الحبل” ليلقى الفريق الآخر مصرعه بالوقوع من منصة شاهقة، وبعضهم يقع حيًّا يُصارع الموت، وقِطَع جسديَّة مُتناثرة هنا وهناك. والمشهد بتركيبه وألوانه وتكويناته شديد الجماليَّة -هكذا صنعه المخرج-. وفي مشهد آخر نرى الجميع يتقاتلون في ساحة النوم، لمدَّة دقائق ممتدَّة، وهو مشهد جميل أيضًا وصعب التنفيذ جدًّا. وبالعموم فالمسلسل يتمحور -في هذا الجانب- في رؤيتنا لأربعمائة وخمسة وخمسين شخصًا يُتفنَّن في طرق مَصرعهم بالدهاء والجمال! ولا شكَّ أنَّ هذا له تأثير على نفسيَّة المُشاهد يجب أنْ يحذر منه.
وماذا عن عالَمنا الكبير الصغير؟
ومن المعاني ما أودُّ شخصيًّا التنبيه إليه، لإزالة بعض الوهم الذي قد يُوهم أفاضل عندنا. وهو ما يتعلَّق بالعَولَمَة التي تريد نسخ كلّ الشعوب إلى الصورة النمطيَّة الواحدة؛ ليصير عالمنا صورةً واحدةً، وكوكبنا دولةً صغيرةً. وفي المسلسل نرى هذه المشكلة تواجه المجتمع الكوريّ أيضًا. ومثلًا بسيطًا على الفكرة الشخصيات جميعًا يرتدون ملابس ذات الهيئة الأمريكيَّة نفسها التي تغزو العالَم كلَّه، وهذا البطل بعد خروجه منتصرًا يدخل دكَّان حلَّاق شعبيّ وينظر في النماذج المقترحة لقصّ شَعره؛ فإذا هي نماذج أمريكيَّة قد ارتداها كوريون بعدما خرجوا عن “نمطهم الثقافيّ”.
والخلاصة أنَّ عمليَّة “انسلاخ الهُوِّيَّة” لا يتعرَّض لها المُسلمون والعرب فقط، بل تتعرَّض لها بقيَّة الثقافات، لأجل انتحال صفة واحدة هي أنْ “تتأمْرَكَ” أيْ أنْ تصير شبه الأمريكيِّين.
وقد تطوَّر الأمر لمرحلة أخطر في السنوات الأخيرة، سيطول بنا الحديث إنْ تطرَّقتُ إليها. وبالعموم للشركات العُظمى عابرة الحدود تأثير ضخم في إشاعة هذه الظاهرة في كلّ الأرض، كما للإعلام الدور الأبرز فيها.
الرأسماليَّة ذلك الوحش المفترس
انصبَّ المسلسل في جزء كبير منه على نقدٍ حادٍّ جدًّا للرأسماليّة (قد لا يكتمل التصوُّر دون ربطه بالنقطة التالية في المعاني). فها نحن نطالع منذ المشاهد الأولى تأثير هذه الرأسماليَّة المُتوحِّشة على المُجتمع الكوريّ -وهو هنا مجرد مثال، ونحن مِثلُه في هذا الوضع صِنوانِ-؛ وأبرز ما نشهده هو فكرة “العيش تحت ربقة الديون”، ولنتذكَّر أنَّنا هنا نشهد صراعًا يخوضه مئات المُثقلين بالديون. ويشتركون في هذه الخاصيَّة فقط، لكنَّهم ليسوا سواءً: بل منهم المجرمون، ومنهم الذين لوَّثهم المجتمع، ومنهم مَن اضطروا إلى الاستدانة. أيْ أنَّنا نتعامل مع “مجتمع الدَّيْن”.
وأُذكِّر هنا أنَّ المجتمع الرأسماليّ -في شرائح كثيرة منه، ونحن بدأنا تطبيق هذا الوضع في بلادنا- يعيش تحت ربقة هذه الديون؛ فالطالب يدخل الجامعة بدَيْن له مع الدولة، ويشتري غالب احتياجات حياته -ومنها بيته وسيَّارته- بالديون، ويظلُّ الفرد طوال حياته يُسدِّد في هذه الديون إلى أنْ يموت. وهناك الكثير من الأفلام الوثائقيَّة التي تتناول هذه المُشكلة. وهذا هو حال شخصيَّاتنا في المسلسل فجميعهم يتصارعون للخلاص من مجتمع الديون، في صراع طويل يتمنَّى فيه كلُّ شخص قتل أخيه لينجو هو وحده مُغتنمًا الجائزة!
ومن لوازم الديون تأتي “المُراهنات” على كلّ شيء، كحلٍّ يبقى سرابًا دائمًا وأبدًا لا ينقذ أحدًا، بل يُورِّط الجميع. وهو العنصر الذي ضيَّق حياة بطل المسلسل، وجعله في خطر دائم. ويُطالعنا من نقد الرأسماليَّة أنَّ بطل المسلسل نفسه كان عاملًا في إحدى إمبراطوريَّات الرأسماليَّة “شركة سيارات”، وقد فُصِلَ منها لمجرد رغبة الشركة في تقليل النفقات. والمشهد أيضًا يُذكِّرنا بشركات ضخمة “آبل، سامسونج…” يقف أصحابها المُلمَّعون المُنمَّقون فوق أجساد مئات الآلاف من العُمال الذين يفنون أعمارهم بالفُتات ليصفُّون هُم المليارات بجوار أختها.
ومن عظائم هذا المجتمع الرأسماليّ أنْ يصير الإنسانُ نفسُه سلعةً؛ وقد رأينا هذه الفكرة في المسلسل في مسألة المُقايضة ببيع الأعضاء. فبسهولة تامَّة تُصاغ معادلة العالَم الرأسماليّ: لا تملك أنْ تدفع مالَك؛ فلتدفع لنا من جسدك. وهكذا يتحوَّل الجسد الإنسانيّ الذي شرَّفه الله وعظَّمه الإسلام إلى مُجرَّد “مُقابل ماليّ مُرضٍ”.
ومن أبلغ نقود المسلسل للنظام الرأسماليّ الذي يفرض هيمنته على العالَم هو حقيقة اللعبة التي هي مجرد تلهية وتسلية، أو في الحقيقة طبيعة الكون كما يتصوَّره أساطين الرأسماليَّة. فالجميع كادحون يتقاتلون على “فرصة نجاة”، ولا يعلمون أنَّ وراء كلّ ما هم فيه مجموعة من أصحاب الشركات عابرة الحدود، والذين يظهرون -كما يبدو- أوربيين جميعهم. لكنَّ الأحداث تُرينا أنَّ شريكهم “رقم 1” كوريّ مثلهم، فلا دين للرأسماليَّة، بل الرأسماليَّة دين الجشع والطمع والإفساد.
لا نسمح باختراق الديمقراطيَّة!
اللعبة مَبنيَّة على الإرادة الحُرَّة للاشتراك فيها، وكذلك دارت بعد “موافقة توقيعيَّة” على بنود “قيام” اللعبة، ثم تمَّ إيقافُها بعد “استفتاء” بين اللاعبين جميعًا بعدما اكتشفوا حقيقة الإقصاء. وقد قال المسئول المراقب بالنصّ: “لن نتغاضى عن أيّ عمل يُعيق هذه العمليَّة الديموقراطيَّة”، في صورة من الحفاظ على الإطار الديمقراطيّ للمُجتمع. كلُّ هذا يبدو مُحاكيًا تمامًا لأفعال الدولة الحديثة. لكنَّنا نرى القائدَ نفسَه يأمر أتباعه بمُراقبة البقيَّة الذين رفضوا إكمال اللعب والمضيّ في حياتهم عن كثب. فها هو مجتمع الإرهاب في صورته “القانونيَّة”، يقول لك: “أظهِرْ ما تريد، وعبِّر عمَّا تريد، وفي النهاية سنفعل نحن ما نريد”.
معنى “العدالة” الذي ركَّز عليه المُسلسل في أكثر من موضع قد جاء مفهومه -وفق تشكيل أبطاله- غريبًا كلَّ الغرابة، بل قد يتوافق فقط مع الطابع المشتبك والغريب للدولة الحديثة. والعدالة تعني عدم خرق قوانين اللعبة، أيْ قوانين هذا العالَم المثاليّ الذي دارت فيه الأحداث. أمَّا مَن يُخالف هذه القوانين نفسها فيُقتل غيرَ مُكرَّم -لا كبقيَّة مَن يقتلون وفق قوانين اللعبة نفسها!- وكأنَّه خائن لا يستحقُّ إلا التمثيل بجثته.
وبالفعل في الحلقة السادسة، نرى ثُلَّةً ممَن قُتلوا لمُخالفتهم لقانون أصحاب اللعبة، وقد علَّقوهم بين المسالك والطرقات كالخراف التي تذبح، ونسمع صوت المُعلِّق مع أبطالنا يقول: “مَن تشاهدونهم الآن هُم الذين خالفوا قوانين هذا العالَم لمصلحتهم الخاصَّة، وشوَّهوا المذهب النقيّ لهذا العالَم. في هذا العالَم جميعُكم تتمتعون بالمُساواة. حقُّكم في نيل فُرص مُتساوية يجب أن يكون مضمونًا دون تمييز”.
ولا أرى تعبيرًا عن عجائبيَّة الوضع في الدولة الحديثة أصدق من هذه الصورة. فالعدالة فيها لا تتعلَّق بمفهوم الحقّ، بل تتعلَّق بانضباط لعبتنا التي أقمناها. فالقائد المدير لا يعبأ إنْ كان جنوده يسرقون الجثث أو يحرقونها أو يبيعونها قِطعًا، ويُصرِّح لجنوده بهذا، لكنْ يضيره جدًّا أنْ تنكسر قوانين تلك اللعبة التي ضربناها قيودًا علينا جميعًا بـ”عقد اشتراك وتراضٍ”!
نموذجا الإيمان والإلحاد
هناك نماذج كثيرة قدَّمها المسلسل بين أبطاله، منها ما لا يهمنا هنا لذا لن أذكره. وما سأدير الحديث عنه هي “النماذج الفكريَّة” أو الأيديولوجيَّة التي تمتلك رؤية فكريَّة مُوجِّهة. وهي أربعة نماذج؛ اثنانِ هامشيانِ، وآخرانِ مركزيَّانِ.
الهامشيَّان: أوَّلهما نموذج الإيمان “رقم 244″، وهو رجل في منتصف العُمر. والدين في هذا السياق واحد، الأهمُّ أنْ نُصدِّر نموذج المُؤمن بإله والمُتديِّن بدين. وقد قدَّم المسلسل هذا النموذج في صورة بلهاء ساذجة؛ وكأنَّه إنسان خُرافيّ يُخاطب خرافته في ظلّ هذه الأزمة الكاسحة التي يمرُّ بها.
والنموذج الآخر هو نموذج الإلحاد “رقم 240″، وهي فتاة تصوِّر النموذج الإلحاديّ النفسيّ الغاضب على كل تصوُّر إيمانيّ، والذي ألحد في ظلّ اعتراض عموميّ. وقد قدَّمها المسلسل في شخص المُفارق دومًا لكل جماعة لشعورها أنَّ الجميع ليسوا حقيقيِّين -لأنَّهم ملوَّثون بوهم الإله-، حتى وجدت الفتاة الشماليَّة فشعرت فيها بالصدق وأنَّها تنفر من الجميع مثلها، فبدأت تتقرَّب منها. وبالعموم صُوِّرت شخصيَّتها بتعاطُف، بل صُوِّرت في صورة المُضحِّية عندما اقتضت لعبة ما أنْ تموت هي أو الشماليَّة، فاختارت أنْ تموت طواعيةً. ولعلَّ العدميَّة الكاسحة التي تهيمن على تصوُّرها هي التي دفعتها للانتحار لا التضحية العاطفيَّة.
وفي رأيي أنَّ العمل لمْ يقصد هذين النموذجَيْن؛ بل إن المسلسل استخدم هذه الملحدة، وصراعها الساذج الذي لا يمرُّ على تصوُّر طفل مع المتديِّن ليخلص منهما جميعًا إلى تلميع “نموذج البطل” نفسه، الذي يُفضِّل أنْ يخرج من تلك الضوضاء المُزعجة والحوار العقيم -كما صدَّره المسلسل-، ولا يشغل باله بتلك الترهات، بل المهم هو واقعنا وما نحن فيه الآن وحسب.
بين الأوَّل والأخير تلخَّص كلُّ شيء
التركيز كلَّ التركيز في المسلسل دار في شخصيَّتَيْ “رقم 1″، و”رقم 456″، ولنلحظْ أنَّهما هنا الأوَّل والأخير في الترتيب (البطل آخر الواصلين وآخر اللاعبين). فمَن هُما من نماذج الفكر؟ وكيف صوَّرهما المسلسل؟
نموذج البطل هو النموذج العلمانيّ، عرفناه من أوَّل لقطاته ذلك الإنسان الذي لا يهتمُّ إلا بما يُواجهه الآن وهنا، يتصرَّف حسب مُعطيات الواقع؛ دون نموذج قِيَميّ مُفارق (الدين مثلًا). فقد كان يتأرجح بين الأخلاق الطبيعيَّة وأخلاق الموقف. هذا الإنسان الذي عندما شكَّ أنَّ مَن يجلس بجواره سيُحدِّثه عن الإله (الغالب هناك مسيحيون) يردُّ عليه ناهيًا وإنَّه لا يهتمُّ بالإله، وأنَّه ليس مسيحيًّا، بل هو من عائلة بوذيَّة، لمْ يقُل: أنا بُوذيّ، بل من عائلة بُوذيَّة. ليس لأنَّه مُلحد -كالفتاة الغاضبة-؛ بل لأنَّه علمانيّ غير مُكترث بالدين، هو ليس مُحتقرًا له، بل لا يريده وإنْ عرَفَ أنَّه موجود، وأنَّ الناس مُؤمنون به؛ الأهمُّ ألَّا تشغلني بهذه الدوَّامة، دعني هكذا أتعامل مع الحياة بمُعطيات الموقف وحسب، دون وصاية من كيان عُلويّ أيًّا كان هو.
ونرى المسلسل يُلمِّع هذه الشخصيَّة، ويجلو صفحتها، ويصبغ عليها كلّ صفات الإنسانيَّة (تذكَّر هنا حديثنا عن خطَّة إشراك الجميع وإبراز مَن نريد). فها هو بطلنا يحبُّ الجميع، ويتعاطف مع الجميع، ويأبى أنْ يُجهز على خصمه (بعد أنْ صاروا ثلاثة أشخاص فقط) لأنَّ هذا الفعل مُخالف لـ”طبيعته”، لا لنموذج قِيَميّ ينتسب إليه. وهذا تصوُّر فلسفيّ قائم بذاته في النظرة إلى الإنسان ووجوده الأوَّليّ. ونرى خصمَه المُتعلِّم يقول له إنَّ “طبعه” كان سيجبره على إنقاذ الفتاة الشماليَّة. فالبطل هنا مُمثِّل لتصوُّر يدَّعي أنَّ الإنسان لا يحتاج إلا إلى طبيعته لتُلهمه “الصواب” دون نموذج قِيَميّ يُفرض عليه. وقد غلَّب عليه المسلسل الرؤية الخَيْريَّة وكذلك الرؤية التفاؤُليَّة. وقد ترك كلَّ ما يملك -بحُكم أنَّه الفائز باللعبة- وصار يبحث عن الأسباب وراء هذه اللعبة.
أمَّا النموذج الأخير النموذج الوجوديّ الإلحاديّ (للمذهب الوجوديّ تفريعانِ: أحدهما مؤمن والآخر مُلحد، والأخير هو مذهب جان بول سارتر الفيلسوف المشهور). وهي شخصيَّة “رقم 1” الرجل العجوز الذي يكشف لنا المسلسل أنَّه صاحب اللعبة، وأنَّه أحد رجال الأعمال الذين يُديرون تلك الألعاب لمُشاهدة الآخرين والتسلِّي بهم وهم يُصرعون. لكنَّ شخصيَّتنا الوجوديَّة لا ترضى بالمُشاهدة، بل تشترك في اللعب بنفسها. لقد مثَّلتْ هذه الشخصيَّة التصوُّر الوجوديّ بحذافيره.
التصوُّر الوجوديّ الإلحاديّ يبدأ من وجود الإنسان فجأةً، دون سبب ولا علَّة، ولا خطَّة ولا تدبير. لذلك تبدأ الشخصيَّة الوجوديَّة في صناعة هُوِّيَّتها بنفسها، من خلال سعيها غير المشروط بأيَّة معايير إلا الحريَّة، ومن خلال تلك النظرة للوجود بوصفه محنةً عُظمى وُجِدَ الإنسان فيها دون أيّ مُبرِّر، ودون رضا منه بالوجود فيها (ولذلك تجد عندهم الدعوة إلى قطع النسل الإنسانيّ العبثيّ هذا، وانقراض الإنسان).
وهذا الرجل العجوز الذي سئِمَ من جمع الأموال بعدما كان فقيرًا (أيْ أنَّه طبَّق النموذج الوجوديّ في حياته جميعًا؛ ليكون “شيئًا” بتلك الأموال) اكتشف أنَّ حياته جحيم مُستعر، فقرَّر أنْ يصنع لنفسه أهدافًا أخرى في هذه الألعاب، وأنْ يشترك فيها بنفسه، مُعرِّضًا نفسه للهلاك، لرغبته الدفينة أنْ يعيش وأن يمارس الحياة. ولرغبته الواضحة أنْ يصنع لنفسه “هدفًا” في الحياة، فشخصيَّتنا شخصيَّة عدميَّة لا تؤمن بأنَّ للحياة هدفًا إلا ما يصنعه الإنسان لنفسه من أهداف وقتيَّة بسيطة، متى بلغها شعر بالضياع واللامعنى، وذهب يصنع لنفسه هدفًا آخر يلهث وراءه. ولعلَّنا نرى “رقم 1” يُمارس المراهنة على حياته حتى آخر لحظة في رهانه الأخير مع البطل، ورغبته في تحقيق هدف آخر قبل الرحيل في عالَم العدميَّة المُريع.
معنى “اللعبة” بين عبث الوجوديَّة واختبار الإسلام
التصوُّر الوجوديّ ضارب في كلّ جنبات المسلسل، لا يقتصر على “رقم 1”. فمثلًا تدور الوجوديَّة -كما سبق- على أنَّ الكون عبثيّ، وأنَّ الإنسان مظلوم بوجوده هنا، وأنَّ الآخرين هُم الجحيم، وأنَّ الدنيا لا تحوي إلا الذئاب. وهناك مسرحيَّة لسارتر (رائد الوجوديَّة المُلحدة) عنوانها “الجحيم”؛ وأنَّ الإنسان غريب عن الآخرين وعن نفسه، وهناك رواية لألبير كامو (أحد روَّاد المذهب) عنوانها “الغريب”.
ونحن في المسلسل نرى عنوان الحلقة الثانية هو “الجحيم”، ونرى شخصيَّة البلطجيّ “رقم 101” عندما كان على الصراط الزجاجيّ (أحد الألعاب المُميتة) يقول لبقيَّة الشخصيَّات: “نحن في الجحيم، ولا قواعد في الجحيم”. ولا أوجَهَ في تمثيل الأمر من بناء المسلسل الكُلِّيّ؛ حيث يتصارع الجميع في ظلّ ظروف غير عادلة تُشكِّل ملامح حياتهم.
وبعد؛ فمسلسلنا يدور عن “لعبة”، وإذا سألنا: ما هي اللعبة التي عرضها في أبسط تصوُّر لها؟ سنجد أنَّها حياة مُبسَّطة مُختصرة تدور حول اختبار نجاح أو فشل. نرى فيه بطلنا الوجوديّ قرَّر أنْ يخوض تلك اللعبة، وأنْ يُخضع نفسه لهذا الاختبار بمحض إرادته واختياره. وإذا سألنا لماذا؟ أقول: إنَّه أراد أنْ يكون عبدًا بعدما حاوَلَ أنْ يكون ربًّا مُديرًا بنفسه لكونه الخاصّ. يريد أنْ يتضاءل عن هذا التصوُّر الأُلوهيّ للإنسان القادر الذي لمْ ينل فيه إلا العدميَّة، ليتصوَّر في صورة الإنسان ويطرح الحياة في صورة “اختبار”. ولعلَّي هنا أذكِّر بالطرح الإسلاميّ للحياة على أنَّها دار اختبار وعمل.
وبين هذيْن النموذجَيْن: الأوَّل لعبة الوجوديَّة التي طرحها المسلسل، والتي تُمارَس فعلًا على يد كثير منَّا، وفيها يخرج الإنسان من اختبار إلى اختبار، ومن لعبة إلى لعبة، ومن طموح إلى آخر، ومن منصب إلى غيره، ومن بلوغ حفنة من الأموال إلى حفنة أخرى، في لُهاثٍ لا ينتهي، ولا يُشبع الإنسان ولا يرويه. وكلُّها أهداف لا تثبت ولا حقيقة لها، ينسى الإنسان بها -وقد يكون مُسلمًا- حقيقة وجوده في هذا العالَم؛ ليتيه في هذه الدنيا الواسعة وضروبها.
والآخر هو تصوُّر الإسلام للدنيا بوصفها حياةً هادفةً يمنحها الله هِبةً للإنسان الذي لمْ يكُن شيئًا؛ ليُحافظ على هذه الهِبة النفيسة، مُستخدمًا إيَّاها في الصالح الذي أرشده الله -تعالى- إليه، مُتعامِلًا بما شرَعَه له من طريق في هذه الحياة، وبوصفها دار عمل به الإنسان يُختَبَر، ودار تعجُّ بأفكار التِّيْه على الإنسان أنْ يَخلُصَ إلى الإيمان بالله الواحد الأحد. ولعلَّ رؤيتنا لهذه النماذج الغربية عنَّا تجعلنا نُدرك قيمة المُعتقد الإسلاميّ، وتجعلنا نُردِّد الحمد لله على نعمة الإسلام، وهبة الهداية في الحياة.
رائع. توضيح لأفكار المسلسل كما هو دون مبالغات. سلمت أقلامكم.
مقال رائع لما حمله من توضحيات عن المسلسل الذي يحمل أفكار ضارة وسامة لصحة عقل المسلم.
شكراً لك.