قراءة في كتاب إسلام السوق
لقد حان وقت تجديد خطابنا الديني، وإعادة ضبط تديننا على إيقاع الموجة الاستهلاكية: أنت أيها الشيخ العالِم! كُفّ عن إلقاء الدروس العلمية الشرعية بتلك الطريقة التراثية المملة! ألا ترى أن مواضيعك “قديمة” و”مكررة” ولا تجذب “الزبائن”؟ إننا نريد الطرح الإبداعي الذي يصلح للتسويق.
وأنت، أيها الداعية! هذب لحيتك الكثة، وحبذا لو حلقتها تمامًا، وتخلص من ذلك القميص. ارتَدِ “تيشيرت” عصريًا مزركشًا بالورود، واحرص على أن تكون وسيمًا مفتول العضلات، لا تُحدث الناس عن الترهيب وتخوفهم من عذاب الله وعقابه، إنك “تنفرهم” وتقسو عليهم؛ حدثهم عن المحبة الإلهية ورغّبهم في الجنة، حدثهم عن كيفية تحقيق أحلامهم الدراسية والوظيفية، وعن التحفيز والثقة بالنفس وقوة الشخصية..
ماذا عن حجابك ذي الألوان الباهتة أيتها المرأة المسلمة؟! إن لباسًا كهذا لا يتماشى وأهدافنا الاقتصادية، إننا نريد لباسًا نستطيع أن نميز به بين النساء من خلال قدرتهن الشرائية. لا تخافي لن نغير شيئًا في الضوابط الشرعية للحجاب (على الأرجح!)، لكننا سنضيف له علامات تجارية لماركات عالمية.
أنت كذلك أيها المُنشِد، لا أريد كلمة أخرى عن الجهاد، إلا إذا سيّلت مفهومه ووضعته في قالب محبّب للمزاج العصري؛ كجهاد النفس أو جهاد النهضة. دَع عنك طابع التقشُّفِ والثورية، ولا تهتم كثيرًا لجزالة المعاني أو جودة الميزان الشعري. المهم أن تستلهم الإيقاعات من الفرق الموسيقية الكبرى، ويكون إنتاجك في مستوى جاذبية الموسيقى العالمية، ولا بأس كذلك بالمواضيع الرومانسية من حين لآخر.
لقد ولَّى زمن معايير الجودة الموضوعية؛ فالخطاب الشرعي لا يُقيَّم بمدى احترامه لمراد الله، بل بمدى اجتذابه لمتابعين؛ والحجاب الإسلامي لا يحتاج الخضوع للضوابط الشرعية بقدر ما يحتاج قيمة تسويقية .. إننا في زمن الإسلام الخاضع لمتطلبات التجارة العالمية، إننا في زمن .. إسلام السوق!
كتاب إسلام السوق – باتريك هايني
سنة 2005، أصدر الباحث السويسري باتريك هايني كتابه الشهير إسلام السوق، الذي كان بمثابة ثمرة سنين من دراسة المجتمعات المسلمة التي نشطت فيها الحركات الإسلامية؛ حيث قدم توصيفه لحالة التحول التي طرأت على البنية التنظيمية والسياسية لخطاب هذه الحركات، بعد تفاعلها الاضطراري مع العولمة وقيم السوق.
“يتميز هذا الكتاب بإلقاء الضوء على تحولات نوعية حدثت في مسيرة التدين خلال العقود الماضية. وهو يتبنى -بشكل ما- أطروحة “أوليفييه روا” و”جيل كيبيل” عن فشل الصحوة الإسلامية -وفي القلب منها الحركات الإسلامية- في تقديم نموذجها النقي للمجتمع؛ مع تصاعد معدلات علمنتها بعد أن تقبلت قيم السوق”. (تصدير د. هبة رءوف عزت للكتاب، صـ11)
يصف هايني هذا التحول من خلال عدة نماذج كالحجاب والخطاب الدعوي وبعض المفاهيم الكبرى كالجهاد والزكاة؛ ومن خلال بقع جغرافية من مختلف ربوع العالم الإسلامي، كمصر وإندونيسيا وتركيا ومسلمي أوروبا وأمريكا.
فالكتاب إذن يرصد نمطًا من أنماط إعادة قراءة الإسلام؛ وهو نمط قراءة الإسلام قراءة استهلاكية، أو بتعبير باتريك هايني “إسلام السوق، هذا النمط لم ينل -برأيي- حظه من الدراسة مثل ما نالت أنماط أخرى كإخضاع الإسلام للأفكار الليبرالية أو الإنسانوية؛ (وإن كانت هذه بدورها تحتاج المزيد من الدراسة)”.
في ثنايا الكتاب
يربط الكاتب ظاهرة إسلام السوق بركيزتين أساسيتين، تكرر الحديث عنهما في كل الكتاب تقريبا، هما النزعة الفردانية، والنزعة الاستهلاكية، باعتبارها أكثر ما يميز إسلام السوق عن “الإسلام التقليدي” أو “الإسلام السياسي”.
إذ يقول في مقدمة الكتاب: “أعني بـ”إسلام السوق“ مزيجًا من النزعة الفردانية المتعولمة، ونزع للقداسة عن الالتزام التنظيمي، بما يتضمنه ذلك من التخلي عن الشعارات الكبرى التي تتمحور حول شعار “الإسلام هو الحل”، وإعادة النظر في فكرة شمولية الإسلام لكل مناحي الحياة، والتدين الورع الذي لا يولي مسألة الدولة والثقافة المرتبطة بالطبقة الاجتماعية اهتمامه”. (إسلام السوق، ط. مدارات، صـ25) لكن قبل العروج على بقية مميزات (إسلام السوق) وتوصيف حالة السيولة التي أصابت المفاهيم الإسلامية في ظله بالتفصيل، لا بد أولًا من إلقاء نظرة على المنعرج الذي أدى لهذه الحالة.
الإسلاميون والعولمة، من الممانعة إلى الموادعة
أمام الإخفاقات المتكررة للحركات الإسلامية في أواخر القرن الماضي ومستهل القرن الحالي في تأسيس النظام الإسلامي المنشود، وبعد معاناة طويلة مع الأنظمة السياسية التي كانت في غالب الأحيان شرِسة في مواجهة الإسلاميين، وأيضًا تحت ضغط الانتقادات الحادة التي وجهها شباب غاضبون من أداء هذه الحركات؛ بدأت عزيمة الخطاب الإسلامي السياسي في ممانعة النظام الدولي تضعف، ثم بدأت هذه الممانعة شيئًا فشيئًا تتخذ أشكالًا أخرى؛ هي أقرب إلى التطبيع إن لم نقل الخضوع التام.
فانتقل الخطاب الدعوي الإسلامي من انتقاد الدولة والسعي لإقامة الشريعة، ومفاهيم مركزية كوحدة الأمة وعداوة الغرب، إلى التنمية الذاتية للأفراد والحث على النجاح الدنيوي وبث مفاهيم علوم الإدارة الغربية (المنجمنت – management) وصبها في قوالب إسلامية، كما تم التخلي تدريجيًا عن مفاهيم الانضباط والانتماء للجماعة؛ لكونها لا تلائم تطلعات الشباب الذي يتوق لمن يوجهه نحو النجاح الفردي في التعليم والوظيفة وكسب المال.
وقد استهل باتريك هايني الفصل الأول من كتابه بقوله: “يبدو أن السردية الإسلاموية الكبرى التي طالما استندت إلى مركزية المكون الديني في تقديم البديل الحضاري الكامل فقدت نفسها الطويل. هذا التراجع، (…) يمكن اعتباره نقطة انطلاق كل التحولات الجارية”. (إسلام السوق، صـ47)
ويقول في موضع آخر: “لم يعد الهدف استعادة الخلافة، أو تطبيق الشريعة؛ ولكن بناء مجتمعات مدنية مزدهرة تتحرك جنبًا إلى جنب مع الدول، وفق مضامين تقترب بشكل لافت من نماذج ”المبادرات القائمة على الإيمان“ التي يتبناها الجمهوريون الأمريكيون”. (إسلام السوق، صـ40)
السمات العامة لإسلام السوق
إسلام السوق كما تقدم -وكما يشير الكاتب- هو حالة من التماهي تمت بين بعض المفاهيم والأخلاق الإسلامية الكبرى كالجهاد والحجاب والدعوة، وبين مفاهيم العولمة الاقتصادية كالاستهلاكية والنجاح المادي والتسويق. هذا التماهي خلق منتجًا هجينًا؛ لا هو إلى التمسك بالهوية الإسلامية ومقاومة سيل العولمة الجارف، ولا هو إلى الذوبان التام في النزعة التسويقية الرأسمالية، على الأقل ظاهريًا.
يصف هايني أثر هذه الحالة الهجينة على جملة من المظاهر والعبادات الإسلامية، فيقول: “فالحجابُ الذي يرمز إلى حياء المرأة المسلمة أصبح يستعير العلامات التجارية الغربية، والنشيد الإسلامي الوليد هجَر طابع التقشف والاندفاع النضالي الذي ميز بداياته الأولى، وأصبح يستلهم إيقاعاته من إيقاعات تبدو أقرب إلى إيقاعات موسيقى حركة ”النيو آيج New Age“ أو ”البوب“ أو ”الراب“ ويتصالح مع شكل من الرومانسية العفيفة والواقعية أيضًا، أما فريضة الزكاة الإسلامية فقد أُخْضِعَت لإعادة تعريف في إطار إنسانوي غربي”. (إسلام السوق، صـ35-36)
ثم يصف بتفصيل أكثر حالة التأويل التعسفي التي أصابت هذه المفاهيم وفرغتها من مضامينها وحَشَتْها بالمضامين الحداثية التي تتماشى مع المزاج العصري: “هذه التأويلات التي تمس الدلالات الأصلية لتلك المفاهيم تعمد إلى انتزاعها من فضائها الطبيعي في الفقه الإسلامي، ووضعها في حقل دلالي مختلف عن حقلها الأصلي، أي في حقل المسائل الكبرى المتعلقة بالحداثة السياسية الغربية”. (إسلام السوق، صـ57)
فيما يتعلق بمفهوم الجهاد؛ فقد “فُرغ من مضامينه القديمة، واقتلع من فضاء الفقه الإسلامي الذي كان يحدد معناه تقليديًا. سيصبح مفهومًا رائجًا يتآلف بحرية، أو يكاد، مع مختلف قضايا اللحظة الراهنة من تدمير المواقع الإلكترونية إلى المجتمع المدني، مرورًا بتحقيق الذات والتفكير الإيجابي”. (إسلام السوق، صـ56)
أما الأناشيد الإسلامية، فقد كانت ذات مضامين سياسية تصب في مفاهيم كبرى؛ كوحدة الأمة ومقاومة الهيمنة الغربية: “كانت الأشعار النضالية تتمحور حول انتقاد الدولة، مع رفض لاستخدام الأدوات الموسيقية باعتبارها مخالفة للشرع”. (صـ65) ثم ما لبثت أن تغيرت أدواتها لتصبح أكثر تساهلًا في استخدام الآلات الموسيقية؛ “أما مضامين النشيد فسوف تتغير بالتبعية لتتحدث عن الحب والسعادة والشعر”. (صـ66). حدث كل ذلك خضوعًا للثقافة التسويقية الاستهلاكية؛ فقد قال أحد المنشدين الإسلاميين الذين حدث لهم هذا التحول: “لقد كنا نغني آلام الأمة الإسلامية بينما كان الناس يريدون أشياء أخرى، أشياء أكثر تفاؤلية”. (صـ67). فتأمل كيف تم التحول من معيار “آلام الأمة الإسلامية” إلى معيار “الناس يريدون”!
الخطاب الدعوي لإسلام السوق
من خلال تحليل خطاب عدة نماذج لبعض الدعاة الخاضعين لنمط “ما يريد الجمهور”؛ بالخصوص ”عمرو خالد“ في مصر و”عبدالله جمنستيار“ في أندونيسيا، قام باتريك هايني بوصف المحددات العامة التي تميز الدعوة إلى الله في ظل إسلام السوق. فـ”كلاهما يرفض أنماط التمييز الكلاسيكي للسلطة الدينية، فاللحية حليقة، مع استخدام اللهجات الدارجة وليس العربية الفصحى، ملابس عادية ومريحة، قمصان بدون ربطة عنق بالنسبة لعمرو خالد وحتى “تيشيرت” بزهور بالنسبة لمن يلقب محليًا بالأخ جيم، مع لهجة سهلة تتخللها خفة ظل”. (إسلام السوق، صـ76)
ثم يزيد الكاتب هذا الخطاب وصفًا فيقول: “التركيز على العاطفة والتأمل، والسعي لتحقيق السعادة الفردية هي القيم التي تسود خطابًا، يعمل غالبًا كعلاج وجداني يتناول مسائل الإيمان، بمقاربات هادئة إلى جانب التركيز على تحقيق الأهداف. عبادة الطموح وتثمين النجاح والارتقاء الاجتماعي، ونداءات الفاعلية هي التي تشكل المكونات الأساسية لوعظ دنيوي جدًا بالمعنى المزدوج للكلمة، يمر غالبًا عبر الصالونات النخبوية الراقية حيث كانت الخطوات الأولى لكل من الأخ جيم وعمرو خالد إضافة إلى فنادق الخمس نجوم حيث ينشطون وبنفس الطريقة ملتقيات للتحفيز وأمسيات رمضانية، ودروسًا دينية أو مؤتمرات”. (إسلام السوق، صـ79-80)
لم يعد الأمر يتعلق هنا بإقناع الجماهير بحقيقة مطلقة ومتعالية، ولكن بتكييف العرض الديني مع التوقعات الحقيقية أو المحتملة لجمهور مستهدف بدقة!
(إسلام السوق، صـ85). هكذا تحول الخطاب الدعوي من مفاهيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتوجيه الناس نحو مراد الله تعالى مع ترغيبهم في الثواب وترهيبهم من العقاب، إلى شيء أشبه بدروس التنمية البشرية وجلسات التحفيز التي تركز على دنيا الناس ولا على آخرتهم.
هذا إذن هو إسلام السوق، الذي يتميز “باستراتيجية انفتاح تتضمن إعادة موضعة الديني في فضاء السوق العالمي غير الديني”. (إسلام السوق، صـ91). فكما أن للغربيين ماركاتهم العالمية في اللباس والمأكولات، يجب علينا كذلك إنتاج لباس “إسلامي” وشركات مأكولات “إسلامية” بماركات عالمية، وكما أن لهم المغني فلانًا والمطربة فلانة، يجب أن يكون لنا المغني “الإسلامي” الفلاني (سامي يوسف كمثال).
لكن الحقيقة المرة أن هذا الاستنساخ، مهما تم طلاؤه بمعاني “الإسلامية”؛ سيفشل في بناء تجربة مستقلة، وسيجد نفسه في النهاية مجرد تابع آخر للعولمة، و”ستخيب آمال أنصار العولمة/المحلية، وأولئك الذين يحلمون بقدرة الشعوب على الإبداع؛ ذلك أن هذا الاستنساخ لن يكون “خلاقًا”، وسيؤكد سطوة النماذج المهيمنة مع غياب القدرة على تحويلها أو هدمها”. (صـ73)
ملاحظات على هامش الكتاب
قدم باتريك هايني في كتابه رؤية مثيرة للاهتمام لما آل إليه الخطاب الإسلامي والعبادات الإسلامية بعد غزو ثقافة السوق والاستهلاك. وقد سبق لنا أن رأينا مآل الخطاب الإسلامي بعد غزو الثقافة اللبرالية أو العلمانية أو النسوية، لكن قلَّما رأينا حديثا عن سلطة ثقافة السوق!
لكن مع ذلك، فقد دفعت الكاتبَ قلةُ اطلاعه على الفقه الإسلامي -ربما- إلى توفيد عدة أمور إلى غزو العولمة؛ مع أنها في الحقيقة من صميم دين الإسلام. فكما هو معلوم، فإن في الدين الإسلامي مساحة من الثوابت القطعية التي لا تقبل التغيير أو التبديل أو التأويل، وكذا مساحةً ترك الشارع الحديث فيها ووكّل أمرها للمتخصصين ينظرون فيها بحسب ما تقتضيه الأحوال؛ وهذه المرونة -إلى جانب صلابة التمسك بالثوابت- من أهم ما يجعل الإسلام صالحًا، ومُصلِحًا، لكلّ زمان ومكان.
فصحيحٌ أن كثيرًا من النماذج التي أوردها الكاتب قد خضعت لمفاهيم السوق، وتأثرت بالفعل بالنزعة الاستهلاكية، لكنه أورد أمثلة في هذا السياق لا ينطبق عليها هذا الوصف. فقد أورد كلام بعض رجال الأعمال الإسلاميين حول ضرورة امتلاك المال والسعي إلى تحقيق الغنى ومنافسة العالمانيين في ذلك. وقال: “هنا أيضًا، تظهر المواجهة مع الغرب وقد غيرت وجهتها. فيصبح الصراع -بانتقاله من السياسي إلى الاقتصادي- منافسة يضبطها السوق”. (إسلام السوق، صـ121).
لكن الإسلام يأبى على باتريك هايني ذلك؛ فقد حث أتباعه على امتلاك القوة من جميع النواحي، وعلى المواجهة مع العدو على جميع الأصعدة، سواءً كانت سياسية أو اقتصادية أو إعلامية أو ثقافية أو غيرها. فهي إذن منافسة يضبطها الإسلام نفسه، لا السوق!
أيضا انتقد الكاتب الإسلاميين لاستيراد مفاهيم علوم الإدارة الأمريكية (المناجمنت – Business Management)، وتوظيفها في الدعوة والتنظيم الحزبي؛ إلا أن ذلك ليس عيبًا لذاته، ما دام الإسلام هو من يحكم إطار العمل، وبقية المنظومات تعمل لصالحه يأخذ منها بحسب ما يتوافق ورؤيته. وقد استفاد النبي ﷺ من مختلف العلوم التي كانت عند الأمم الأخرى، عسكرية كانت أو سياسية أو اقتصادية.
ختام
كانت هذه باختصار جولة في هذه الدراسة الممتعة، التي بذل فيها الباحث مجهودًا مشكورًا للتنبيه على هذه الظاهرة: ظاهرة الإسلام المتوافق مع موجة الاستهلاكية والتسويق. حاولت فيها أن أقدم الخطوط العامة التي تحدث عنها الكاتب، حسب ما يسمح به المقام، مع اقتباس بعض الأمثلة. كما قدمت رأيي الشخصي في بعض الأمور التي رأيت أن الكاتب قد جانب فيها الصواب. والحمد لله رب العالمين.