غراس رمضان: فرصة إعادة ضبط البوصلة

نحتاج كأفراد وجماعات في حياتنا للتجديد الدوري، بمعنى إعادة إحياء المعاني المركزية والأساسية التي تجعل وجهتنا واضحة وترتب الواقع وتفاعلنا مع عوامله من جديد وفق أولويات تلك الوجهة ومقتضياتها؛ لأننا نعيش في واقع يراد لنا فيه أن نتشتت عن وجهتنا وأن تتنازعنا السبل بعيدًا. 

وقد أولى الإسلام أهمية كبيرة لهذه القضية، قضية تجديد وإحياء مركزيات الوجهة، ورتب لذلك محطات عبر الزمن، وأسس مواعيد ومواسم تجديدية، منها اليومي كالموعد المتكرر للصلاة المنتشر بين كل نهار وليلة، ومنها الأسبوعي كصلاة الجمعة، ومنها السنوي كموسم الحج.. ويبرز رمضان كعامل مركزي من عوامل التجديد والإحياء لهذه الأمة، باعتباره موسمًا هامًا وفرصة للتربية والإعداد يجدد للمسلمين وجهتهم، فما هي معالم هذا التجديد في رمضان، وما هي عوائقه، وكيف نواجهها؟

معالم الإحياء والتجديد الرمضاني 

إن سر رمضان الذي قد يعطي فارقًا كبيرًا في التفاعل معه والشعور بأهميته واستقبال نورانياته، هو يقظة القلب وإدراك أهمية الزمن منذ اللحظة التي يدخل فيها هذا الشهر الكريم، فإن الدقائق والساعات في ميزان الرحمن قبل رمضان غيرها بعد دخوله، إذ تتزامن لحظة دخول رمضان مع أحداث عظيمة، منها إغلاق أبواب جهنم وفتح أبواب الجنة، ومنها تصفيد شياطين الجن، ومنها بداية تعداد أفواج المعتوقين من النار في كل يوم من رمضان وفي كل ليلة.

فمن يمكنه استشعار هذه التغييرات العظيمة في الكون، إلا من كان يقظ القلب؛ ليمكنه الالتقاط والتفاعل الصحيح مع هذه النسائم؟!

الجوع والعطش.. وسائل لا غايات 

حكمة الصيام

للإنسان رغبة في امتلاك القدرة على فعل كل ما يريد سواء كان من الخير المتعارف على خيريته، أو من الشر الذي يحقق مصلحة فرد ما أو بلد ما على حساب غيره من الأفراد أو غيرها من البلدان والشعوب، وتفشي هذه الرغبة في مجتمع دون وجود وازع قد يؤدي به إلى المهالك، والوازع نوعان، وازع خارجي ووازع داخلي، فبلدان كأمريكا مثلًا ما الذي يمنع أفرادها من انتهاك الحقوق والعدوان الداخلي بين بعضهم البعض؟ ما يمنعهم هو شيء واحد، الخوف من القانون، أما إذا غاب سيف القانون والعقوبة يتحولون إلى وحوش تنهب كل ما يعترضها.

أما الوازع الداخلي فهو الذي يمنع من اقتراف الجرائم، حتى عند الاستطاعة، وعند المسلمين يُربي رمضان هذا الوازع ويزكيه طيلة الشهر الكريم بالصيام، إذ يمتنع الصائم عن تناول شربة ماء مع استطاعته وقدرته على ذلك، لكن امتناعه يتخلله معنى العبودية لله، أنا أمتنع عن مباح لأجلك يا رب وعبودية لك وتنفيذًا لأمرك، أمتنع عنها رغم قدرتي عليها واستطاعتي فعلها دون وجود وازع خارجي يمنع ذلك، إنه معنى لطيف يتجلى وراء الجوع والعطش والكف عن شهوة الفرج، إنها تربية لصفة العفاف في المسلمين، تخرجهم بعد شهرهم أقوى نفوسًا وأقدر على الاستغناء عن مطامع الدنيا المادية التي تلتهم في أوحالها مجتمعات بحالها. 

طاقة عملك.. رمضان يشحنها

جهاز الهاتف والحاسوب المحمول وغيره يحتاج -ما دام يعمل- إلى شحن مستمر بالطاقة، وإلا توقف عن العمل، فلا فرق حينها بين وجوده وعدمه، فهو في حالة موت مؤقتة، حتى يعاد شحنه من جديد.

كذا كل مسلم عامل بتكاليف إسلامه -ما دام مسلمًا- لابد له من وقفات شحن، يتدفق خلالها النور إلى قلبه وفكره ونفسه، ورمضان هو أبرز المواسم التي تعمل على شحن الطاقات المؤهلة للحركة والعمل.

فبقدر الاستزادة والشحن، تتواصل الحركة والعزم، فاِنهل من معين شهر الفتوحات وإعداد المجاهدين. 

معايشة قضايا أمتك.. من زادك الرمضاني

لن يشحن القلب والفكر والنفس أفضل من كتاب ربها خاصة في رمضان، وهو شهر القرآن، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 184]، شهر التذكير بسرديات القرآن الكبرى -وكل ما في كتاب ربنا عظيم وكبير- تذكير بأننا أمة، أمة لا تكون مؤمنة إن لم تتحقق فيها أخوة أفرادها وجماعاتها ومجتمعاتها على وجهة هذا الدين، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، ومن معانيها أنكم يا مسلمين لا تكونون كاملي الإيمان حتى تكونوا إخوة، حتى تكونوا نسيجًا مشدود الوصال والرباط، فحين إذن أنتم المؤمنون حقًا.

والأمة اليوم يجتاحها غزو من الخارج وغزو من الداخل، وكل جراح المسلمين واحدة، مهما كان مكانها، ومهما كانت أطراف الصراع فيها. 

فالصوم الذي فيه الجوع والعطش، يذكرنا بأهل لنا محاصرين، فقد نصوم مطمئنين أننا سنجد وقت الإفطار طعامًا وشرابًا، بينما يصومون هم ولا يجدون حين الإفطار ما يسدون به جوعة الجسد، يأتيهم السحور وزادهم من الطعام نية الصيام، كيف لنا أن تغادر آلامهم بالنا وقد قال رسولنا صلى الله عليه وسلم ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) [صحيح البخاري: 13]؟!

ويمر علينا رمضان ورجال ونساء من أمتنا من كرام الخلق منسيون في السجون، فكم من صيدنايا في أمتنا لا نشعر بأنين ساكنيها، فالسجون قبور الأحياء، وكيف لا نشعر بهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلمُ أخو المسلمِ لا يظلِمُه ولا يُسلِمُه مَن كان في حاجةِ أخيه كان اللهُ في حاجتِه ومَن فرَّج عن مسلمٍ كُربةً فرَّج اللهُ بها عنه كربةً مِن كُرَبِ يومِ القيامةِ ومَن ستَر مسلمًا ستَره اللهُ يومَ القيامةِ)) [البخاري: 2442]، فكيف نسلمهم للنسيان بعد أن حاصرتهم الجدران؟!

وغيرها من قضايا أمتنا، اجعل لها في حياتك وردًا، واجعل لها من دعائك نصيبًا، واجعل لمكلومي الإسلام في وجدانك حبًا وودًا، وانصرهم بما استطعت. 

معركتك بعد رمضان 

إعلام الشيطان في رمضان

يعلم أعداؤك قيمة رمضان على نفسيتك وهمتك وإيمانك، لذا يعتبرونه موسمهم المركزي في حرب الأفكار، يخرجون له “أكبر” عمائمهم في برامج أعدت بالأساس لصناعة الوهن وبث الشبهات وهدم الثوابت وتوجه للكبار بل وحتى الأطفال. 

يعلمون جيدًا أهمية تقييد شياطين الجن في رمضان، لذا يطلقون شياطين الإنس يتكالبون في سباق محموم ليسرقوا منك رمضان.

قد تكون مسلمًا يعيش دون أن يأبه لنفسه، ولا لقيمة العقيدة التي يضمها صدرك، لكنك إذا رأيت المبالغ الفلكية التي تُنفق على مسلسلات وبرامج رمضان، لتغيّر عندك الأمر، فهم يعلمون أنك إذا جلت عنك الحجب في رمضان، لتجلّى لكل الواقع عارٍ من الأوهام التي صنعوها، ولعرفت أعداءك وتيقظت للمعركة بعد رمضان {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6]. 

فهما طرفان، جند الله وجند إبليس، {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27]

فخذ مكانك في المعركة! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّه} [الصف: 14]

مؤمن سحنون

أرجو أن أكون من الساعين لأن ننال يوما الحرية، الحرية بمعناها الشامل لأمة تعرف رسالتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى