يومك الرمضاني.. ليس كأي يوم

المشتَرك السلوكي بين جموع الصوَّم في اليوم الرمضاني خلال أسبوعهم الأول إلى انتصاف الشهر مراقبتهم لمتنوع الطاعات والقربات؛ لأجل بقائها -على أقل التقديرات- بذات الجد والمثابرة في بداية الأيام الأُول لرمضان، وهذا الصنيع من حميد الفِعال، بل يندرج تحت منزلة المراقبة، وهي أجمل منازل السير لله عز وجل؛ إذ المرء رقيب نفسه وعمله تطلبآ لتحصيل أكبر فوز عند رفعها للرقيب الأجل الأعظم.

وهذه الحالة الرقابية لفاضل العبادة المقولة والمفعولة ضرب تفكّر في اسم الله (الرقيب)؛ فمَن علم برقابة الله عز وجل له واستشعرها حقيقة واستدرك مردوداتها على ذاته العابدة كانت باعثا له على أن يجدد نشاطه بطمأنينة أن هناك ربآ يلحظه في كل أحايين وخطوات طاعته له، وهو ما يدعو لتجويد تلك القربات تشريفا لها بشرف شاهدها والمجازي عليها.

تنبّه لتلك المنزلة

يومك الرمضاني.. ليس كأي يوم

لكن ثم منزلة أخرى قلَّ التنبه لها في ثنايا المجاهدة اليومية، وهي جرد مكنون النفس من المعاصي التي اعتادتها قبل رمضان، وهنا أعني المعاصي المتعلقة بأعيان العبادات نفسها؛ كالتأخر عن الجماعات الراتبة واستعظام التكاسل في الوقوف أمام الرب جل وعلا، والشرود الذهني والقلبي لحظة الوقوف بين يدي الله عز وجل، وغياب تصور نصب وجهه تبارك اسمه تلقاء وجه عبده في الصلاة ما لم يلتفت، والالتفات هنا التفات الجوارح والفؤاد؛ إذ المعبود أرفع من قبول عمل يُشركُ فيه معه غيره.

ففي اللحظات التي تستذكر فيها تدْوامك على قراءة وردك القرآني في يومك التاسع بذات الكم والنوع الذي بدأته في يومك الرمضاني الأول لتراجع عدد مراتك التي وقفت فيها في الصف الأول لصلاة الصبح قبيل الإقامة ولو بدقائق، فإن رأيت منك يقظة للصلاة كذات العادة قبل رمضان فاعلم أنك خاسر؛ فالتقوى -التي هي خلاصة الصوم- لا تقف عند باب فعل الطاعة فحسب، بل تشمل كذلك ترك المعصية التي هي ضرب إقعاد عن كمال الطاعة، وفرع عن أصل عدم كمالها على الوجه المطلوب.

سل نفسك أيها السالك عن ضعف الوازع الأخلاقي في التعامل مع التكاليف الأسرية ابتداءً، ثُم عن الذين هم حولك؛ هل لا زلت بنفس ضيق العطن وفُحش القول وبذاءة اللسان الذي كنت عنده من ذي قبل، أم أنه تحول من سلوك يومي إلى نشاط مؤجل تستأنفه أنى وضعت صوم البطن بتمرة الإفطار؟

التحلية والتخلية

خلاصة القول أن اليوم الرمضاني يحتاج لموازنة بين جناحي الفعل والترك فنحتاج فيه للطاعة مداومةً والمعصية هجرًا، ولا هجرة بعد الفتح أعظم من هجر المنقصات التي أقل ثمراتها قطع علائق أداء الطاعة بوجهها المطلوب.

فالناظر في حياة المسلم يجده يتنقل بين محطات حياته وساعاتها كمن سلك طريقا يعلم مخاطره إجمالا لكنه يجهل تفاصيلها؛ فمِن عثرات الذنوب الصغيرة واللمَم -التي يقينا عرف بوقوعه فيها إذ العصمة انتفت عن عموم المسلمين خلا الأنبياء- إلى كبائر المعاصي التي يضع في حسبانه اقترافها طالما نفسُ سوءٍ تترصده؛ فهذه الحذرات يتلافاها تلافي السائر في وعِر الغابات يخشى اللصوص…

يُحرز السالك نفسه بمتنوع الطاعات وفي مقدمتها ذكر الله جلا وعلا (… مثَلُ ذكرٍ كمثل رجل خرج العدو في أثره فأوى إلى حصن فأحرز نفسه) إلى أدنى القربات ككلمةِ حسن في وجه الخلْق، ولكن الحصيف من العبّاد من عَرف أخايير الأزمنة فيجمع بين وقت الطاعة وطاعة الوقت، ويتعرّض لمكرمات وبه سبحانه ((…إن لله في أيام دهركم لنفحات ألا فتعرضوا لها)). 

فكما أن ربنا جعل أمكنة مباركة كمكة وبيت المقدس ومنازل الرسل والأنبياء ومدارجهم وجميع بيوته من المساجد ومحاصن الذكر وبيوت المسلمين وبارك في ذواتٍ كالأنبياء والرسل والملائكة والعباد والزهاد وأهله وخاصته، كذلك بارك في بعض الشهور والأزمنة ومنها: رمضان فلزِم أن يستحضر المسلم هذه الرياحين ويتبرى مما يجافيها ويضاد صفاء ذهنه واشتغاله بطاعات ربه خلالها.

اليوم الرمضاني يبدأ بتهيئة المرء جوارحه ومراجحه وفؤاده حبسا للجسد مِن سجودٍ لصنم الهوى، وإخلاص القلب لرب النوى؛ فينوي بداخله خلاصا من ثِقال المعاصي والذنوب، ويسعى للهروب من أدغال الوحشة إلى جنة الأنس بالله تعالى اسمه، ويتنقّل من فاضل العمل إلى أفضله. في رحلة من المثابرة والمجاهدة يصل في نهايتها لخيري دنياه وأخراه بإذن الله.

يومك الرمضاني.. ليس كأي يوم

معارج ومراجع

لتتوخَّ حذرك في طريق سيرك الرمضاني فتعرج من مقتصِد في محصولِ طيِّب المطعوم والمشروب والتنزه وملاعبة النفس إلى محسن في عبادات اليوم والليلة، ومِن ثَم لسابق خيرات التقرّب لله مجانِبا لحالة ظالِم النفس التي كانت تستهلك عالمك ما قبل الرمضاني.

عبد العزيز كرار العكد

كلية الطب والجراحة، جامعة كردفان مهتم بقضايا الفكر الإسلامي مختص بفهرسة كتب السير الذاتية باحث… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى