وأن تصوموا خيرٌ لكم… الصيام وأثره في إيمان العبد
ذَهبتْ منا رمضاناتٌ عديدة، كم تمنَّينا أن نتزوّد فيها بالعِبادة حتَّى نُحقِّقَ التقوَى التي شَرَع اللهُ لأجْلِها الصيام، وَكَم تمنَّينا سِنينَ أن تُحَلِّقَ أرواحُنا حولَ العَرشِ خضوعًا ومحبةً للهِ -عزَّ وجلّ-، لكنَّ أنفسَنا متعلقةٌ بالطِّين مُرتكِسةٌ في الحَمأَة، تُؤثِرُ شهواتِها، كم عقدنا العزمَ أن نستثمرَ أوقاتَنا في خَتمِ القُرآنِ وتدبرِ آياتِه إلا أنَّ زُبدةَ أعمارِنا ذابَتْ تحتَ نارِ الشّهوات مِن فُضُولِ الطعامِ والشرابِ وجلساتِ السَّمَر والسَّهَر. وبعدَ انقضاءِ الشَّهرِ تعتلِجُ بالصدرِ حُرقةُ الندَم، فتخرُجُ زَفراتٌ مُتتابِعة، ثُم نُسكِّن أنفسَنا بأنا سنجتهدُ وسنعوّضُ في رمضانَ المُقبل!!
حتى لا يكونَ رمضانُك هذا تفريطاً في جَنبِ الِله سُبحانه، حتى لا تََقدَمَ على ربك ببضاعةٍ مُزجاة؛ فسبيلُ النجاةِ أن تعيشَ رمضانَ كما كان يعيشُه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، أن تحيا بِهَمِّ الصحابة وهِمّة التابعين، أن تتعاملَ مع الشهرِ وكأنَّه رمضانُك الأخير. قال ابن الجوزي:
إن الخيلَ إذا شارفت نهاية المِضمار بذَلَت قُصارَى جُهدِها لتفوزَ بالسباق، فلا تكُن الخيلُ أفطنَ مِنك! -صيد الخاطر-
التقوى
قال تعالى:”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ”[البقرة] قال القرطبي:” تتقون: معناها هنا تضعُفُون، فإنه كُلَّما قلَّ الأكلُ ضعُفَت الشهوة، وكلما ضعُفت الشهوةُ كلما قلَّت المعاصي. وقِيلَ لتتقوا المعاصي، الصيامُ كما قال -عليه الصلاةُ والسلامُ- جُنّة ووِجاء وسببُ تقوَى لأنّه يُميتُ الشهوات” -تفسير القرطبي-.
التقوَى هي مُلازَمَةُ خشيةِ اللهِ والتزامُ ما شَرَعَ الله، لا تُجتنَى ثمارُها بعد صيامِ يومٍ أو يومَين، بل هي عملٌ دَءُوبٌ تنبُتُ بالتدريج بِدوام مُراقبةِ النَّفْس في حَرَكاتِها وسَكَناتِها، وحَملِها على معالي الأمور، أن تخافَ على صيامِكَ من نظرةٍ عابِرةٍ أو كلمةٍ طائشةٍ أو خواطرِ مَعصيَة.
قد يكونُ جلوسُك أمامَ الشاشاتِ سببًا لِسُقوطِك مِن عينِ الله، سهرُك على المقاهي حتى بزوغِ الفجر إنّه لعَمري الخسرانُ المُبينُ حيثُ انشغلَ غيرُكَ بالصلاةِ والقرآنِ ومُناجاةِ ربِّه. هكذا التقوَى تمحيصٌ للنفس، أن تتعاهدَها بالسِّقاية والرعايةِ حتى تصيرَ شجرةً راسخةً أصلُها ثابت وفرعُها في السَّماء.
قال تعالى:”وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ”.[الأعراف] أفضلُ ما يتزيَّنُ به المرءُ التقوى، كان من دعاء النبيِّ صلى الُله عليه وسلم:
اللهم زيّنا بزينة الإيمان واجعلنا هُداةً مُهتدين! -سنن النسائي-
قال الحافظ ابنُ رجب رحمه الله:” من زيّن لله جوارحَه بالأعمال وقلبَه بحقيقة الإيمان زيّنه الله في الدُّنيا والآخرة، فمن عَلِمَ الُله من قلبِه الصدقَ زَيَّنهُ اللهُ عند عبادِه وبالعكس. فالزينةُ النافعةُ الباقيةُ هي زينةُ الايمانِ والتقوى” -مجموع رسائل ابن رجب الحنبلي-.
وما أحسنَ قولَ أبي العتاهية:
إذا المرءُ لم يلبسْ ثيابًا مِن التُّقَى.. .تقلّبَ عُريانًا وإن كانَ كاسِيا
اعمَل بجدٍ لتنعم بالحَصاد
كلما زادتْ تربيتُكَ نفسَك علَى التقوى في رمضانَ بقِيَ أثرُها في حياتِكَ بعدَه، فتزدادُ إقبالًا على اللهِ، وتتدرَّجُ في منازلِ السائرين، وتكونُ أكثرَ زُهدًا في الدُّنيا وصبرًا على شَظَفِ العيش، وتكونُ أكثرَ إقدامًا على مهامِّ الدعوةِ والبَذلِ للدِّين. ومن آثارها أن يفتحَ الُله المُقيتُ أبوابَ الرِّزقِ لك.
وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ[الطلاق]
ومن آثارها يُنجِيكَ الُله إذا نزلَ بساحتِك ابتِلاءٌ. قال تعالى:”وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ”[النمل] فمن آثار التقوى أن يَتَقبّلَ اللهُ من عبدِه؛ فإنَّ الَله لا يقبلُ العملَ إلا إذا كان صالحاً وكان لوَجهِه سبحانه وتعالى خالصًا. قال عزوجل”إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ”[المائدة]
إنّ من أجلِّ المقامات التي يسعى الناسُ في تحصيلِها الحكمةَ و الهدايةَ إلى الحقِّ، فإذا اختلطتِ الأمورُ وتشعبت السُبُلُ تجدُ الناسَ يتخبطونَ في بيداءَ تيهاءَ وفي ظلماتٍ فوقَ ظلمات، بينما تجدُ المُتقين على نورٍ من رَبِّهم، حيث رزقهم بصيرة وفرقانًا يفرقون به بين الحق والباطل.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [الأنفال]
إلى أين مآلك؟
“وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) [الزخرف] إن مُنتهى أرب اللبيب أن يُدخله الله الجنة، والتقوى أفضل ما يتزوّد به المرء لدخول الجنة. قال تعالى:( تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيّا) [مريم] فإذا عرفت شرف التقوى وعظيم أثرها، هانَ عليك نفيس ما تبذل.
لمّا طَلّقَ رسول الله صلى الله عليه حفصة رضي الله عنها جعلتْ تبكي. إلى أن جاء رسول الله واستأذن للدخول فتجلببت حفصة فقال:”قال لي جبريل:راجع حفصه فإنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة”. -أبو نعيم – حِلية الأولياء-. أنجاها الله وأبدلها بعد ضيقها فرجًا وأكرِم بها من بشارة أن تكون زوج رسول الله بالجنة، هذا بسببِ صيامِها وقيامِها.
أمَّا أنتِ ماذا عنكِ؟ استبطأتِ الفرج؟! ضاقت عليكِ الأرض! أوصيكِ بالصيام والقيام. وأنتِ كم عاهدتِ الله أن تُتوبي إلى الله؟ وأن تعودي لثوبِ العِفَّة والحجابِ الفَضفاض!! إلى متى ستخرُجِين في كاملِ زينتِكِ تتسولينَ النَّظَرات؟ غرّكِ طولُ الأملِ وفُسحةُ الأجل! أخشى إذا مر بك ِابتلاءٌ ألا تَملُكي حينَها رصيدًا من العملِ الصالح ليرفعَ اللهُ عنكِ.
أخشى أن يستدرجكِ ربُّ العالمين من حيثُ لا تعلمين، فيزدادُ اغترارُك، ويؤجلُ الابتلاءَ إلى قبرِك فتنتبهين مع أولِّ حَثوَة تُرابٍ تُُلامِسُ خدَّك. لقد كنتِ جميلةً… فهل تَرَيْنَهُ ينفعُ الجمال؟ أم سينفعك أنك كُنتِ الصوّامةَ القوّامةَ المُزريةَ بنفسِها اللّوّامة!! عليكُن بما كانت عليه أمهاتُ المؤمنين -رضي الله عنهن- من الصيام والقيام، والمحافظةِ على العِفَّة، وتلاوةِ كتابِ الِله؛ تجِدنَ نجاةَ الدنيا والآخرة.
المأوى الحقيقي
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) [الإسراء] في سكون الليل، يأوي الناسُ إلى الفراش الدافئ، أمّا عبادُ اللهِ لم يَسبِهم عشقُ النوم، هجروا لينَ الفراش، فإنَّ لهم موعِدًا ما كان لهم أن يُخلفوه، يَصِفّون أقدامَهم بين يدي الله، يتقلبونَ في الساجدينَ بصفحاتِ وجوههم النضِرة.
يعانقونَ السماءَ بنفُوسِهم الذكيّة المِعطاءة، يتعرضون لنفحاتِ الرحمة الإلهية، تتزينُ بهم المحاريب، صوتُ ترتيلهم آياتِ الله يشقُّ عُبابَ الليل، يُرسِلون سهامَ الدعاءِ فتقُضُّ مضاجعَ الطُّغاة، إذ أقسم ربُّنا (لأنصرنّك ولو بعد حين).
كما يفتحُ اللهُ لعبدِه ليلًا من الفَهم والتدبر ما لا يكون في غيرِه من الأوقات، ويُسْكَبُ الإيمانُ في القلبِ أثناءَ الترتيل لما في ذلك الوقت من صفاءِ النفس وخلوِّها من الشوارِدِ والقواطعِ التي تحُولُ بين المرءِ وربِّه.
إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المُزّمل]
الأمرُ شديدُ الوطأةِ على النفوس البطّاله؛ يتحمله أصحابُ الهِمَم العالية ممَّن آثروا الآخرة. كان رسولُ الِله كثيرَ الصيام لا يتركُ القيام، قام الليل حتى تورّمت قدماه، فلما اشتدّ المرضُ صلّى قاعدًا، إلى أن مات صلى الله عليه وسلم. أبو بكر الصديق رضي الله عنه “كان رجلاً بكَّاءً لا يملك دمعَه إذا قرَأ القُرآن” -صحيح البخاري-.
لم تتعارضْ عبوديتُه مع فروسيتِه بل كانت عبوديةُ المِحرابِ وتلاوةُ القرآنِ هُما الزادَ لخوضِ المعامِع، جَرّدَ سيفَه في حروب الرِّدَّة فأقامَ الُله به الدين. “أوَيُنقَصُ الدينُ وأنا حيّ !!” إن التهجُّدَ بالقُرآن من ثمراتِ العِلمِ الحقيقيّ. قال تعالى:
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر]
فلا تعارُضَ بين التعبُّد لله وبين العِلم والعمل والدعوة.
هذه كلماتٌ عَلّها تكونُ لُقيماتُ سَحورٍ يُقمن صُلبَ دينِك هذا الشهر، فقابلْ بالقبولِ لنُصحِ قولي. ها قد أتاك الشهرُ، فتزوّدِ بالصبرِ وتمنطق بِالحَزم واصدُق العزم.
وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران]