هل معنى تقوى الله أن أحرم نفسي متاع الدنيا؟ .. التقوى في رياض الصالحين
وفي باب قصير أوجز الإمامُ النووي بعضًا من الأحاديث وسمَّاه “باب في التقوى”. وعلى قِصَره، وعلى اقتصار الإمام فيه على آيات وأحاديث إلا أنَّه قد أحسن الاختيار الذي يؤدِّي بالمُتأمِّل فيه إلى صواب الرؤية وجزيل النفع. ولعلَّنا هنا نتنبَّه أنَّ الأوامر في الآيات والأحاديث بالتدبُّر والنظر المُتأنِّي في الكون ومعالمه، وفي أنفسنا، وفيما يُقال لنا، وفيما يقع من أفعالنا لمْ يكُن نوعًا من الترف أو الطلب الزائد؛ فكم من معنى نُضيِّعه حينما ننظر للأمور نظرةَ المُتعجِّل!
ما هي التقوى؟
التقوى كلمة تدور على أكثر من معنى؛ لكنَّ المعاني الرئيسيَّة لها تدور حول الخوف والحذر؛ تقول: “قلَّبت الصَّحن وأنا أتَّقي النار”؛ أيْ أخشى مُلامستها. وسنقرأ في الأحاديث “اتَّقُوا الدنيا”؛ أيْ احذروا منها واخشوها. أمَّا “تقوى الله” هذا التعبير الذي نسمعه في عديد النصوص الإسلاميَّة فهو لا يقتصر على معنى الخوف، بل معناه الخوف من الله، واحترام الله وأحكامه ومُراقبته.
ومن المُمكن أن أضيف معنى “الاعتبار”؛ والاعتبار هو أنْ يكون الشيء محلًا للنظر، فنسمع في الكُتُب كلمات مثل “رأي مُعتَبَر”، “كتاب مُعتَبَر في بابه”؛ وتعني أنَّه أهلٌ للاحترام والتفعيل والأخذ به، والنقل عنه، مع مراجعة الفكر قبل مُخالفته.
فهذه هي معاني الاعتبار التي أضيفها بجانب معنيَيْ الخوف والاحترام. فتعبير “اتقوا الله” أيْ اخشوه واحترموه واعتبروه في أفعالكم جميعها.
الأساس الذي بنتْ عليه الأحاديث فكرة التقوى
وفي ثاني أحاديث الباب نجد ما يُؤسِّس لفكرة التقوى ويُفهمنا إيَّاها فهمًا صحيحًا. بدأ الحديث لا من السماء بل من الأرض؛ أيْ من الحيِّز الذي يحيط بالمُسلم فقال فيه رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-:
- “إنَّ الدنيا حُلوة خضِرَة” فهذه هي المُسلَّمة الأولى والأساس الأوَّل للتقوى. فالدنيا التي يعيش فيها المؤمن مليئة بما يُعجِبُه ويثير اشتهاءه فيها، وهذه الأمور التي تُعجب المؤمن والمؤمنة موضوعة قصدًا في الدنيا، ومطلوب فيها الجمال والنصاعة وإثارة الحاجة عند المؤمن، وموضوع في المؤمن غريزةً حبُّ قضاء حاجاته من هذه الدنيا الحلوة الخَضِرة. وقد أعلَم الله المؤمنين أنَّ هذه الحلاوة والخضار في الدنيا إنَّما هي زينة مصيرها إلى الفناء والبِلَى (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ) -الحديد 20-. وأنَّ المؤمن سيكتشف أنَّ ما كان يراه منتهى أمله يشتهيه كلَّ الاشتهاء سيزول كما ستزول قدمُه عن دنيا الفناء إلى دار البقاء.
- الفكرة الثانية التي تؤسِّس للتقوى في الحديث نجدها عندما نكمل قراءته: “وإنَّ الله مُستخلِفُكُم فيها، فينظر كيف تعملون”؛ أيْ أنَّ الله قد وضعكم قصدًا فيها على هذه الهيئة النفسيَّة التي تشتهي زينة الدنيا، ثمَّ أخبركم أنَّ ما أمامكم محض زينة ولهو ولعب زائل، أمَّا الباقي الذي لا يزول فهو الحقّ من الله تعالى. وهذا أصل الاستخلاف -والاستخلاف له حديث طويل جدًّا ليس محله هنا لذا سأقتصر على ما يفيد الفكرة فقط-. ثمَّ يخبر الحديث أنَّ الهدف من وجودكم هُنا هو امتحانكم واختباركم وعملكم كيف يكون بين الحقّ الثابت والزينة الزائلة.
- ثمَّ يأتي الحديث بنتيجة المُقدِّمتَيْن فيقول: “فاتَّقوا الدنيا”؛ والمعنى العام؛ فباشروا هذه الدنيا وتعاملوا مع ما وُضِع فيها بحذر واعتبار لكون الدنيا الفانية، وحذر واحترام واعتبار للحق من الله الباقي.
وهُنا نلحظ أنَّ التقوى نتيجة منطقيَّة أرساها الحديث على مُقدِّمات منضبطة في سياق فكريّ سليم. ومن هُنا أنوِّه عبد الله الصالح إلى تذكّر “تدبُّر” آيات الله، وعدم التعجُّل في قراءتها واستشعارها.
فلسفة التقوى في الإسلام
من الممكن أنْ أمثِّل عند توضيحي لفلسفة التقوى في الإسلام بفكرة “الغزو الفكريّ والثقافيّ”. فكما تعرف بالضرورة أنَّ هناك غزوًا فكريًّا يُحيط بك يا عبد الله الصالح، من آثاره ابتعادك عن فكرك الأصيل وثقافتك الأصيلة ولُغتك الأصيلة، اعلم أيضًا أنَّ هذا الغزو يُشبه فعل “الدنيا الحُلوة الخضِرَة” التي جاءت في الحديث. ثمَّ تقرأ مَن يُوجِّهنا جميعًا إلى “التمسُّك بالهُوِّيَّة” لمُواجهة هذا الغزو الفكريّ والثقافيّ كحلٍ لها وعلاج، فكذلك اقرأ آيات وأحاديث التقوى؛ فهي تُصوِّر التقوى بالسياج الرُّوحيّ والنفسيّ والفكريّ الذي يحميك عن أنْ تزول قدمُك وتنجرَّ إلى غير مُراد الله.
فهذه التقوى هي سياج تحوط به محلَّك الذي اختار الله لك أنْ تكون فيه، وحالَك التي وصلتَ إليها مع الله. وكما أنَّ أيَّ مكان يُغزى ويُهاجَم؛ فمحلُّك هذا ستُهاجمك عليك “نفسُك التي بين جنبَيْك” لتُخرجك منه، وهي المُشتهية لهذه الدنيا الحلوة الخضرة ومغروز فيها اشتهاؤُها. وهُنا تأتي تقوى الله لتحيطك كيْ تُحبط هذا الهجوم.
هل معنى تقوى الله أنْ أحرم نفسي متاع الدنيا؟
والتقوى بمعنى الاعتبار الذي قرأته سابقًا توضِّح لك الطريق، وتُجيبك عن هذا السؤال: كيف أكون مُتِّقيًا لله؟ وهل معنى تقوى الله أنْ أترك الدنيا وأُحرَم من متاعها؟ والإجابة أنَّ الإسلام أمرك بتقوى الله، وكذلك باتِّقاء الدنيا؛ ويعني هُنا اعتبار مركز كُلٍّ منهما، وتذكُّر دورك وحقيقة ما ترى، أو بدقَّة ما هو الحقّ وما الذي قد يتصوَّر لك على أنَّه الحقّ.
والإجابة بشكل أوضح: لا بالقطع، ليس عليك أن تترك الدنيا وتُحرم من متاعها كي تكون تقيًّا، ولمْ تقصد الأحاديث ذلك عندما أمرتْ باتقاء الدنيا؛ بل المطلوب أنْ تعرف أنَّ الدنيا دار اختبار، وأنَّ هذه الأمور اللامعة البرَّاقة التي تراها فيها هي نفسُها مَحَلُّ اختبارك وأدواتُه، وأنَّها ستزول عن قريب، وأنَّك مُختَبَر في كيفيَّة تعامُلك مع هذه المُعجِبات في الدنيا. وأنَّ الله لمْ يمنعك أبدًا من الدنيا؛ بل نظَّمَ علاقتك بها بشريعته، فالمطلوب النهائيّ أنْ تلتزم بما أقرَّه الله لك في هذا التنظيم.
وعلى هذا أتى النووي بآخر أحاديث الباب ليُدلَّ أنَّ التقوى أمر يسير، وأنَّ المطلوب فيها أقرب مِمَّا تتخيَّل. يقول الحديث:
اتَّقوا الله، وصلُّوا خمسَكم، وصُوموا شهرَكم، وأدُّوا زكاة أموالكم، وأطيعوا أمراءَكم تدخلوا جنَّة ربِّكم.
“نقطة ومن أوَّل السطر” كما يقول العوام، ليس عليك إلا التزام ما طُلب منك فقط لا غير.
التقوى حاجز وسياج يُكتسب
وهذا الحاجز الذي هو التقوى والذي يُرشِّد علاقتك بالدنيا وما فيها ويُعينك عليها لهو أمر يزيده الله فيك متى رآك يا عبد الله طالبًا له، مؤتمِرًا بأمره، مُنتهيًا عمَّا نهى. ويدلُّ على أنَّ التقوى تُكتسب، وأنَّ الله يقويك عليها ويزيدها في قلبك دعاءُ النبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- بها: “اللهُمَّ إنِّي أسألك الهُدى والتّقى والعفاف والغِنى”. فهذا دُعاء المُصطفى فداوِم عليه أيُّها الراجي رحمة ربِّ المُصطفى.
التّقوى درجات، فتشبَّثوا بأعلاها
وعندما نعرف أنَّ التقوى تُكتسب، فمعناه أنَّ لها درجات؛ فهناك تصرُّف فيه اتقاء لله أكثر من تصرُّف آخر. وفي هذا أتى الإمام بحديث:
مَنْ حلَفَ على يمينٍ ثُمَّ رأى أتقى لله منها فليأتِ التقوى.
وفيه أيضًا الحثُّ على التشبُّث بأعلى درجات التقوى في تصرُّفاتك ما أمكنك ذلك.
أثر المُداومة على تقوى الله
وانظر يا عبد الله الكريم كيف يُكرمك الله تعالى متى اتَّقيته، واعتبرته، وحفظته في نفسك، وراعيته في فعلك، في نصّ الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) -الأنفال 29- سيجعل الله هذا السياج الذي يحميك نورًا ترى به الحقَّ من الباطل وتفرِّق بينهما. وهذا المعنى مُتطابق مع طبيعة الإنسان التي متى تدرَّبت وتعوَّدتْ على شيء مهرت فيه، وصار له ما يُسمَّى “حسّ الشيء”.
وتذكَّر هذه الكلمة في المِهَن فتسمع “حسّ المِهنة”؛ ويعني أنَّ المُمتهِن هذه المِهنة قد تفاعَل مع مهنته حتى وصل إلى درجة يعرف بها الأمور من قبل أنْ يتغوَّل فيها أيْ من مفاتيح الكلام فيها، وتكون له خبرة نفسيَّة بالعمل تفوق الخبرة الماديَّة -وهي الخبرة الاعتياديَّة التي نعرفها-. وكذلك أتتْ الآية بأنَّ التقوى تكفِّر السيِّئات وهي سبب لغُفران الذنوب.
التّقوى في القرآن الكريم
أمَّا الآيات التي أتى بها الإمام النووي ففيها اختيارات جيدة؛ منها ما يشير إلى أنَّ للتقوى درجات، وأنَّ المطلوب منك هو التزام أقصى درجات التقوى بما يليق بالله ومقامه ومقام تعاليمه في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) -آل عمران 102-، ومنها ما يدلُّ على مُصاحبة التقوى لقول الصدق والتزام الحقّ في الرأي في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) -الأحزاب 70-.
واقرأ هذه الآية واسعد أيُّها المُتَّقي -الطلاق 3،2-:
(وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ).
فأبشر يا عبد الله ببشارة الله لك، والحق بركب المُتَّقين.