أبناؤنا والقدس: معالم للبناء

من خصائص هذه الأمة أن جذوة الخير فيها تبقى مشتعلة؛ وإنْ خمدت تحت الرماد زمنا، وإنْ كنا لا نرى جسد الأمة الممزق يتداعى له سائر الأعضاء، ويؤازره كل بما يظن أنه ينفعه أو يقوم به، إلا أن هناك ملمحًا واضحًا يظهر من بين الشقوق والجدران المتصدعة، نراه فيمن يجعل رسالته إيقاظ الوعي، ومن يضع الأساس أو ينتبه للخطر القادم. ذلك الوعي الناشئ الذي يرى في صغار الأمة أملًا قادمًا، ويحرص على أن ينفعه ويبين له الصورة، ويغرس في قلبه أن ينتمي إلى أمة؛ هي وطنه الكبير الذي يرنو إليه ليسد فيه خللًا أو يعالج جرحًا.

ولأن قضية فلسطين والقدس تقف شاهدة على حالنا، وتتابع على تطوراتها الأجيال المتتابعة، أحببت أن أرسم هنا بعض المعالم لتلك القضية الأساسية؛ التي نشأنا وهي حاضرة، وما زالت تمثل عنوانًا وصدى لواقع لا نرضاه لأنفسنا وأمتنا. لعلها تفيد في بناء وعي الأجيال الناشئة بقضاياها وكيف تكون نصرتها الحقة.

من ينصر القدس؟

أبناؤنا والقدس

تعلمنا من ديننا أنه على رغم الحماس المتقد في نصرة مقدسات المسلمين، وتلك العاطفة الخاصة لقضية فلسطين والقدس -لما لها من مكانة وتاريخ-، فإن النصرة الحقيقية تكون بالإعداد، وليس بالإنشاد، بأداء واجب الوقت، وليس بالذكر المؤرق والبُكائيات.

والإعداد المقصود هنا أن تتهيأ النفوس لتكون من أهل النصرة وممن يسعون لنيل شرف “إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم”. وهو أمر لا يكون بمجرد الرغبة ولا بالتمني الحالم؛ بل ببناء النفس لتكون مؤتمرة بأمر ربها، وقادرة على حبسها على الواجب كيفما كان. إنها رحلة تستنزف الطاقات وتستخرج مكنونات القوة، إنه البناء المتدرج للنفس الضعيفة الغريرة؛ حتى تنشط وتقوى وتترقى في مدارج الإصلاح الذي يخليها من الشوائب والمكدرات، ويكمل لها فضائلها التي ستتيح لها الانضمام لمعركة التحرير؛ متى فُتح الطريق لذلك.

لذلك سيكون علينا أن نعلم أطفال الجيل بعض هذه المعاني، ونعينهم على تحقيقها؛ لعلهم يكونون طليعة الأمة التي تنبعث من رقدتها، وتقف على أقدامها. فإما تنال موعود ربها أو تكون قد أدت ما عهد إليها وجزاؤها عند ربها.

فما حقيقة الصراع؟

يندرج تحت البناء المطلوب، البناء المعرفي للأبناء الذي يعرفهم بمسلمات القضية؛ أهي قضية أرض نزعت منا -كما يرى عدد غير قليل من أبناء الأمة-؟ أهي قضية الإنسان تغتصب حقوقه ويحرم من استعادتها، أم هي غير ذلك؟

فإذا كنا نتحدث عن الطفل المسلم؛ فلا ريب أن علينا أنْ ننظر إلى القضية بمنظار ما جاء في الوحي، وما رسخته سيرة نبينا الكريم -صلوات الله وسلامه عليه-. لقد جاء الإسلام بغاية تعريف الناس بربهم وإقامة العدل، وحمَّل أتباعه الأوائل حمل الراية والقيام بالأمر، وتتابع على حمل الراية جيل بعد آخر. لذلك فإن سقوط فلسطين بيد أعداء الله كان إحدى حلقات سقوط الراية من جند الله، وإن عودتها هي قضية عودة الأمة إلى دورها ومهمتها، واستعادتها هو استعادة النفس المسلمة التي تسعى إلى إعلاء كلمة الله والقيام بمنهجه.

وحتى لا ينحصر الأمر في شعارات لا يلبث أن يذهب أثرها أو تحمل الناشئ وجدانيًا ما لا يحتمله فكريًا، ولا يتأصل له عقديًا؛ يحب أن يكون البناء متكاملًا، وأن تُبنى النفس الصغيرة تدريجيًا، فتعرف أن لها أعداء لا يهدأ كيدهم ولا يتوقف سعيهم الخبيث. وأن من مراحل كيدهم السطو على بعض مقدسات المسلمين، وإذلالهم والعلو عليهم بما لهم سطوة وقوة، وأن المسجد الأقصى الأسير وسائر الأرض المباركة هي رمز يقظة الأمر وقيامها بدورها الذي اجتباها الله لها.

اليهود أم الصهاينة؟

الصهاينة

نتحدث دائمًا عن الفرق بين اليهود والصهاينة، لكن من أين جاءت الفكرة ومن قام بها، ألم يكن طائفة من اليهود ممن أرادوا ودبروا وسعوا سعيهم الحثيث لاغتصاب الأرض من أهلها، وتدنيس مقدسات المسلمين؟ سيبقى علينا أن نفرق بين الطائفة المعتدية، ومن سالموا أو رفضوا العدوان، فهذا من العدل الذي يعلمه لنا الله في القرآن “ليسوا سواء”. وحتى لا يتيه بين مُغالٍ ومميع، سيحتاج أن يتعلم أن قضيته الأولى ألا تُخدش عقيدته وأن يكون عزيزًا بها مدركًا مقامها، وألا يقبل ظلمًا واعتداءً عليها أو على ما سواها من أرض ومتاع، لتتكون لديه من ذلك رؤية واضحة فيما يجد ويختلط من الأمور يعالجها بسواء واعتدال، ويتعامل معها ومع أطرافها وفق ذلك الميزان الإيماني المنضبط.

لكننا نؤمن كذلك بما جاء في القرآن من عداوة اليهود وأهل الشرك للذين آمنوا، وأن مكرهم والفتن التي برعوا بها لا تقتصر على سلبهم لأرض المسلمين قدسها، بل إن ذلك جزء من علو الباطل، ووقوفه ضد الحق الصراح.

وكما أن هناك من اغتصبوا الأرض وقهروا أهلها، هناك من تسلطوا على القلوب والعقول فجعلوا بيننا من يحذو حذوهم ويسلك طريقهم في تغييب العقول وصرف القلوب عن الهدى والحق، أو من وقع في غوايتهم وظن بجهله أن حياتهم هي الحياة وأن طريقهم هو ما يحقق سعادة الإنسان وصلاح حاله.

ليعرفْ أبناؤُنا إذن صفات العدو ومقاصده وغاياته؛ ليكون على وعي بمكره وسحره الباطل، فلا يقع في حبائله دون أن يدري وهو يظن أنه في الجانب الآخر مقاومًا ومدافعًا.

الأمل إلى جانب الألم

بيت المقدس

يتعرض الطفل المسلم والعربي بخاصة لمشاهد مؤلمة من مشاهد القتل والاعتداء والذل المهين؛ سواءً لإخوانهم في الأرض المباركة أو في غيرها ممن ابتلوا بالظالمين. ولتلك المشاهد -لا بد- أثر قد يجعل الطفل مسكونًا بالخوف وبالعزوف التام عن كل ما يتعلق بآلام المسلمين ومصائبهم.

لذلك من المعالم المهمة التي يجب أن تتوجه للطفل المسلم أن يكون على وعي بسُنن الله في كونه، وأن الله ينصر عباده المؤمنين؛ إذا حققوا شروط الإيمان والنصر، وأن النصر ليس خيالًا بعيدًا، وكذلك لا يأتي بالحماسة الفارغة.

وهنا تأتي أهمية عرض التاريخ عرضًا مختصرًا بما يناسب أفهامهم، وببعض التفصيل لما تعرضت له فلسطين على مر تاريخها، وكيف كان للمسلمين فيها تاريخ مجيد وفتح مبين على أيدي الثلة المباركة التي صدقت ربها فصدقها الوعد.

إن عرض التاريخ البعيد والقريب -بما فيه من صفحات فخر وعز، وبما فيه من سطور انحدار وذل-؛ ليؤكد للناشئ أننا في مرحلة من مراحل الضعف التي قد تتلوها مرحلة قوة وعز؛ إذا حققنا شروطها، وأن الأمل بانتصار الحق إحدى الخطوات الموصلة له، والذي تتلوه السعي لإعداد القوة اللازمة ليكون جنديًا من جنود التحرير أو أحد الحلقات المؤدية إليها.

لماذا لا يأتي النصر؟

قد يتساءل الطفل لماذا لم تتحرر فلسطين إلى الآن؟ ولماذا تحريرها شاق ومكلف؟ .. وهو تساؤل لا يختص بالصغار، بل سمعته من كبار لم يطلعوا على تاريخ بلاد بعيدة عنهم، فهم وإن جمعهم الإسلام؛ فقد غابت عنهم بعض حقائق الواقع الذي يصلهم مختلطًا بالشوائب وممزوجًا بثقافة كل قطر وانتماءاته المتعددة.

وللوصول إلى إجابة واضحة، رغم ما قد يبدو في السؤال من تاريخ طويل وعروج على أمراض مستوطنة؛ يمكننا تبسيط السنن الكونية كما أوردها ربنا وكما نراها تحدث في التاريخ، ليعرفَ أن العوامل تجتمع معًا لتشكل واقعًا، وليس مجرد نية متوفرة أو وسائل حاضرة، وليكونَ على علم أن الإنسان المسلم له معركتان داخلية وخارجية، وأن عليه أن يكون يقظًا لكيلا يؤتى من قبلهما، وليعلم أن أمته قد تبدلت هويتها وأن هناك من أبنائها من يهدمون أي بناء لها بأيديهم، خدمة لأعدائها. فإذا فهم فكرة تكاتُف الباطل واجتماعه على بقاء تلك السطوة الظالمة، كان قادرًا على فهم الواقع، واستطاع أن يفهم كذلك الأساس المطلوب لاستعادة الحق وأن إحدى مطلوبات استعادته هو إعداد القوة والتي تتنوع بين قوة إيمانية ونفسية وفكرية ومادية، وأن كل جزء من البناء يساعد في تصحيح الفكرة، ويقرب الخطوات إلى العمل المطلوب.

فما هي القوة التي يجب عليه إعدادها؟

القدس

ينبئ واقع الأمة عن حالة من الضعف العام يعيشها المسلمون في أنحاء العالم. لذلك فهم في حاجة إلى كافة أنواع القوة التي يستنقذون بها أنفسهم ويتمكنون بها من القدرة على الوقوف بلا وهن أو تداع أو غفلة. ومن أنواع تلك القوى التي يمكن للأبناء تحصيلها عبر بنائهم المتدرج:

  • إيمانية: إن مصدر أي قوة هو اعتقاد جازم بالقلب يدفع للعمل وللحركة وتخطي الصعاب. فإذا دفع الناسَ إيمانٌ بعراقة الأصل، أو إيمان بقيمة التفوق والحصول على كنوز الأرض؛ فالإيمان عندنا أننا مستخلفون ومسؤولون. وتعليم الطفل الإيمان الذي يحثه على الحركة ويجعله مستطيبًا للبذل وقادرًا على الاستجابة للحق -أينما وجدت بواعثه- هو أول كل شيء، وهو المؤسس لما بعده. والإيمان المقصود ليس الحفظ والترديد، وإنما فهم الأركان وتطبيقها والحياة بها ليسهل بعد ذلك تلقي ما ألزم به الله المؤمنين من النصرة والإعداد.
  • معرفية: ويلي ذلك أن يتعرف على ما يحتاجه حقًا لينشأ واعيًا فطنًا، فيعرف من هو وما الذي يشكل هويته، وما هي قضايا المسلمين الحقيقية التي يصح له أن يشتغل بها، وساعتها سيعرف أين موقع كل قضية من حياته وكيف يتعامل معها. كما يتعلم كيف يحفظ عقله وتفكيره من مدمرات الوعي كي لا يخرج متذبذبًا تتخبطه الشبهات، أو هشًا تكاد تهلكه الحوادث والنازلات. إننا نرى من سبقوا في مجال القوة المادية ومن علوا في الأرض؛ كيف كانت رؤيتهم واضحة، وكيف تتربى صفوفهم الأولى على مهام عالية وتحفظ طاقتهم من التأثر بالأحداث الجارية، فيخرجون ولهم قضية واحدة يعملون من أجلها، فما أحوجنا إلى جيل يقظ فطن يتقدم ولا يتأخر بسبب انشغاله بمعارك الألعاب التي يدمنها أو بكسب المزيد من متابعي حساباته الوهمية!
  • فكرية: لا يتوقع من الأجيال الناشئة أن تكون على وعي تام بما يحدث من صراع ممتد، تظهر فيه ابتلاء كل طائفة بالأخرى، ويربى به عباده المؤمنين، ويحررهم من استعباد النفس لكل ما هو دون الله؛ لكنه يحتاج أن يتربى على أنه جزء من أمة لها تاريخ عريق ويرجى لها أن تعود قائمة بالحق الذي عهد الله به إليها. إذا فهم الناشئ أننا في وقتنا الحاضر قد صرنا أمة مستباحة وأن واجب الوقت هو إعداد النفس للمساهمة في قيام الأمة من نومتها، فهو فرد في أمة تؤثر فيها حركته، وهو واحد من مجموع أفراد تتكون منها الأمة، فلعله يراجع خطواته ويستحي من نومته ويقرر أن يكون مسؤولًا.

ورغم أن هذا الوعي يتشكل عبر خطوات مدروسة وسنوات من القراءة والبحث والفهم، إلا أن بعض الآفات التي تعترض الناشئ قد تمنع هذا الوعي أو تقلل أثره، كسقوطه في فخ الهشاشة النفسية، أو الشعور بفقد الهوية، أو عدم فهم المهمة، لذلك يجب على المربين ملاحظة تلك الآفات ومعالجتها بما يناسبها قدر المستطاع، حتى لا تذهب الجهود سدى. وحتى لا يعتاد الناشئ أن يكون تفاعله مع قضاياه ردودًا وقتية متأثرة بالأحداث، ثم لا تلبث أن تتوارى وتذهب انتظارًا لحدث آخر؛ فمن الجيد أن تكون لديه فكرة عامة عن دوره وقدرته مهما صغرت ودقت، فتكون حاضرة دائمًا في ذهنه مستحضرًا لهذا الدور عاملًا له. وقد يكون الدور بسيطًا خاصًا ببناء نفسه حينًا أو أكبر قليلًا، متمثلًا في كلمة حق أو تعليم غافل.

  • تاريخية: أن يرتبط الناشئ بالقدوات الحقيقية في تاريخه، وبما صنعوا من بطولات أحدثت أثرًا، فيشعر أنه مُنتمٍ إلى أمة لها غاية أعلى من تحرير الأرض، فهي ترمي إلى تحرير الإنسان ليكون عبدًا لله في كل قضاياه، في اختياراته وسلوكه. فإن تاريخ الأرض المسلمة يقول لنا إنها سرعان ما كانت تنتزع إذا ضعفت الحالة الإيمانية وتنازع أخوة الإيمان وتطلعوا إلى أعراض الدنيا الزائلة.

وبمقدار ما يتعلم أن فلسطين أرض مباركة، وهي قبلة المسلمين الأولى، وهي رمز لوحدة الأمة واستعادتها لريادتها؛ بمقدار ما يجب أن يعلم أن للمسلمين مقدسات أخرى تنتهك، وصغارًا في بلاد غيرها تغتال براءتهم، وإخوة دين في بقاع متعددة يُكاد لهم، كي لا تنحصر الرؤية في قضية واحدة بعينها، بل يشمل وعيه سائر القضايا التي تنطلق من قاعدة مشتركة في النصرة والمؤازرة، وإن تخلفت الأسباب واقتصر حظه منها على الدعوات والكلمات الداعمة.

لا ريب أن حال المسلمين وقضاياهم المتعددة تحتاج وقفات متعددة، وإن من أهمها أن تنشأ أجيال حريصة على علاج هذه القضايا، أو على الأقل تخفيف حدتها. ولعل المعالم اليسيرة السابقة تساهم في صناعة وعي هذه الأجيال، وإدارة قضاياها ونصرتها بشكل أكثر وضوحًا واتزانًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى