النيوليبرالية… النظرية الأمريكية التي خرَّبت العالم

هذا المقال ترجمة بتصرف لمقال: Neoliberalism – the ideology at the root of all our problems لكاتبه: George Monbiot. الآراء الواردة أدناه تعبّر عن كاتب المقال الأصلي ولا تعبّر بالضرورة عن تبيان.

لعبت النيوليبرالية دورًا ملحوظًا في جُل المصائب التي حاقت بالبشرية خلال القرن الأخير من انهيارات مالية، وكوارث بيئية، وحتى صعود الشعبويين أمثال دونالد ترامب. والسؤال الذي يطرحُ نفسهُ: لماذا فشل اليسار في إيجادِ نظريةٍ بديلة؟

هَب مثلًا لو استيقظ رعايا الاتحاد السوفيتي يومًا ولم يتناهى إلى مسامعهم شيء عن معني الشيوعية! كذلك الحال بالنسبة لنا؛ فأغلبنا لا يعرف اسمًا للأيديولوجية المُسيِّرةُ لحيواتنا.

وإذا قمت بالتحدُّثِ عنها مثلًا في مُحاورةٍ ما، فإن أقصى ما يُمكن أن تطمحُ إليهِ فيمن تُحدِّثه أن يُكافئك بوجهٍ خالٍ من التعابير، تنطِقُ قسماتهُ باللامُبالاةِ الصارخة وحتى لو تَنبَّه من تُكلِّمه للاصطلاح مُسبقًا، فإنه سيشقَّ عليه تعيين تعريفٍ مُحددٍ للنيوليبرالية… فما هو تعريفها؟!

يُمثِّل الغموض المُحيطُ بالنظريةِ عَرَضًا لمتانتها وعاملًا لقوتِها، وقد لَعِبت النظرية دورًا رئيسًا و ملحوظًا في عددٍ من الأزمات الواقعة في القرن الأخير كـ”الأزمة المالية العالمية 2007-2008″، ومُعضلة إعادة توطين رؤوس الأموال والنفوذ خارج الدول الكُبرى (التي أفرزتها الشركات مُتعددة الجنسيات بغية الاستفادة من ميزات كالحصول على عمالة أرخص في دولٍ أصغر والتهرُّب الضريبي) والذي كشفت لنا وثائق بنما نذرًا يسيرًا من جسامته وهولهِ (وقد اغتيلت الصحفية المسؤولة عن كشف هذه الوثائق دافني كارونا جاليتزيا في تفجير سيارتها بمالطا شهر أكتوبر الماضي).

أيضًا مسائل جسام مثل هبوط مستويات الصحة العامة للجماهير وتفشّي الأوبئة، وانخفاض جودة التعليم مع تنامي ظاهرة عمل الأطفال، وذيوع الإحساس بالوحشة الاجتماعية حتى أضحت الانعزالية سمة عصر التطور والتكنولوجيا؛ حيث قلَّت التفاعلات الإنسانية، وانخرط الناس في عوالمهم الصغيرة على هواتفهم الذكية وأجهزتهم التي ارتبطوا بها ارتباطًا وثيقًا، ناهيكم عن اختلال الأنظمة البيئية جرّاء التلوث وانبعاثات السموم.

بالإضافة إلى صعود الشعبويين الغوغائيين (الديماجوچيين Demagogues) أمثال دونالد ترامب، لكن البشرية تتعامل مع هذه الأزمات بعزل إحداها عن الأخرى دون وعيٍ منها بتشابه مُسبباتها ووحدة منبعها، تلك الفلسفة مُتسقة البنيان التي لا يعرف كثيرون معناها ولا يعلمون لها اسمًا وأي قوةٍ وجلالة تُماثل إدارة شؤون الدنيا بطريقٍ غيبيٍّ مجهول؟!

انتشرت النيوليبرالية بشكل واسع حتى أننا بالكاد بتنا نُعرِّفها كأيدولوجية، والظاهر أن البشر أجمعوا على اعتبار تلك النظرية “الطُوباوية” (من وجهة نظر البعض) إيمانًا ألفيًا (يُمثل العقيدتين السياسية والاقتصادية الأكثر رواجًا في الألفية الجديدة) أو قوة مُحايدة مُنظِّمة لمعايشُ البشر كنظرية النشوء والارتقاء التي أوجدها تشارلز داروين إلا أن تلك الفلسفة نهضت وارتقت كمحاولةٍ مقصودة لتوجيه كافة ميادين الحياة الإنسانية، وتغيير دفة القوى على المسرح العالمي.

السمات المُميِزة للنظرية النيوليبرالية

ترى النيوليبرالية في المُنافسة خاصية رئيسة لتعريف العلاقات الإنسانية؛ لتُعيد إثر ذلك تعريف المدنيين كمُستهلكين يُمارسون حُرية الاختيار كاملة بديمقراطية دون شوائب في عمليتي البيع والشراء على الوجهِ الأفضل الأتم.

وهي (أي عمليتي البيع والشراء) عملياتٌ تُكافئ الجدارة والمهارة وتُعاقب انعدام الكفاءة. وتؤكد النيوليبرالية مِرارًا وتكرارًا على الدور المُتعاظِم “للسوق” في إيصال مُكتسبات هامة ونادرة لا يمكن تحصيلها بدونه ولا حتى بالتخطيط!!

تمتاز الدول المُعتنقة لهذه الفلسفة بانخفاض نسب الضرائب، وسهولة اللوائح التنظيمية، ووضوح التشريعات التُجارية بما يجذب الاستثمارات. وتُعَامَل مُحاولات قصر المنافسة بين شركاتٍ بعينها دومًا كمُمارسات احتكارية مُعادية للحريات في ظل النيوليبرالية.

أيضًا، تتم خصخصة شبه كُليّة للخدمات والمرافق العامة، مع اعتبار كافة أشكال العمالة المُنظَّمة، والمفاوضات الجماعية (وهي مفاوضات لجماعات مُنظمة من العمال تُجابه تسريحًا أو تعديًا على المؤسسة التي يعملون بها كمفاوضات عُمال مصانع الغزل بالمحلة في مصر)؛ التي تُمارسها النقابات العُمالية ضروبًا من التشوهات السوقية التي تعوق تَكَوّن تنظيم هرمي طبيعي من الفائزين والمهزومين.

في كنف النيوليبرالية، يضحي انعدام المُساواة من الفضائل، وتُدَغدغ مشاعر الجماهير الظمآنة إلى الثراء حيث لا تُكافؤ إلا للمنافع ولا اعتبار لغير المصلحة. تُعدُّ الجهود المُضنية المبذولة لخلق مجتمع أقل تمييزًا وأكثر عمرانًا بالعدالة الاجتماعية سلوكيات مُهترئة أخلاقيًا، ومُضرِّة إنتاجيًا، وغير مُجدية. فالسوق يضمن حصول كُل فرد على ما يستحقه من موارد.

أما البشر فإنهم يُطبقون مفاهيم النظام النيوليبرالي ويُعيدون إنتاجها؛ فالأغنياء مثلًا يُقنعون أنفسهم يوميًا أنهم اكتسبوا ثرواتهم عن جدارةٍ واستحقاق مُتناسين الميزات التي اختصوا بها كمستوى التعليم العالي، وميراثهم الشخصي، وعلو طبقتهم الاجتماعية والتي من الممكن أن تكون قد ساعدت على تأمين موقفهم واستدامة ثرائهم. بينما الفُقراء على النقيض تجدهم يلومون أرواحهم البائسة على خُساراتهم المُتلاحقة حتى مع غُلَّةً أيديهم وقلة استطاعتهم على تبديل أحوالهم وتحسين ظروفهم.

استنادًا على ما سبق، لا يُلقي الناس بالًا للبطالة الهيكلية، فعدم امتلاكك لوظيفة يرجع على الأرجح لكونك ضئيل القدرات لا يتهافت السوق على طلب مهاراتك، أما الإسكان فلم يعد أحد يُبالي بارتفاع كُلفته الباهظة.

في حال بلغت بطاقتك الائتمانية الحد الأقصى فهذا لأنك مُسرفٌ وضعيف. وبالنسبة لأطفالك لو سَمِنوا فأنت الوحيد المُلام ولا ينشغلن بالك إذا افتقرت مدارسهم للساحات الرياضية ففي عالمٍ تحكمه المنافسة يُصم بالفشل الذريع من يتخلَّفون عن الركاب أمام أنفسهم وفي أنظار الجميع.

من بين انعكاسات النيوليبرالية علي البشر أيضًا كما يُلاحظ عالمُ النفس الإكلينكيپول فيرهاجه في كتابه “ماذا عني؟ ?What About me” ظهور بِضعة أعراض على الفرد مثل اضطرابات الطعام، وميله للاكتئاب، والعُزلة، وأذية نفسه، والقلق على مستوى أدائه، بجانب سقوطه ضحيةً للفوبيا الاجتماعية حتى أصبحت بريطانيا على سبيل المثال، وهي من مواطن التطبيق الدقيق للنظرية النيوليبرالية عاصمةً للانعزالية في أوروبا حيث التقلُّص الشديد للتفاعلات الاجتماعية فلا يعبأ أحدٌ هناك بالآخر ويمضي كُلٌ في شئونه الخاصة.

الجذور التاريخية والنظرية للنيوليبرالية

ظهر مُصطلح النيوليبرالية للمرة الأولى في مُلتقى والتر ليپمان الثقافي الذي دعا إليه الفيلسوف الفرنسي لويس روچيه بباريس عام 1938 على يد اثنين من المُنظرين والفلاسفة السياسيين المنفيين من النمسا؛ وهما لودڨيج ڨون ميزس وفريدريتش هايك اللذان رأيا في الديمقراطية الاشتراكية (وهو نظام تتدخل بمُقتضاه الحكومات في العملية التجارية بغرض توزيع عادل للثروات في ظل النظام الرأسمالي بما يكفل تحقيق العدالة الاجتماعية وتقليل الفجوة بين طبقات المُجتمع الواحد بعكس أنظمة كـ laissez faire الذي تنفض الحكومات يدها فيه من الأسواق تمامًا لتمسي الأخيرة بلا رقابة، أو نظام اقتصاد السوق؛ الذي يُخوِّل للسوق التحكم في العملية الاقتصادية ككل، وبالتالي في السلوكيات الشرائية للجماهير).

تلك التي مثَّلها برنامج فرنكلين روزفلت الاقتصادي الجديد (الذي شمل عِدة إصلاحات اقتصادية ومالية) والمنظومة البريطانية للرعاية الاجتماعية الآخذة في التطور حينئذٍ لونًا مُتناميًا من سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج يشغل نفس الحيز القامعُ للفردية والحريات، ويضاهي مُثلائه في النظامين النازي والشيوعي.

حيث ذهب فون هايك في كتابه الطريق إلى العبودية (المنشور عام 1944) إلى أن التخطيط الاقتصادي المركزي يسحق الحرية الفردية، ويقود الدول بالتبعية إلى أحضان الشمولية والتعزيز المُطلق لسلطان الدولة، مثلما أقر زميله ميزس في كتابه البيروقراطية.

ذاع صيتُ “الطريق إلى العبوديةِ” وقُرِءَ على قطاعات واسعة عالميًا، الأمر الذي حدا بزُمرة من فاحشي الثراء؛ الذين رأوا في هذه الفلسفةِ ملاذًا لهم من الضرائب والتشريعات التُجارية أن يدعموا هايك بالملايين في تأسيسه لـمُجتمع مونت پليرين الدولي عام 1947 كُمنظمةٍ أولى لنشر المبادئ النيوليبرالية بطريقٍ يحمي الحُريات الفردية والسياسية لأعضاء المُنظمة وفق السبيل المُستساغ لهم.

وبذلك تم تأسيس ما أسماهُ المؤرخ والكاتب السياسي دانيال ستيدمان چونز “سادة الكون” في كتابه الذي يحمل الاسم ذاته، و”سادة الكون” هي: “شبكة قارية من المُفكرين، والمُنظِّرين، والفلاسفة، ورجال الأعمال، والصحافيين، والنُشطاء السياسيين” الذين أنشئوا من جهتهم “مراكز فكرية” على مدار العقود الستة الأخيرة.

وذلك بغية الترويج للمبادئ والقيم النيوليبرالية مثل: “المعهد الأميركي للتجارة”، و”مؤسسة التراث”، و”معهد كاتو”، و”معهد الشؤون الاقتصادية”، و”مركز الدراسات السياسية بلندن”، و”معهد آدم سميث”. زائد تمويلهم الدؤوب المُستمر لأقسام الدراسات الأكاديمية وكُبرى المناصب العلمية بالجامعات ولا سيما جامعتي شيكاغو، وڨيرچينيا.

على مرَّ تطورها باتت النيوليبرالية أكثر حِدة؛ فرؤية هايك القاضية بالتدخُّل الحكومي إداريًا في تنظيم منافسات، والهادف لمنع خلق كيانات احتكارية بسط سبيلًا مُمهدًا لبعض المُنظّرين الأمريكيين كـ “ميلتون فريدمان” لتُرسخ عقيدة جديدة؛ مفادها أن قوة الاحتكار يُمكن تفهمها كأجر مُستحق عن علو الكفاءة.

حدث شيءٌ آخر خلال هذا التحوَّل أدى إلى فقدان الحِراك لاسمه؛ فقد كان فريدمان سعيدًا وهو يُعرِّف نفسه كنيوليبرالي عام 1951، إلا أن المُصطلح أخذ في التواري شيئًا فشيئًا، وصارت الأيديولوجية هَشَّة، بعكس الحِراك النيوليبرالي الذي ازداد تماسكه، لكن المُصطلح الخفي لم يتم إيجاد بديل شائع له.

سياسات كينز

بالرغم من التمويل السخي للمنظمات النيوليبرالية، إلا أن الأخيرة ظلت زمنًا على الهوامش؛ حيث كان هُنالك إجماعٌ عالمي على انتهاج سياسات چون مينارد كينز الاقتصادية، وكان التشغيل الكامل لأفراد المُجتمع ورفع بلايا الفقر من الأهداف العامة في كُلٍ من الولايات المُتحدة وحُلفائها في أوروبا على البر الآخر من الأطلسي.

وفرضت الحكومات الضرائب العالية بعزمٍ لا ينفلي؛ سعيًا وراء نواتج اجتماعية باستحداث خدمات عامة جديدة، وتطوير المرافق وتحسين لشبكات الأمان الاجتماعي (وهي إعانات نقدية، تُقدمها دول العالم الأول لرعاياها إسهامًا منها في تحسين مستوياتهم المعيشية؛ مثل بدل العمل للعاطلين، وبدلات الأمومة للحوامل وحديثي الولادة وللأمهات الوحيدات اللائي ذهب عنهن أزواجهن أو هجرتهن بعولتهن، أو في هيئة تأمين صحي عالمي وفتح ملاجئ للمُشردين والمُتضررين).

ظهرت النيوليبرالية لتُصبح اتجاهًا سائدًا على الساحة السياسية الغربية (في أمريكا وأوروبا) بعد أفول نجم السياسات الكنزية -نسبة لميندر كينز-، وظهور بوادر أزمات مالية في البلدان الواقعة على سواحل شمال الأطلسي، الأمر الذي لاحظه فريدمان ودوَّنه قائلًا:

عندما حان التغيير، كَمُن البديلُ ثابتًا في انتظار أن يُفعَّل فيضحى معمولًا به.

وبمُساعدة الكثير من الصحفيين المُتعاطفين والمُستشارين السياسيين اُستعيرت قيم وأفكار من النيوليبرالية، خصوصًا سياساتها النقدية؛ التي تبنتها إدارة چيمي كارتر في الولايات المُتحدة وحكومة چيمس كالاهان في إنكلترا.

لمَّا تلا رونالد ريجان (الرئيس الـ 40 للولايات المُتحدة الأمريكية) ومارجريت ثاتشر (أول رئيسة وزراء بريطانية) أسلافهما، صاعدين إلى سِدَّةِ الحُكم، اعتُمدت النظرية النيوليبرالية برُمتها بما فيها من:

  1. تخفيضات ضريبية هائلة للأغنياء.
  2. تقويض الاتحادات العُمالية، وسحقها.
  3. تحرير الأسواق.
  4. خصخصة قطاعات واسعة من الدولة.
  5. التعهيد Outsourcing، والمنافسة بين الشركات على الاستحواذ على الخدمات العامة، وتقديمها.

وبالتبعية فُرضت النيوليبرالية جبرًا على دول العالم من خلال هيئات دولية كـ “صندوق النقد الدولي“، و”البنك الدولي”، و”مُعاهدة ماستريخت” (المؤسسة للاتحاد الأوروبي عام 1991)، و”مُنظمة التجارة العالمية”.
أيضًا، كان مبعثًا على الاستغراب تبنِّي أحزاب محسوبة على اليسار للنيوليبرالية كحزبي: العمل البريطاني، والحزب الديمقراطي الأمريكي حتى كتب دانيال ستيدمان مُتعجبًا:

إنه لمن العسير التفكير في مدينة فاضلة (طوبيا) يتم تحقيقها بشكلٍ كامل كهذه، فلم يحدث أن طُبقت نظرية لهذه الدرجة!!

المفارقات التطبيقية للنيوليبرالية

يبدو غريبًا لنظريةٍ تَعِدُ أشدُّ المؤمنينَ بها حماسًا بالحُريةِ، والتخيير أن يتم الترويج إليها من قلب البيت الأبيض على يد رونالد ريغان، ومارجريت ثاتشر تحت شعار “ليس هُناك بديل”.
ذكر هايك في زيارته لتشيلي الواقعةُ تحت براثن حُكم الديكتاتور العسكري أوجستو بينوشيه -والتي كانت من أولى الدول التي شهدت تطبيقًا شاملًا للنظرية بأراضيها- آنذاك:

أنه يُفضِّل شخصيًا الديكتاتوريات الليبرالية عوضًا عن الحكومات الديمقراطية؛ التي لا تنتهج الليبرالية، وتُجرِّد سياساتها منها.

من هنا يتضح لنا منظور الحرية الخادعة؛ التي تُقدِّمها النيوليبرالية، الحُرية التي تُلائم الضواري وتُشرَّعِن سُلطانهم فيحتجبُ إثر ذكرها كُلَّ أليف. يعني التحرر من قبضة النقابات العُمالية والمفاوضات الجماعية تقليصًا فجًا وظالمًا للأجور.

يؤدي التحرر من طائلة اللوائح التنظيمية، والتشريعات التُجارية إلى حُرية تلويث الموارد المائية من بحارٍ وأنهار، وتعريض حيوات العُمال للمخاطر، وفرض نِسب جائرة من الفوائد والرسوم الجمركية، بالإضافة إلى استحداث أدوات مالية (مثل الأسهم والسندات والصكوك والقروض) غير عادية بشكل مُطَّرِد. أما دلالة التهرُّب الضريبي فتكمن في كونه فرارًا من التوزيع العادل للدخل الذي يسمو بالأفراد ويرفعهم من أوحال الفقر ومُستنقعاته.

تُنوِّه الكاتبة الصحفية، والخبيرة الاقتصادية الكندية ناعومي كلاين في كتابها عقيدة الصدمة لتوجيه المُنظِّرين النيوليبراليين للحكومات باستغلال الكوارث، بغرض فرض السياسات التي لا تحظى بتأييد شعبي واسع، ففُرِضت قرارات مثل هذه ريثما كان الإنسان الأبيض مأخوذًا بهول مصائب جِسام كالتبعات الكارثية لانقلاب بينوشيه العسكري، ومعضلة حرب العراق، وإعصار كاترينا الذي استغله عُمدة ولاية لويزيانا “لتغيير شكل العملية التعليمية تمامًا في نيو أورليانز بتحويل سائر مدارسها من مدارس عامة إلى مدارس مُستقلة” حسبما قال ميلتون فريدمان.

متى يصعب فرض السياسات النيوليبرالية محليًا فإنها تُفرض دوليًا من خلال الاتفاقيات التُجارية؛ التي تحوي تسويات فصل المُنازعات بين المُستثمرين والدول، وبمُقتضاها تستطيع الشركات مُتعددة الجنسيات الكُبرى الضغط على الهيئات القضائية بهدف إزالة إجراءات الحماية الاجتماعية والوقاية البيئية، فيحدث مثلًا أن تُبنى مصانع في مناطق سكنية بسندات قانونية في الدول الضعيفة.

من ناحية أخرى لمَّا تكاتفت برلمانات حول العالم يُصوّت أعضاؤها بالأغلبية بهدف حظر السجائر، وحماية المرافق العامة للمياه من المُخلَّفات السامة المُميتة لشركات التنقيب، وتجميد فواتير الكهرباء والطاقة، ومنع شركات الأدوية من سرقة الحكومات وغش الدول، جابهتهم الشركات في المحاكم، لتربح جُلَّ القضايا المرفوعة، لتصير الديمقراطية مسرحيةً هزلية!!

مُفارقةٌ أخرى للنيوليبرالية تكمن في اعتماد المُنافسة في السوق العالمية على اختلاف المعايير الدولية والمقارنات، ليخرج لنا ناتجٌ مُجمله إلقاء العُمال، والباحثين عن الأشغال، والخدمات العامة تحت نَير نظام صارمٍ للتثمين، والتقييم، والمراقبة، لا يضع في الحُسبان اعتبارات كالمهارة والكفاءة والتعليم، ولا يهتم عمومًا إلا بمُكافأة الفائزين ومُعاقبة الخاسرين.

فخلقت العقيدة التي اقترح ڨون ميزس أنها ستُخلِّصنا من بوتقة كابوس التخطيط المركزي البيروقراطي نظامًا بيروقراطيًا جديدًا من نوعٍ آخر أشد فتكًا. لم تصوَّر النيوليبرالية في بادئ الأمر كأداة ابتزاز ترمي للربحَّ الذاتي لمُعتنقيها، لكنها تحوَّلت إلى واحدة. فلقد أمسى النمو الاقتصادي أكثر بطئًا في العصر النيوليبرالي مُنذُ ثمانينيات القرن الماضي في إنكلترا وأمريكا أكثر مما كان عليه في العقود الماضية، لكن ليس لصفوة الأغنياء الذين جنوا أضعافًا مُضاعفة لثرواتهم، ما أفرز غيابًا للعدالة الاجتماعية ورسَّخ تأصيلًا للتفاوت الطبقي والظلم، فاتسعت الهُوة بين توزيع الدخل والثروات على مدار 60 عامًا من فت عَضُد النقابات العُمالية، وتخفيض الضرائب، وازدياد الإيجارات، والخصخصة، ورفع الضوابط التنظيمية.

أتاح التحول للاقتصاد السوقي وخصخصة الخدمات العامة كــ “موارد الطاقة، ومرافق المياه، والقطارات، ووسائل المواصلات، والخدمات الصحية والتعليمية، وشبكات الطرق ومنظومة السجون” للشركات تشييد أكشاك الرسوم أمام الأصول الثابتة للدول، وتحصيل قيمة إيجاريه يدفعها الأفراد والحكومات على السواء جرّاء الاستفادة من الخدمة، والإيجار هو مُصطلحٌ آخر يُعبِّر عن مفهوم الدخل غير المُكتسب.

فعند شرائك لتذكرة قِطار بثمنٍ باهظٍ، يذهب جُزء بسيطٍ من الأجرة كتعويض لعُمال هيئة السكك الحديد عن مصاريف الوقود، وتُدفع منه الأجور، وتُشترى منه المُعدات وتُحَدَّث، مضمومةٌ إليها نفقاتٌ أخرى. أما الجزء الأكبر فإنهم يُحصِّلونه منك كانعكاس لاستقلالك عربة القطار.

وقد جني مُلاَّك المؤسسات التي تمت خصخصتها جُزئيًا وكُليًا (الخصخصة الكاملة: وتعني البيع الكلي للمشاريع العامة وتحويلها إلى الملكية والإدارة الخاصة، إضافة إلى بيع الدولة حقها كليًا لمُستثمرين وشركات كمُعضلة عُمر أفندي في مصر. الخصخصة الجزئية: وتعني جعل المشاريع العامة تؤدي وظائفها كما لو كانت مشاريع خاصة، تخضع لقواعد السوق التنافسية نفسها. ومن أبرز صورها عقود الإدارة، حيث تعهد الدولة لجهات خاصة ذات كفاءة مسؤولية إدارة كل أو بعض المشاريع العامة، وفقًا لقواعد العمل في السوق التنافسية مثلما تفعل الولايات المُتحدة الأمريكية في مدارسها العامة؛ فهي تُدار من قِبَل جهات خاصة تُشرف على تطوير المباني والمُنشآت والنهوض بجودة الخدمات، لكنها لا تتدخل إداريًا في تعيينات المُعلمين ولا في وضع المناهج) مبالغ طائلة باستثمار القدر القليل واكتساب المال الوفير.

أما في روسيا والهند فقد استولى الأوليجاركيون Oligarchs (فئةٌ صغيرةٌ تحكمُ بلدًا مُمسِكةً بمقاليد السلطة والنفوذ فيه اقتصاديًا واجتماعيًا وعسكريًا، وهذه القلة تعمل دائمًا لمصالحها الخاصة دون اعتبار لمنافع الأغلبية ومُتطلبات قطاعات الشعب الواسعة) على مُمتلكات الدولة من خلال عمليات البيع النارية (وهي عمليات يتم بمُقتضاها بيع مؤسسات كُبرى تقف على هاوية الإفلاس لقاء أثمانٍ زهيدة، مع إغفال مُتعمَّد لقيمة المؤسسة وأسهمها وأصولها التاريخية وعلامتها التُجارية).

كارلوس سليم

وفي المكسيك اشترى رجل الأعمال اللبناني الأصل كارلوس سليم الشركة العامة لخدمات التليفون الأرضي Telmex بالكامل عام 2006، ثم أسس شركة América Móvil التي باتت تتحكم بــ80% من خدمات المحمول بحلول عام 2010 هُناك ليُمسي أغني رجلًا في العالم مُتخطيًا بيل جيتس لثلاث سنوات على التوالي بدءًا من عام 2012 بثروةٍ تُقدر بحوالي 69 مليار دولار.

من جِهَته لاحظ البروفيسور أندرو ساير أستاذ النظريات الاجتماعية والاقتصاد السياسي بجامعة لانكستر ببريطانيا في كتابه “لماذا نعجز عن اللِحاق بالأغنياء” أن الأموَّلة (وهي باختصار وصف للعملية التي تستغلها المؤسسات المالية الكُبرى والأسواق بغرض زيادة أحجامها ورؤوس أموالها وبالتبعية تأثيراتها داخل الدول) لها نفس الأثر الذي “للإيجارات”، وقد ارتكز مزعمه على اعتبار الفوائدِ دخلاً غير مُكتسبٍ يتنامى بلا مجهود يُذكر.

وبينما يزداد الفُقراء تعاسةً وبؤسًا وفقرًا يزداد الأغنياء رفاهيةً وغِنى ومُلكًا وتتعاظم سيطرتهم على مُقدرات الشعوب والأموال، والفوائد والمدفوعات في مُعظم حالاتها تُعدُّ بمثابة تحويلات من جيوب الفقراء لخزائن الأغنياء. وكُلَّما ارتفعت تكاليف الوحدات السكنية وازداد امتناع الدول عن ضخَّ رؤوس الأموال لتمويل الرعايا، كُلَّما أثقلت كواهل الجماهير بالأعباءِ والديون الثقيلة (كالتحويل مثلًا من نظام المِنَح الطُلاّبية إلى نظام القروض الطُلاَبية، والأخير هو نظام قرضي تمنح الدولة من خلاله دُفعات نقدية للطلبة كإعانةٍ مؤقتة على كُلفة العملية التعليمية ويلتزم الطُلاب بسداد القيمة الكُلية على دفعات فيما بعد مُستقبلًا) وأضحى على البنوك التدّخُل لإنقاذ الموقف وتلبية الاحتياجات المُتجددة للجماهير بمزيدٍ من القروض والسُلَف.

ويستطرد ساير مُضيفًا أن الأربعة عقود السابقة اتسمت بكونها مراحل نقل للثروات لا من الفُقراء للأغنياء وحسب، بل من الأغنياء أنفسهم للأكثر ثراءً. من الأغنياء الذين يكتسبون قوتهم بإنتاجِ سلعٍ جديدةٍ أو خدمات لخزائن هؤلاء الذين يحوزون الرفاهية والأبهة عن طريق التحكُّمِ في الأصول الموجودة (بنوعيها الثابت والمُتداول) وجني الإيجارات والفوائد وغيرها من الأرباح الرأسمالية، لتتفوق مصادر الدخل غير المُكتسب على نظرائها من موارد الدخل المُكتسب بكدٍّ ومجهود!!

تُحاصر الإخفاقات السوقية (وهي باختصارٍ شديد: عجز السوق عن الإيفاء بالعرض والطلب) السياسات النيوليبرالية في كل مكان. ليست البنوك فقط كبيرةٌ جدًا على الخسارة، لكن الشركات الكُبرى أصبحت مسؤولة عن تقديم خدمات عامة مُحترمة ولائقة.

أشار المؤرخ البريطاني توني جدت في كتابه “السوء يُعيث في الأرض” إلى نسيان هايك لحتمية عدم ترك الخدمات القومية الحيوية نهبةً للانهيار؛ مما يعني أن المُنافسة لا يسعها إتمام دورتها كاملةً، فالتجارة تحصدُ المكاسب بينما تخوض الدولة غِمار المخاطر. وكلَّما ازدادت الخسائر كُلَّما غُذيت الفكرة (الأيديولوجية) بآراء أكثر تطرفًا.

تستغل الحكومات النيوليبرالية الأزمات المُجتمعية كحُجَّةٍ وفُرصة لتمرير قرارات تقليص الضرائب، وخصخصة المرافق العامة المُتبقية، وخلق فجوات في شبكات الأمان الاجتماعي، وإطلاق يد الشركات للمزيد من التوسع والرّبح، وإخضاع الجماهير وتقييدها؛ حيث تغرس الحكومات المُتعطشة أنيابها لافتراس ما تبقى من أجزاء القطاعِ العام المنكود.

لعَّل الأثر الأخطر للنيوليبرالية ليس الأزمات الاقتصادية التي تُخلفها، بل في الأزمات السياسية التي تفتعل وجودها. فمع انكماش سيادة الدولة لصالح نفوذ رأس المال، تتدنى قُدرتنا على تغيير مسارات حيواتنا من خلال التصويت والاشتراك في العملية الانتخابية، وعِوضًا عن ذلك تفترض النظرية النيوليبرالية قُدرة البشر على الاختيار من خلال صرف الأموال فقط.

وهنا موطِن العوار حيث تمتلك صفوة الأقلية أضعاف ما تكتنزه الأغلبية قاطبةً، وعليه لا تُوزَّع الأصوات توزيعًا عادلًا في ديمقراطية المُستهلكين وحملة الأسهم تلك، لينتج عما سبق إلغاء تمكين الطبقتين الوُسطى والفقيرة وتنحيتهما عُنوةً عن العملية السياسية ككل.

ومع اعتناق أحزاب يمينية ويسارية سابقة لسياسات وتصورات مُشابهة يستحيلُ إلغاء التمكينِ السياسي لانتزاعٍ بالإكراه للحقوق السياسية ينجُم عنه تحييد قطاعات أكبر من المُجتمع وانعزالها كُليًا عن الشأن السياسي.

الجماهير غير الفعالة سياسيًا

في ذات السياق، يستكمل الصحفي والبروفيسور بجامعة پرينستون كريس هيدجس مؤكدًا استمداد الحركات الفاشية للدعم الجماهيري وظفرها بقواعد شعبية وقَبول اجتماعي بارتكاز خطابها على الشريحة العريضة من الجماهير غير الفعالة سياسيًا.

الذين يحسون بانعدام دورهم وضآلة أهميتهم في البناء السياسي للدولة التي ينتمون إليها فبعدما يضل الحوار السياسي الطريق إلى عقولهم يُصبحوا أكثر استجابة للشعارات الجوفاء، والأحاسيس الواهية، والخطاب الشعبوي؛ الذي يُداعب آمالهم ويُزكي مخاوفهم ويأخذها على محمل الجدية، فيتمادى في المُبالغة فيها وتضخيم آثارها كمؤيدي ترامب وأي شعبوي غوغائي ممن لا تجدُ الوقائعِ والحُجج الدامغة سبيلًا لعقولهم المُتقلِّبةِ تنعُّمًا على أسرَّةِ الجهالة والتغييب.

ويواصل المؤرخ البريطاني توني جدت موضحًا بقاء قوة الدولة كرابطٍ وحيد بين الحكومة والرعايا بعد انقطاع الاتصال بينهما، واقتصار علاقتهما على إصدار الأوامر من قِبل الحكومة وإلزام الجماهير بطاعتها ومن هنا تجد الشمولية -التي روَّعت هايك- طريقًا مُمهدًا إلى النور، وخاصةً بعد ضياع السلطة الأخلاقية للحكومات بعد فشلها في تقديم خدمات عامة لشعوبها وصيرورة الحكومات حتميًا إلى تملُّق الجماهير حينًا، وتخويفهم وإخضاعهم لاتباع الأوامر أحيانًا أخرى”.

أسرار غموض النيوليبرالية

أخفقت النيوليبرالية مثل الشيوعية، إلا أن الأولى لا زالت تترنح بفضل غموضها أو بالأحرى بفضل مجموعة من العوامل المُبهمة التي تُحيط بها، فالنظرية الخفية تفرضها أيدٍ مُحتجبة يدفعها مؤازرون مُستترون.

ابتدأت البشرية ببُطءٍ شديد إماطة اللثام وإزالة قدرٍ بسيط من الغموض المُحيط بهم ببيان بضعة أسماءٍ قليلة فاكتشفنا مثلًا أن معهد الشؤون الاقتصادية الذي حارب في الإعلام ردحًا من الزمنِ ضد تقنين صناعة التبغ كان مدعومًا في الخفاء بتمويلاتٍ ضخمة من الشركة البريطانية الأمريكية للتبغ (شركة مُتعددة الجنسيات وعابرة للقارات) مُنذ عام 1963.

تجلَّى لنا أيضًا أن الأخوين كوك (تشارلز ودايڨيد) وهما من أغنى 15 رجلًا في العالم شيَّدا المعهد الذي أسس حركة الشاي السياسية الأمريكية. استكمالًا لما سلف ذكره تبدَّى لنا تأكيد تشارلز كوك على المُنتسبين لأحد مراكزه الفكرية إبان تأسيسها بضرورة عدم ذيوع طريقة إدارة المُنظمَّة، ولا منابع تمويلها بالضبط تلافيًا للانتقادات البغيضة!!

تُبطِن المُصطلحات التي تستخدمها النيوليبرالية أكثر مما تُظهر من معانٍ ودلالات، فلفظة السوق مثلًا تبدو مُعبرةً عن نظامٍ طبيعي يتساوى أمامه البشر جميعًا كالجاذبية أو الضغط الجوي، إلا أنه نظامٌ مُفعمٌ بعلاقات القوة. أما عن تعبير “إرادة السوق” فيُقصد به إرادة الشركات الكبرى ومشيئة مدراءها.

بالنسبة لمفهوم “الاستثمار” فله مقصدان وفق “ساير”؛ أولهما تمويل الأعمال الإنتاجية والنشاطات المُفيدة اجتماعيًا، وثانيهما الاستحواذ على الأصول الحالية تطلُّعًا لحلبهم استجلابًا للإيجارات، والفوائد، العوائد العالية ومكاسب رأس المال. يؤدي وجود معنيين مُتباينين لمُصطلح واحدٍ إلى تمويه مصادر الثروة واختلاطها على الباحثين والعوام، ما يقودنا إلى السقوط في فخ الخلط بين مفهومي استخراج الثروات وتكوينها.

استهان ورثة الأملاك والأموال بالأغنياء الجُدد في القرن الماضي وسعى آنذاك أصحاب الأعمال ليلقوا قبولًا اجتماعيًا من خلال إظهار أنفسهم كأصحاب دخل ثابت لتنعكس الآية اليوم؛ حيث بات ورثة الأملاك وأصحاب الدخل الثابت مُتلهفين ليتأنقوا بين أقرانهم كأصحاب أعمالٍ ومشاريع زاعمين أنهم يجنون دخلهم غير المُكتسب!! تتداخل التشويشات والالتباسات الواردة أعلاه جمعاء مع الإبهام واللامركزية اللذان تكفلهما الرأسمالية الحديثة. فنماذج سلاسل المحلات ومجموعات الشركات تتيقن في المقام الأول بتجهيل العاملين بهوية من يكدحون لعليةِ مقامه ونماء ثرائه.

مسألة أخرى لزمنا التنويه إليها؛ وهي تعقيد نُظم تسجيل الشركات المُعاد توطينها خارجًا بشكلٍ يستحيل على الشرطة المحلية بلوغ أعتاب المُلاك الحقيقين المُنتفعين أو حتى معرفة أسمائهم!! إلى جانب طبعًا التسويات الضريبية الخادعة للحكومات والمُنتجات الغريبة التي لا يستطيع شخصٌ فهم سببية وجودها!!

إن غموض النيوليبرالية محميٌ بتفانٍ وحِدة ويرفض المُتأثرون بالأفكار الفلسفية لهايك وميزس وفريدمان قطعًا استخدام اصطلاح النيوليبرالية، قائلين أنه يحمل القليل من الازدراءِ والتحقير -ولو بقليل من الصحة لقولهم-، غير أنهم لم يطرحوا بديلًا عنه، ويُعرّف بعضهم نفسه كليبرالي كلاسيكي أو تحرُري (ليبرتاري)، لكن هذان التعريفان المُضللان والمُتواضعان استُخدما هروبًا من لفت الأنظار، إظهارًا أن كتاباتٍ كــ “الطريق إلى العبودية”، و”البيروقراطية”، ورائعة فريدمان “الرأسمالية والحُرية” لا تأتي بجديدٍ يُذكر.

ختامًا

من أرشيف الكساد الكبير.

يدفعنا الاعتبار بما سبق للإعجاب بالمشروع النيوليبرالي على الأقل في مراحلهِ الأولى؛ التي كان المشروع فيها محضُ فلسفةٍ مُبتكرة ومُتميزة خلقتها عقولٌ مُبدعةٌ وشبكاتٌ من المُفكرين والنُشطاء بصبرٍ ودأب، مُستحضرين أمام أبصارهم خُطةً واضحةً للعمل أحالت “الطريق إلى العبودية” إلى سبيلٍ للقوةِ والسيادةِ.

إن النجاح الساحق للنيوليبرالية يعكسُ خُسرانًا مُبينًا لليسار السياسي فحين ألقت سياسات نظرية laissez faire الاقتصادية العالم في أتون أزمة الكساد الكبير الطاحنة عام 1929 نصب چون مينارد كينز بُنيانًا نظريًا شاملًا لملئ الفراغ والنأي بالإنسانية عن الكساد الاقتصادي التام، وعند اندثار نظرية إدارة الطلب الكينزية في السبعينيات كان البديلُ جاهزًا ينتظر النزول إلى حيز الاختبارِ والتشغيل، لكن عند تهاوي صرح النيوليبرالية إثر أزمة 2008 لم يكنُ هنالك شيء، لهذا تستمر النيوليبرالية مُهيمنةً علي الساحة كزومبي، فقد توقّف ِنتاج الفكر الاقتصادي لتياري الوسط واليسار السياسي مُتعرقلًا لأكثر من ثمانين عامًا!!

يُعدَّ طرح الحلول الكينزية لأزمات القرن الواحد والعشرين تجاهلًا صريحًا لثلاثة مُعضلات واضحة:

  1. من الصعب جمعُ الناس حول الأفكار القديمة.
  2. لم تختفي أخطاء النظرية التي ظهرت في سبعينيات القرن الماضي.
  3. لا تُقدم هذه الحلول إجابات مُقنعة لأشد مآزقنا وعورة: الأزمة البيئية (تلوث بيئي واحتباس حراري وتغيُّر مُناخي).

يعتمد الاقتصاد الكينزي على تحفيز الطلب عند المُستهلك؛ لتحقيق النمو الاقتصادي المرجو، لكنه يتناسى أن هذين الاثنين (طلب المُستهلك والنمو الاقتصادي) همُا مُحركا تدمير النظام البيئي.

نستفيد من تاريخ الكينزية والنيوليبرالية كلتاهما بمعيَّةِ أنه ليس من الكافي مُجابهة نظامٍ خرب، بل يجب تجهيز بديلٍ مُتسق بنيويًا، ومقبول، ومُلائم. وهنا بالتحديد، تكمنُ مُهمة اليسار السياسي حول العالم في خلق وتطوير برنامج سياسي واقتصادي واعد، يصعدُ بنظامٍ عالمي جديد مُصمَم خصيصًا لمُلائمة وتلبية احتياجات البشرية المُتجددة في القرن الواحد والعشرين.

توضيح من قِبَل «تبيان»: إن البديل للنيوليبرالية لن يكون من اليسار، وليست هناك حلول لا في جعبة اليمين ولا اليسار، وإنما الحل في نظام وتشريع رب العالمين، العادل في حكمه والقادر على أن يأذن لشرعه أن يسود.

محمد سماحة

كاتب صحفي و مُترجم حر .. أهوى القراءة في مباحث الفلسفة والتاريخ وبعض نصوص الأدب… More »

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. رائع جدا و الجهد المبزول واضح ف المقال , كنت اتمني لو يذكر بعض الكتب و المصادر لان المذكوره ف المقال من الواضح انها غير منشورة ع النت ماعدا الطريق الي العبودية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى