العلامة محمد الطاهر بن عاشور
العلامة المفسر محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور، مفسر وعالم دين تونسي، كان نابغة في علوم الشريعة والأدب واللغة، تولى العديد من المناصب العلمية والإدارية البارزة في دمشق والقاهرة، وعين شيخًا لجامع الزيتونة، وقام بالتدريس والإفتاء والقضاء. له عشرات الكتب المطبوعة في شتى مجالات العلوم من تفسير وحديث وأصول ولغة. ومن أشهر كتبه كتاب التحرير والتنوير، الذي فسر فيه القرآن الكريم كاملًا، وكتاب مقاصد الشريعة، وكتاب أصول الإنشاء والخطابة، وكتاب النظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح وغيرها. وقد كان ابن عاشور متقنًا للغة الفرنسية، عاش يدافع عن الحق ويسعى لتعليم الدين والآداب واللغة، حتى توفاه الله عام 1973م عن عمر يناهز 94 عامًا في تونس.
نسب محمد الطاهر بن عاشور ونشأته
محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور، الشهير باسم محمد الطاهر بن عاشور؛ من عائلة عاشور التي تعد واحدة من عائلات الأندلس وأشرافها، كان جده لأبيه قاضيًا شهيرًا للحضرة التونسية، أما جده لأمه -محمد العزيز بو عتور- فكان علامة ووزيرًا رفيع المستوى. وقد ولد ابن عاشور في قصره الفخم في ضاحية المرسى بالعاصمة تونس، في شهر جمادى الأولى عام 1296 للهجرة الموافق لشهر سبتمبر عام 1879م، قبل دخول الاستعمار الفرنسي بعامين.
نشأ ابن عاشور بينما كان طفلًا وسط أسرة علمية وسياسية رفيعة المستوى وعريقة، كان أبناؤها من ذوي المناصب المهمة في القضاء والإفتاء والتدريس. فتربى ابن عاشور بدوره على الخلق الحميد والدراسة الدينية، وتعلم القرآن الكريم وحفظه وأتقنه وهو في السادسة من العمر، كما تعلم اللغة العربية وقواعدها. وبدأ دراسة مداخل أصول الدين في عمر مبكر للغاية، وقد التحق بجامع الزيتونة عام 1893م، ودرس على يد علماء وشيوخ تونس المعروفين هناك مثل: الشيخ محمد النجار، الشيخ سالم بو حاجب، والشيخ محمد النخلي، والشيخ محمد بن يوسف، والشيخ عمر بن عاشور، والشيخ صالح الشريف وغيرهم.
وقد درس ابن عاشور في جامع الزيتونة علوم القرآن، والقراءات، والحديث، والفقه المالكي وأصوله، والفرائض، والسيرة، والتاريخ والنحو، والأدب، والبلاغة، والمنطق، واللغة الفرنسية. وكان يساعده على التحصيل والتعلم السريع ذكاؤه الفائق وفطنته اللامعة، حتى أنه أطلق عليه بعد ذلك لقب شيخ الإسلام المالكي.
الحياة العملية لابن عاشور
عين ابن عاشور في بداية حياته مدرسًا من الدرجة الأولى في جامع الزيتونة والمدرسة الصادقية؛ إذ كان يعتمد جامع الزيتونة على نظام التعليم التقليدي، بينما كانت المدرسة الصادقية تعتمد على التعليم العصري. فكان أول ما جال بخاطر ابن عاشور هو ضرورة تقليل حجم الفجوة بين الأصالة والمعاصرة، والبدء في التخطيط لإصلاح نظام التعليم التونسي. وقد تقلد ابن عاشور بعد ذلك منصب نائب أول في مجلس الزيتونة العلمي عام 1907م، ثم التحق بسلك القضاء وأصبح عضوًا بالمحكمة العقارية عام 1911م، وبحلول عام 1923م أصبح مفتيًا مالكيًا، وفي العام التالي أصبح كبير المفتين.
تم اختيار ابن عاشور عضوًا في لجنة إصلاح التعليم بالزيتونة في دورتيها الأولى والثانية، عامي 1910 و1924 على التوالي. وعين في هذا الوقت لفترة قصيرة شيخًا لجامع الزيتونة، لكنه استقال من هذا المنصب بسبب اعتراض الشيوخ هناك على خططه الإصلاحية في مجال التعليم. بحلول عام 1932م عين ابن عاشور في منصب شيخ إسلام المذهب المالكي، وأعيد تعيينه عام 1945م شيخًا لجامع الزيتونة مرة أخرى، وحينها أدخل إصلاحته الكبيرة على نظام التعليم هناك.
بعد استقلال تونس عام 1956م عين ابن عاشور عميدًا للكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين، واستمر في المنصب أربع سنوات، حتى أحيل للتقاعد عام 1960م بسبب مشاكله مع الحبيب بورقيبة؛ حيث ساءت العلاقة بينهما بعد أن رفض إصدار فتوى في الإذاعة تبيح الإفطار في شهر رمضان، الذي أتى وقتها في فصل الصيف. فقال مقولته الشهيرة وقتها: “صدق الله وكذب بورقيبة”، وأحيل للتقاعد بعدها مباشرة، فقد كان ابن عاشور مشهورًا بمحاربة التخلف والجمود والانحلال الأخلاقي والحضاري. وكان يحث المسلمين على مقاومة الاستعمار والاجتهاد ومحاربة الكسل وتأجيل العمل؛ لذا كانت حياته العلمية حياة غنية للغاية، مليئة بالمحطات المميزة التي كان لها علامة فارقة في حياته.
شيوخ محمد الطاهر بن عاشور
درس الطاهر بن عاشور على أيدي أكبر علماء في تونس، أبرزهم من يأتي:
- الشيخ عبد القادر التميمي: الذي درس على يديه القراءات وتجويد القرآن الكريم.
- الشيخ محمد النخلي: الذي درس على يديه عدد من الكتب المهمة أبرزها مقدمة الإعراب في النحو ومختصر السعد في البلاغة، والتهذيب في المنطق، كما درس على يديه أصول الفقه من كتب شرح الخطاب على متن الورقات، والتنقيح للقرافي، وكفاية الطالب على الرسالة في الفقه المالكي وغيرها من الكتب.
- الشيخ محمد صالح الشريف: الذي درس على يديه كتبًا مثل السلم في المنطق، القطر لابن هشام، المكودي على الخلاصة في النحو وغيرها.
- الشيخ عمر بن عاشور: درس على يديه لامية الأفعال وشروحها في الصرف، كما درس معه الدردير في الفقه والدرة في الفرائض وغيرهم.
- الشيخ محمد النجار الشريف: الذي درس على يديه كتاب البيقونية في مصطلح الحديث، وكتاب المواقف في علم الكلام وغيرهم.
- الشيخ محمد طاهر جعفر: الذي درس على يديه شرح المحلي على جمع الجوامع في أصول الفقه، وشرح الشهاب الخفاجي على الشفاء للقاضي عياض في السيرة النبوية.
أبرز الكتب التي درّسها ابن عاشور
درَّس ابن عاشور للكثير من الأجيال وطلاب العلم الذين كانوا يحضرون حلقات علمه في جامع الزيتونة، مجموعة كبيرة من الكتب التي تعد من أمهات الكتب وأصولها، والتي لها قيمة كبيرة، نذكر منها:
- الشرح المطوّل للتفتازاني.
- كتاب دلائل الإعجاز للجرجاني في البلاغة.
- شرح المحلّي لجمع الجوامع للسُّبكي في أصول الفقه.
- مقدمة ابن خلدون.
- ديوان الحماسة لأبي تمَّام.
- موطّأ الإمام مالك في الحديث.
- تفسير البيضاوي بحاشية الشهاب.
عقيدة ابن عاشور ومذهبه
كان الطاهر ابن عاشور في مسائل الاعتقاد وعلم الكلام على مذهب الأشاعرة. وهذا يتضح في موقفه من نصوص الصفات حيث كان يؤولها أو يفوضها، وهما طريقتان مشهورتان عند الأشاعرة؛ كما يتضح أيضًا مذهبه في تفسيره لقول الله -تعالى-: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) سورة البقرة الآية 38-39، إذ إن الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة هنا في مسألة الهداية والتوفيق، فقد فسر المسألة ابن عاشور في كتابه التحرير والتنوير قائلًا: “كانت الْآيَةُ أَسْعَدَ بِمَذْهَبِنَا أَيُّهَا الْأَشَاعِرَةَ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِ الْهُدَى كُلِّهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَوْ شِئْنَا أَنْ نَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَى ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ الْبَيْضَاوِيُّ. وَلَكِنَّا لَا نَرَاهَا وَارِدَةً لِأَجْلِهِ”.
لكن على الرغم من هذا، فلم يمنع ميل ابن عاشور لمذهب الأشاعرة من مخالفتهم في عدد من المسائل والتقريرات؛ لأنه كان عالمًا فذًا مجتهدًا انفرد لنفسه بتحقيقات معينة، ووجه لهم انتقادات في عدة أمور. فمثلًا في تفسير قوله الله -سبحانه وتعالى- في سورة النساء الآية 164: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)، أورد ابن عاشور الكثير من الكلام والخلافات حول تفسير ماهية الكلام في الآية، وقال: “فَاحْتِجَاجُ كَثِيرٍ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى كَوْنِ الْكَلَامِ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى الصِّفَةَ الذَّاتِيَّةَ الْقَائِمَةَ بِاللَّهِ تَعَالَى احْتِجَاجٌ ضَعِيفٌ”. كما أنه انتقد الأشاعرة في مسألة وجوب النظر، وانتقدهم في عدم ردهم على بعض الاعتراضات التي وجهها لهم.
مؤلفات محمد الطاهر بن عاشور
لابن عاشور العديد من المؤلفات القيمة، يمكننا القول إن أهمها يتمثل فيما يأتي:
أصول الإنشاء والخطابة
كتاب أصول الإنشاء والخطابة هو كتاب في الأدب، يتحدث فيه ابن عاشور عن الإنشاء وأنواعه والمعاني والخطابة وأصولها، نشر عن مكتبة دار المنهاج للنشر والتوزيع في الرياض بالمملكة العربية السعودية.
التحرير والتنوير
كتاب التحرير والتنوير (تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد) هو كتاب لابن عاشور في تفسير القرآن الكريم، مكون من 30 جزءًا، نشرته الدار التونسية للنشر عام 1984م.
النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح
هذا الكتاب مقسم للعديد من الأبواب في الصلاة والصوم والصدقات وغيرها. نشرت الطبعة الأولى منه عام 1428 هجرية الموافق 2007م عن دار السلام للطباعة والنشر.
تحقيقات وأنظار في القرآن والسنة
في كتاب تحقيقات وأنظار في الكتاب والسنة، يغوص ابن عاشور في عمق الآيات القرآنية المتشابهة، ويتأملها ويعلق عليها ويحقق فيها بوجهة نظر جديدة، كما يبحث أيضًا في علوم الحديث بما في ذلك المسانيد والمتون والروايات. وقد نشر هذا الكتاب عن دار سحنون للنشر والتوزيع بتونس ودار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة في مصر.
حاشية التوضيح والتصحيح لمشكلات كتاب التنقيح
كتاب حاشية التوضيح والتصحيح لمشكلات كتاب التنقيح هو كتاب لشرح تنقيح الفصول في الأصول لشهاب الدين القرافي. وهو كتاب في الفقه مكون من جزئين، نشر عام 1341 هجرية عن مطبعة النهضة في تونس.
كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ
يجمع ابن عاشور في كتاب كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطا بين الفقه والحديث، وهو إضافة مميزة لموطأ الإمام مالك. وقد قال الدكتور عبد الرحمن العثيمين عن الكتاب: “كشف المغطى عظيم النفع يغني عن المجلدات، وفيه مقدمة مفيدة للغاية (مقدمة تفسير الموطأ لابن حبيب)”. وقد نشر الكتاب عن دار سحنون للنشر والتوزيع ودار السلام للطباعة والنشر عام 1428 هجرية.
مقاصد الشريعة الإسلامية
كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية هو كتاب لابن عاشور مكون من 3 أجزاء. الجزء الأول خصصه المؤلف لبيان حركته الإصلاحية، والحديث عن أهم مؤلفاته، والجزء الثاني تحدث فيه عن مقاصد الشريعة الإسلامية، أما الجزء الأخير فقد وضح فيه بعض المسائل والبحوث وعلق عليها. وقد نشر الكتاب وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بقطر عام 1425 هجرية الموافق 2004م.
مؤلفات أخرى لابن عاشور في الدين
- أصول النظام الاجتماعي في الإسلام.
- أليس الصبح بقريب.
- الوقف وآثاره في الإسلام.
- قصة المولد.
مؤلفات وتحقيقات لابن عاشور في اللغة العربية وآدابها
- موجز البلاغة.
- نقد لكتاب الإسلام وأصول الحكم تأليف علي عبد الرازق.
- شرح لمقدمة المرزوقي لشرح ديوان الحماسة.
- شرح قصيدة الأعشى.
- ديوان النابغة الذبياني.
- شرح معلقة امرئ القيس.
- ديوان بشار، مقدمة وتحقيق.
- الواضح في مشكلات شعر المتنبي لأبي القاسم الأصفهاني.
- قلائد العقيان في محاسن الأعيان للفتح بن خاقان القيسي.
- سرقات المتنبي ومشكل معانيه لابن بسام النحوي.
- تحقيق شرح القرشي على ديوان المتنبي.
- غرائب الاستعمال.
المجلات والصحف التي ساهم فيها ابن عاشور
- السعادة العظمى.
- المجلة الزيتونية.
- هدى الإسلام.
- نور الإسلام.
- مصباح الشرق.
- مجلة المنار.
- مجلة الهداية الإسلامية.
- مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
- مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق (مجلة مجمع اللغة العربية).
وفاة العلامة محمد الطاهر بن عاشور
توفي العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور -رحمه الله- في الثاني عشر من شهر أغسطس عام 1973م، الموافق الثالث عشر من شهر رجب لعام 1393 هجرية. عن عمر يناهر الرابعة والتسعين، وذلك في ضاحية المرسى في العاصمة تونس، ودفن في مقبرة الجلاز.
أقوال العلماء في ابن عاشور
قال المرحوم الشيخ محمد الخضر حسين (شيخ الجامع الأزهر) عن ابن عاشور إنه: “وللأستاذ فصاحةُ منطقٍ، وبراعةُ بيانٍ، ويضيف إلى غزارة العلم وقوَّة النظر: صفاءَ الذوق، وسعة الاطلاع في آداب اللغة. كنت أرى فيه لسانًا لهجته الصدق، وهمَّةً طمَّاحة إلى المعالي، وجِدًا في العمل لا يَمَسه كلل، ومحافظة على واجبات الدين وآدابه. وبالإجمال ليس إعجابي بوضاءة أخلاقه وسماحة آدابه بأقل من إعجابي بعبقريته في العلم”.
وقد قال عنه العلامة المرحوم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي: “عَلَم من الأعلام الذين يعدّهم التاريخ الحاضر من ذخائره. فهو إمام متبحِّر في العلوم الإسلامية، مستقلّ في الاستدلال، واسع الثراء من كنوزها، فسيح الذرع بتحمّلها، نافذ البصيرة في معقولها، وافر الاطلاع على المنقول منها. أقْرَأ، وأفاد، وتخرَّجت عليه طبقات ممتازة في التحقيق العلمي”.