ناجورنو كاراباخ والصراع التاريخي بين أذربيجان وأرمينيا.. لغم في برميل بارود
يكفي أن تطلق رصاصة واحدة لتشعل حربًا لمئة عام في القوقاز. تأكد معنى هذه العبارة على مدار ما يقرب من أربعة أسابيع، عندما تابع سكان المعمورة -خاصة المهتمون منهم بالسياسة- أخبار الحرب المستعرة بين الجارين اللدودين أذربيجان وأرمينيا على خلفية النزاع على السيادة على إقليم ناجورنو كاراباخ وإعلان كل طرف نجاحه في إلحاق أكبر قدر من الخسائر بالطرف الآخر وإعلان هذه الدولة أو تلك القوة دعم هذا الطرف أو ذاك فيما يعلن آخرون من الشرق أو الغرب ضرورة وقف إطلاق النار لإيجاد حل سلمي للأزمة، ووسط كل هذه الوتيرة المتسارعة للأحداث تساءل كثيرون:
ماذا يجري في هذه المنطقة من العالم؟
تقع منطقة القوقاز التي تشهد المعارك الحالية بين البحر الأسود وبحر قزوين، وهي الحد الفاصل بين قارتي آسيا وأوروبا وتتسم بتنوع عرقي كبير يتسبب في اندلاع صراعات طويلة الأمد تستغلها القوى الكبرى بين الحين والآخر لتحقيق مصالحها مما جعل علماء الجغرافيا السياسية يصنفونها ضمن المناطق التي ترقد على برميل بارود أي من السهل انفجار العنف، وتنقسم تلك المنطقة إلى قسمين:
القوقاز الشمالي:
وتضم روسيا الاتحادية ومناطق الحكم الذاتي التابعة لها مثل داغستان والشيشان وأنجوشيا وشركس يا وكبرادينو بلغاريا وأديجيا وأوسيتيا الشمالية.
القوقاز الجنوبي:
وتضم ثلاث دول كانت جمهوريات سوفيتية، وهي أذربيجان وأرمينيا وجورجيا وتعاني هذه الدول إما من حركات انفصالية مثل إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية الجورجيين أو نزاعات حدودية مزمنة كما هو الحال بين أرمينيا وأذربيجان اللذين تقاتلا غير مرة حول السيادة على ناجورنو كاراباخ.
تاريخ الصراع
تعود قصة ذلك الصراع المزمن والمعقد لحقبة الحكم السوفيتي، فعندما حكم الطاغية جوزيف ستالين الامبراطورية الملحدة بدأ يمارس سياسة المستعمر المعتادة لفرض سيطرته على من يحكمهم على قاعدة فرق تسد فضم عام 1923 ناجورنو كاراباخ والذي يعني اسمه جبال الغابة السوداء إلى أذربيجان بالرغم من تشكيل الأرمن غالبية سكانه ووجوده داخل حدود أرمينيا، في حين ضم إقليم ناخشيفان الواقع داخل حدود أذربيجان والذي شكل الآذريين غالبية سكانه لأرمينيا ليبقي الخلاف مستعرًا بين البلدين ويظل السوفييت هم حمامة السلام بين الأطراف المتصارعة.
تبلغ مساحة هذا الإقليم أربعة آلاف وثمانمائة كيلو متر مربع تغلب عليها الطبيعة الجبلية وعاصمته ستيباناكيرت ويبعد عن العاصمة الآذرية مئتين وسبعين كيلومتر إلى الغرب ويقوم نشاط سكانه البالغ عددهم مئة وخمسة وأربعين ألف نسمة والذين يشكل الأرمن خمسة وتسعين في المائة منهم على الزراعة وتربية الماشية وبعض الصناعات من حاصلات الإقليم الزراعية ويتسم الإقليم بفقر موارده وقلة المسالك الواصلة بينه وبين أذربيجان وأرمينيا على حد سواء.
وعندما تراخت القبضة السوفيتية وبدأت الدولة تفقد سيطرتها على الجمهوريات التابعة لها بدأ الحس الانفصالي يتنامى، وفي فبراير 1988 طالب أعضاء المجلس السوفيتي الكاراباخي الأرمن الحكومة المركزية في موسكو بالانضمام لأرمينيا وهو ما رفضه الأعضاء الآذريون ما أدى لاندلاع حرب أهلية في الإقليم وفي ديسمبر 1989 ساءت الأوضاع أكثر فأكثر بإعلان المجلس السوفيتي الأرميني اتحاد ناجورنو كاراباخ مع أرمينيا، وهنا أعد الآذريون العدة لحرب طويلة الأمد مع الأرمن.
اندلعت شرارة الحرب الطاحنة بين الجارين المتنازعين مطلع 1992 بعدما أعلن الانفصاليون المدعومون من أرمينيا بقيادة روبرت كوتشاريان استقلال الإقليم عن أذربيجان، وأمدت السلطات الأرمينية المتمردون بالمال والسلاح بل ووصل الأمر بحكومة ياريفان للزج بقواتها المسلحة في الحرب الدائرة بين الحكومة المركزية الآذرية والانفصاليين والتوغل داخل الأراضي الآذرية نكاية في باكو.
دعمت إيران الجار الجنوبي لأذربيجان وشقيق المذهب أرمينيا بسخاء منعًا لتنامي نفوذ جارها التركي الغربي، وكذا للحيلولة دون إثارة نزعات انفصالية لدى العرقية الآذرية التي تمثل القومية الثانية في إيران بعد الفرس بالإضافة للعلاقات التجارية الوطيدة بين طهران وياريفان مع غض الغرب الطرف عن التسليح الروسي للأرمن ما رجح كفة أرمينيا والموالين لها في الإقليم المتنازع عليه بينما وقف العالم المتحضر يشاهد الفظائع بحق مسلمي أذربيجان دون أن يحرك ساكنًا.
بعد حرب ضروس تسببت في مقتل مئة وعشرين ألف شخص ونزوح مليون ومئتي ألف من الجانبين، شكلت الدول العظمى الثلاث الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا في مايو 1994 ما عرف بمجموعة منسك نسبة لعاصمة روسيا البيضاء لصياغة وقف لإطلاق النار ينهي الحرب بعدما ساهموا في ترجيح كفة الأرمن واقتطاعهم مساحة لا بأس بها من أرض جيرانهم وصلت لخمس مساحة أذربيجان دون أن يدين العالم هذا التصرف العدائي طالما أن الطرف المنتصر مسيحي والمهزوم مسلم وهو ما ظهر جليًا في منع الأرمن رفع الأذان في المناطق التي سيطروا عليها بل وتحويل المساجد الموجودة بها لحظائر للحيوانات.
وفي محاولة لتثبيت الوضع القائم تقدمت مجموعة مينسك بوثيقة للتفاوض حول وضع الإقليم في مدريد عام 2007 رفضتها الحكومة الآذرية كونها لم تعترف بناجورنو كاراباخ أرضًا آذرية، وتقدمت أذربيجان في مارس 2008 بوثيقة لحل النزاع رفضتها أرمينيا ومجموعة منسك كونها اشترطت الاعتراف باحتلال أرمينيا جزءً من أراضي جارتها معتبرة الإقليم أرضًا متنازعًا عليها.
وبالرغم من توقف الحرب الضارية بين الدولتين، إلا أن الصدام بينهما كان لا يلبث أن يعود فاقتتل جيشا البلدين في نوفمبر 2008 قبل أن تتوسط روسيا البوتينية وتعقد هدنة جديدة بين الجانبين لكن تصادم الجانبان مجددًا في أغسطس 2014 ما أدى لمقتل عدد من الجنود الآذريين ردت عليه حكومة باكو بإسقاط مروحية أرمينية في نوفمبر من العام نفسه.
واقع الصراع الحالي
اندلع القتال مجددًا ليلة الأول- الثاني من أبريل 2016 ما تسبب في مقتل ثلاثين جنديًا اثنا عشر آذريًا وثمانية عشر أرمينيا، وفي الثاني عشر من يوليو 2020 فصفت القوات الأرمينية مدينة توفوز بالإقليم ما تسبب في مقتل أربعة جنود آذريين ما دفع بوزير الدفاع التركي خلوصي أكار لزيارة باكو برفقة عدد من قادة أفرع الجيش التركي في الثاني عشر من أغسطس الماضي والتأكيد على دعم بلاده لأذربيجان ضد العدوان الأميني.
تركيا التي أعلنت بكلمات لا تحتمل التأويل وقوفها مع أذربيجان، تارة عبر رئيسها أردوغان أو عبر وزير خارجيتها جاويش أوغلو أو حتى وزير دفاعها خلوصي أكار مطالبين أرمينيا المجاورة لهم بالانسحاب من الإقليم المحتل .
ومع اندلاع الحرب الأخيرة في السابع والعشرين من سبتمبر الماضي تراجعت القوات الأرمينية عن أربعين مدينة وبلدة وقرية داخل الإقليم المتنازع عليه مع الآذريين قبل أن يتمكن الجيش الآذري لاحقاً من السيطرة على مدن استراتيجية مثل تار تار وفضولي، دون إفصاح وزارة الدفاع الأرمينية عن الخسائر سواء البشرية أو العسكرية أو حتى التطرق لمناطق نفوذ ياريفان التي تقلصت بعد الحرب الأخيرة.
بينما تباهى الآذريون بتفوقهم عبر صور قصف المعدات الأرمينية ودخول القوات الآذرية للمناطق التي كان يحتلها الأرمن وسط ترحيب شعبي ورفع العلم الوطني عليها بل ورفع الأذان في تلك المناطق بل واشتراطهم خلال أية مفاوضات قادمة انسحاب أرمينيا من ناجورنو كاراباخ كخطوة أولى على طريق تسوية النزاع.
هنا تأكد للمراقبين أن قوتين تؤثران في إدارة المشهد المعقد والذي تمتد آثاره أبعد من القوقاز وهما: تركيا وروسيا.
فتركيا أعلنت بكلمات لا تحتمل التأويل وقوفها مع أذربيجان، تارة عبر رئيسها رجب طيب أردوغان أو عبر وزير خارجيتها مولود جاويش أوغلو أو حتى وزير دفاعها خلوصي أكار مطالبين أرمينيا المجاورة لهم بالانسحاب من الإقليم المحتل.
حيث تركيا ترتبط مع أذربيجان بروابط عرقية حيث ينحدر شعبا البلدين من العرق التركي، علاوة على تشكيل المسلمين في الدولتين غالبية سكان البلاد وقد نجحت الحكومات التركية المتعاقبة منذ تفكك الاتحاد السوفيتي في تقوية هذه الروابط بالعديد من الاتفاقيات الثنائية كان آخرها في أبريل 2018 بين الرئيسين أردوغان وعلييف بالعاصمة التركية أنقرة في مجالات التجارة وحماية البيئة والأهم من هذا وذاك الطاقة بعدما اتفق الجانبان على مرور خط غاز تاناب الذي ينقل الغاز من أذربيجان إلى أوروبا مرورًا بتركيا.
كما تحصل تركيا على نسبة لا بأس بها من احتياجاتها الطاقوية وتحديدًا الغاز الطبيعي من حقل دينيز الآذري، أضف إلى ذلك الاستثمارات التركية الضخمة في أذربيجان خلال حقبة ما بعد استقلال باكو عن السوفييت والتبادل التجاري الضخم الذي وصل في فبراير من العام الجاري خمسة عشر مليار دولار.
تعاون البلدان كذلك في مناورات النسر التركي-الأذربيجاني في التاسع والعشرين من يوليو العام الجاري، كما تشتري أذربيجان أسلحة تركية بمليارات الدولارات وعلى رأسها طائرات بيرقدار المسيرة التي كان لها الفضل في ترجيح الكفة الآذرية وتغيير المعادلة لصالح باكو للمرة الأولى منذ 1994.
بين تركيا وروسيا ودعمهما للصراع الحالي
وقد سعت تركيا بدعمها لأذربيجان خلال الصراع الحالي إلى:
- توجيه ضربة لأرمينيا عدوها التاريخي لكن بشكل غير مباشر بعدما نجحت جماعات الضغط الأرمينية في الغرب في تشويه صورة تركيا عبر مزاعمها بإبادة العثمانيين للأرمن من ناحية ومن ناحية أخرى إلغاء الحكومة الأرمينية الحالية اتفاقيات تطبيع العلاقات مع تركيا الموقعة في أكتوبر 2009 ما يعني إعلان العداء الصريح لأنقرة.
- كما ترمي أنقرة من ناحية أخرى لحماية خط الطاقة الاستراتيجي باكو-تبليسي-جيهان الذي يصدر النفط لأوروبا وتستفيد منه تركيا مبالغ طائلة تنعش به خزينتها.
أما روسيا، فلم تقم الدبلوماسية الروسية بأي جهد ملموس على الساحتين السياسية والعسكرية لإعادة الأمور إلى سابق عهدها أو حتى تعديل الموقف لصالح أرمينيا بالرغم من إقامة موسكو قواعد عسكرية في أرمينيا وعقد صفقات تسليح بمبالغ طائلة بينها وبين النظام الأرميني الحاكم إضافة لاعتناق البلدين المسيحية وإن اختلف المذهب لكن العقوبات الاقتصادية الغربية بسبب ضم جزيرة القرم بالإضافة لطول مدة التدخل العسكري الروسي في سوريا حدت من التأثير الروسي اللهم إلا الهدنة الإنسانية في الحادي عشر من أكتوبر الجاري بحضور رئيسي أذربيجان إلهام علييف وأرمينيا أرمين سركسيان.
ختامًا
لن تجد الحرب المستعرة طريقها للحل سوى بتسوية شاملة بين الروس والأتراك في سوريا وليبيا تحفظ مصالح الطرفين في البلدين العربيين الشرق أوسطيين الهامين، وبكل تأكيد سيرفع الأتراك سقف مطالبهم كون حليفهم الآذري هو صاحب اليد العليا في الحرب حتى الآن على الأقل وكذا انتصار حليفهم الليبي على حفتر قبل عدة أشهر بينما سيحاول الروس حفظ ماء وجههم نتيجة انحسار تأثيرهم في مقابل النفوذ التركي المتنامي حول العالم وانكشاف دورهم التدميري سواء بالقوات النظامية كما حدث في سوريا أو المرتزقة كما جري في ليبيا.
وحتى يتحقق ذلك سيظل ناجورنو كاراباخ لغمًا يفجره كل من له مصالح عالقة في هذه المنطقة أو تلك من العالم حتى يحقق مآربه، ومتى ظلت الانقسامات العرقية والدينية في القوقاز سيظل السلام حلمًا بعيد المنال إن لم يكن مستحيلًا.
المصادر
- موسوعة ويكبيديا الحرة .
- وكالة سبوتنيك العربية .
- بي بي سي العربية .
- سكاي نيوز العربية .
- مركز المستقبل للدراسات السياسية .
- وكالة الأنباء التركية .
- وكالة الأنباء الكويتية .
- موقع موضوع الإلكتروني .