براءة الإسلام من براءة الاختراع
في ظل تطور العلوم والمعارف، وانبثاق الابتكارات والاختراعات الجديدة، حاول الصناع والمخترعون إثبات حقهم فيما يصنعون، والتأكيد على أحقيتهم في الملكية، الأمر الذي جعل كثيرًا من الاختراعات التي تفيد الإنسانية حكرًا على مبتكِريها، ولا يجوز قانونيًا إعادة تصنيعها من قبل الغير إلا بعد موافقة مالكها ومبتكرها، ونرى ذلك جليًّا لدى بعض شركات الدواء، التي تنجح في تصنيع مصْلٍ أو دواءٍ ما، فتقرر بيعه بأسعارٍ عالية لجني الربح وتحقيق الثروات، بغض النظر عن الأشخاص المُعدِمين أو الفقراء، متناسين جانبًا مهمًا في تعاملهم وهو الجانب الإنساني الذي من المفترض أن يغلب على الجانب المادي في تعامل الإنسان مع أخيه الإنسان.
ومن هذا الأساس ينطلق الدكتور جميل أكبر في كتابه -الصغير حجمًا الكبير معنى- (براء الإسلام من براءة الاختراع: ديمقراطية أم تمكين؟ زيادة نسبة الملاك وصناعة الدواء كمثال) في مناقشة قضية المِلكية الفكرية، التي رأى فيها أنها تتعارض مع قيم الإسلام متكئًا على الحديث الشريف: “من كتم علما يعلمه أُلجم يوم القيامة بلجامٍ من نار”، فهو يعدّ مسألة الملكية الفكرية بأنها تتعارض مع قيم الإسلام التي تغلب الجانب الإنساني والحضاري على الجانب الربحي المادي.
هل الإسلام دين يصلح لكل زمانٍ ومكان؟
يطرح الدكتور جميل أكبر في نصه قضيةً مهمةً تمهد للإجابة عن المسألة المركزية التي يقوم عليها طرحه، وهي قضية ملاءمة الشريعة الإسلامية لزماننا وحاضرنا، فكما أسلفنا سابقًا فإن الدكتور جميل أكبر يرى أنَّ الملكية الفكرية تتعارض مع قيم الإسلام، الأمر الذي يثير تساؤلا حول جدوى حضور الشريعة الإسلامية في تعاملاتنا في زمننا الحاضر، لا سيما عند المشككين الذين يتهمونه بالقصور، وصلاحه لزمنٍ معين كانت الحياة فيه بسيطةً، لكن الواقع يقول إن الحياة في عصر بدء الإسلام كانت صعبةً للغاية مقارنةً بحياتنا، فكل وسائل الراحة المتوفرة اليوم هي معدومةٌ في الأمس، فلذلك مثل هذا الاتهام مردودٌ من داخله، فهو يفتقد للموضوعية، إذ إنَّ الإسلام قد كان ملائمًا لزمنٍ كانت الحياة فيه شديدة الضنك والصعوبة، فكيف لا يلائم زمنًا توافرت فيه أسباب الراحة.
وفضلاً عن ذلك نجد من يتهمون الإسلام ويرمونه بالتخلف والرجعية يربطون كلمة الشريعة بصورٍ منفِّرة، تحضر في بال الإنسان لدى ذكرها، مثل اللحى الطويلة غير المهذبة، أو الرجال المتشددين، وغيرهم، والحق يقال إنّ غير قليلٍ من الفقهاء والدعاة قد أهملوا توضيح صورة الشريعة للناس، وركزوا اهتمامهم على جوانب أخرى مثل إجبار الناس على غلق محلاتهم للصلاة، أو تتبع النساء في الشوارع لتقويم سلوكهن وما شابه من الأمور، حتى بات تطبيق شرع الله مقرونًا بالرهبة والخوف من الفقهاء ورجال الدعوة أكثر من كونه لوجه الله تعالى وتنفيذًا لأوامره، فتنفيذ أوامر الشريعة عن رغبة وإقبال هو الهدف الأول للشريعة وليس إرغام الناس عليها، لأن تنفيذها على هذا سينعكس إيجابًا على حياة الفرد والمجتمع.
السنة النبوية ونظرتها للملكية
حاول الإسلام أن يبين حدود الملكية الفردية التي يحق للإنسان أن يتصرف بها كما يشاء، وأن يحدد ما يجب ألا ينحصر في هذه الدائرة، فقد جاءت السنة النبوية بعددٍ من الأحاديث التي تحض على التشاركية، وإلزام المسلمين عليه في بعض الجوانب، ومن ذلك الحديث النبوي الذي ينص على أنّ الناس شركاء في الماء والنار والكلأ، ويؤول الدكتور جميل أكبر معنى الحديث الشريف بأنه جماعٌ لمعانٍ غزيرةٍ تحته، فالنار والكلأ والماء أسماء لم تكن في الحديث مقصودةً لعينها فحسب، بل كانت تضم تحتها غير قليل من الموارد التي تدخل في تركيبتها، فالنار مثلًا يندرج تحتها المعادن والعناصر الفلزية، فلا يمكن أن يكون ما في باطن الأرض منها مقصورًا على شخصٍ أو جماعةٍ ضيقة، وإلا سادت الطبقية المجحفة، أما الماء والكلأ فهما يشملان كل ما يؤدي إلى استمرار الحياة من عناصر غذائية، وإذا قسنا ذلك على صناعة الدواء فهو أيضًا يندرج تحت الأشياء التي يجب ألا تكون ضمن دائرة الملكية الفردية، فهو في كثير من جوانبه من أسباب الحياة والنجاة.
ولعل هذه النظرة الداعية إلى التخلص من قيود الملكية الشديدة -التي تنطلق منها الشريعة الإسلامية- جاءت لتمكين أبناء الأمة من حُسن استغلال الموارد، فنجدها في ذلك تفتح المجال للناس بحرية التنقيب واستغلال الثروات الموجودة في باطن الأرض، بشرط أن يكون ذلك الاستغلال مقرونًا بتأدية فرض الزكاة، وهنا يشير الدكتور جميل أكبر إلى جدلية إمكانية تنقيب الأفراد العاديين عن النفط في حال تم تطبيق رؤية الشريعة، وهنا يشير إلى إمكانية تشارك الأفراد في تكوين شركاتٍ صغيرة على شاكلة الشركات الصغيرة التي تتشارك في تصنيع السيارات، فمصانع السيارات هي عبارة عن شركات صغيرة مستقلة إداريًا مهمة كل واحدةٍ منها تصنيع جزءٍ معين، وكذلك ينبغي أن يكون الحال في مجال استخراج النفط والثروات في أراضي الأمة الإسلامية.
الضروريات والكماليات
إنّ المتأمل للكتيب الذي يقدمه الدكتور جميل أكبر يجد أنّه يناقش قضيةً مهمة وهي مسألة الضروريات والكماليات، فهو يتحدث عن فساد الأنظمة الرأسمالية والديموقراطية في تحقيق الرفاه والعدالة للمجتمع، فهو يتعدى على حقوق الناس بفرض ضرائب على ممتلكاتهم وأموالهم، وهو أيضًا يعطي صلاحياتٍ واسعةً للمسؤولين والمتنفذين في الدولة، الذين يستولون على أموال تلك الضرائب، التي ستصرف على بناء القصور والتفنن في الكماليات، في الوقت الذي يُسخر به باقي أفراد المجتمع لخدمتهم وتسديد فواتيرهم، لذلك فإنّ رؤية الشريعة الإسلامية في ضرورة تمكين أفراد المجتمع تتمثل في التخلص من هذا التسخير القسري، فالإنسان الذي يبحث عن الموارد ويكتشفها ويستثمر بها هو في النهاية يعمل لخدمة نفسه لا غيره، وبذلك تتلاشى البطالة شيئًا فشيئًا، وتختفي طبقة الأغنياء المتسلقة، ويكثر العرض والطلب، وتُستغل الموارد بشكلٍ سليم بما يخدم الكل، ويحقق المساواة للجميع.
التعاسة والقناعة
أما في هذا الباب فيتناول الكاتب حديثًا حول التعاسة والقناعة، ويربطهما بما قدمته الشريعة من تسهيلات تمكن أفراد المجتمع من تحقيق الرضا والقناعة لديهم، فيذكر أنّ المفكرين الغربيين رأوا أن التعاسة تتشكل بفعل التسخير التعسفي للإنسان في العمل لحساب غيره، ففي الأنظمة الرأسمالية يُنظر للفرد على أنه وسيلة إنتاجٍ لا أكثر، لذلك نجد أنّ الاشتراكية والماركسية نادتا بالتحرر من طوق الرأسمالية بتمكين الفرد من امتلاك المسكن والمأكل، أما الشريعة الإسلامية نجدها تتناول ما هو أوسع من نظرة الاشتراكية، فنجد في السنة النبوية حديثًا يشير إلى أنّ راحة الفرد الدنيوية تتمثل بتوافر قوت يومه بين يديه، والمقصود بقوت يومه ليس فقط الطعام والشراب، بل كل الحاجات التي توفر له حياةً كريمة، فتتحقق له بذلك القناعة المرجوة.
طاقة الذات واحترام الذات
وبعد أن تناول الكاتب الكيفية التي تتحقق بها القناعة عند الفرد والجماعات في المجتمعات الإسلامية، انطلق للتحدث عن قضية احترام الذات أو تقدير الذات، والتي تنبع من قدرة الفرد على تملك أعمال خاصةٍ به، إذ إن الإنسان الذي يعمل لحساب نفسه يشعر بتقدير لذاته، وبالتالي يتولد لديه طاقة ذاتية داخلية تدفعه للعمل، والإنتاج، على خلاف الإنسان المُسخّر لخدمة غيره.
وهذا الأمر يشير إلى أنّ النظام الرأسمالي يقيد حركة الإنسان في تحسين وضعه المعيشي، ويجعله رهين الطبقة التي هو فيها، كما يرى الباحث (جولد ثروب)، إضافةً إلى أنّ الرأسمالية تحاول بكل جهدها أن تُحلّ الآلة مكان الإنسان، وهذا لا يعني أنّ الأمر كله حسن أو كله سيء، فوجود الآلة يسرع العمل ويريح البشر، إلا أنّه في بعض الأعمال لا يكون جديرًا بالنفع لا سيما الأعمال التي تتطلب حضور الذوق، ثم إنّ حضور الآلات بدلًا من الإنسان يؤدي إلى زيادة الضغط على العمال لزيادة الإنتاج وتحسين مستواه، إذ تتحول فلسفة الشركات والهيئات الإدارية إلى فلسفة حب المادة، وعملٍ يُنجر وأجرٍ يُدفع، لا نصيب للإنسانية أو المشاعر فيها، الأمر الذي يخلف هما على هم في نفس العامل، ويزيد من نسبة انتشار الأمراض، التي تسببت بها ساعات العمل الطويلة، والجهد الجسدي والنفسي المبذول لتحقيق الأهداف التي تحددها جهات العمل.
وبما أنّ الأمراض تنتشر في المجتمعات الرأسمالية نتيجة ضغوط العمل والضغط النفسي والبدني على العمال، فإنّ الحاجة الملحة للدواء والطِّبابة تكون أكبر نسبةً في المجتمعات الأخرى التي لا تطبق الأيدولوجية الرأسمالية، إلا أنَّ العقبة الجديدة في هذا النظام هو إباحته لنظام الاحتكار، وإعطاء حق الملكية المطلق لشركات الدواء المنتجة له، وبالتالي سيجد الإنسان نفسه ضمن دوامة لا تنتهي من الاستغلال، فهو يُستغَل في عمله وفي وقته وفي جسده وعافيته، ليجد نفسه بعد كل المجهود الذي بذله بلا قيمة أو حاجة، فلا هو نجح في تغيير وضعه وموقعه، ولا هو استطاع أن يذخر لنفسه ذخرًا معيشيا يعينه في كبره أو مرضه.
لذك كانت رؤية الشريعة الإسلامية تقتضي -حسب تأويل الدكتور- ألا يكون الدواء والطبابة حكرًا على فئاتٍ معينة؛ تلك الشركات التي تستغل خوف الإنسان على صحته، فتستمر بنشر إعلانات صحية وقائية حول بعض الأمور الطبيعية في الإنسان مثل النسيان، وتجعل منه أمرا خطيرًا ليقبل المستهلك على شراء المكملات التي تطرحها؛ خوفًا على نفسه وحرصًا على صحتها، فهذه الشركات المادية المُستغِلة لن تكون رحيمةً مع المرضى والمصابين، إذ إنَّ همها ينصب على المال فحسب، لذلك يدعو الدكتور جميل أكبر إلى تطبيق الشريعة الإسلامية ومنع مثل هذه الشركات بالتغول على أفراد المجتمع، وذلك انطلاقًا من مبادئ الإسلام الداعية لحفظ النفس.