جناية الخطاب المدني على الإنسان

ماذا قدّم المسلمون للعالم؟ 

«لا أحد يُملي علينا ما نُقدِّمه للعالم وإنما الله وحده مَن له الحق في ذلك فمن له الخلق له الأمر» {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين} [سورة الأعراف:54].

كلما طُرِح هذا السؤال على بعض المسلمين اهتزَّت ثقتهم بنفوسهم. ففي أسوأ الأحوال تُوجَّه أصابع الاتهام لحمَلة الشّريعة. وفي  أحسنها ينبش بعضهم في أعماق الذّاكرة لسرد تاريخ الحضارة الإسلامية وعمرانها، وهذا الجهد في البحث وسرد إنجازات علماء المسلمين قديمًا وحديثًا، مؤسف أن يقدَّم كجواب عن هذا السؤال دون النظر لاعتبارات أخرى. للهروب من واقع اليوم وربما للبراءة من التهمة التي يضعنا فيها السائل، فيفتخر بعضهم ويعتزُّ بما بناه أجداده وهم قد انتهت حكايتهم وصارت عظامهم رميمًا. فهؤلاء لا يتفطنون بأن تعلقهم  بذاك التاريخ برهانٌ على أنها تأفل عنه في الواقع. هذه مقدمة من حيث بيان خطأ التّعامل المباشر مع السُّؤال بسرد أجوبة جاهزة لكنها في الواقع لا تَشفي الجراح.

أما مِن جهة السُّؤال ذاته فهو يختزل ما يمكن أن يكون إنجازًا معتبرًا في العصر الحديث: «العمران، العلم التجريبي، الإنسان/الجسد في حدود ماديته»، وإنجازات من هذا القبيل قابلة لإعادة النّظر فيها ومساءلتها ووضعها على طاولة النقد، إذ هو سؤال مبني على مقدِّمات لا نتّفق عليها بل لا تتَّفق عليها جل الثقافات والحضارات حتّى الحضارة الغربية التي يُضرَب بها المثل في عالمنا اليوم تخبط خبْط عشواء في جدوى المجد الحضاري. فبناء الفردوس الأرضي الذي كان يعِد به الفكر الحداثي وتمجيد التّقدم العلمي أعقبه انتحار جماعيٌّ مع بزوغ القرن العشرين فلطَّخ العالم أجمع على يديه القذرتين بالدماء. «فالحضارة الغربية من جهة التاريخ إنما تأسَّست على أشلاء ودماء غير الغربيين، وهي من جهة واقع المعاش تعمل نفس الدور وإن كان بصُور ومظاهر مختلفة ومتنوِّعة»¹. فيمكننا القول إذًا إنَّ الجماعات والأمم التّي بلغت فيها الحضارة الصّناعية أعظم نموٍّ وتقدّم هي على وجه الدِّقة الجماعاتُ والأمم الأكثر همجية وفتكًا بالإنسان على غيرها من الأمم. «وقد باتت قدرة الإنسان اليوم على الاحتفاظ بإنسانيته في بيئة تصنعها التكنولوجيا ملفوفة بقدر متزايد من الشك»². ووفق هذه المعطيات فإنَّ الحضارة وإن كانت تساهم في تقدّم إنسان الجسد (إنسان في حدود المادة) هي أيضا سمّ يستنزف حيويّته ويقتل كينونته الإنسانيَّة.

حضارة بلا معنى

جناية الخطاب المدني على الإنسان

«الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يمكن أن يكون ضَجِرا ويمكن أن يشعر أنه مطرود من الجنة، وهو الحيوان الوحيد الذي يجد أن وجوده مشكلة وعليه أن يحلَّها ولا يستطيع الهروب منها كما لا يمكنه حل مشكلة الإنسانية ولو أتم إشباعه لحاجاته الغريزية، فأشد عواطفه وحاجاته ليست تلك المترسخة في جسده، بل تلك المترسخة في الخصوصية الشديدة لوجوده» إيريك فروم.

يسير الإنسان ضرورةً إلى  نهاية محتومة وسيصلها لا محالة، وسيَفنى فيه من الوجود الدنيوي، فيأتي غُلاة المدنيّة والمجد الحضاري -بالرغم من هذه المأساة التي تنتظر إنسان الجسد- ليقنعوا النّاس بأن الحياة تستحق أن تعاش وهذا ضرب من العبث. «فللحفاظ على أيِّ معنى مطلق يستدعي ضرورة وجود إله»³. ولا يمكن للمجد الحضاري أن يمنح المعنى للحياة فغايته النهائية العمران والتَّرف وإذا بلغ غايته انقلب إلى الفساد وأخذ في الهرم كالأعمار الطبيعية للحيوانات»⁴. فكم من حضارة بناها جيل كامل ليأتي أبناءهم بعدها يهدمونها على رؤوسهم، وتصبح بذلك كل المجهودات لبناء المدينة الفاضلة بلا معنى لعدم استمراريتها وقابليتها على الفناء. لذلك «كل ما في الوجود إنما يكتسب قيمته بصلته بالعالم الباقي»⁵، يقول تشيزاري بافيزي: «في الدين لا ينظر المرء الى الحياة بل إلى الموت؛ لأن أشياء الحياة إنما تكتسب قيمتها من خلال كونها مرئية في علاقتها مع الخلود فوق وخلف الموت، فالاستعداد للموت يحدد أهمية الفعل اليومي»⁶. 

بناء على هذه المعطيات فإنّ أيّ عمران حضاري وأيّ انتعاش صناعي وأيّ تطاول في البنيان دون خلود أو وجود حياة آخرة هو هراء يُخدَّر به الإنسان ليتجنب فزع استيقاظه يومًا ما من تحت الركام، وكل المحاولات التّي جاءت كبديل لما هو ربَّاني من علم تجريبي، تأليهٍ للإنسان، بناء فردوسٍ أرضي…  فشلت من أوّل اختباراتها. يقول الله تبارك وتعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [سورة الحجر:3]. فـ «الموت إذًا بلا ريب من أعظم الدّوافع عند الإنسان للبحث عن أي أمل بعالم آخر »⁷، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : «لو أن الدنيا من أولها إلى آخرها أُوتيَها رجل ثم جاء الموت، لكان بمنزلة من رأى في منامه ما يسرُّه، ثم استيقظ فإذا ليس في يده شيء»⁸.

كدين بديل!

أصبح الهوس لبناء المجد الحضاري بعدما انفصل عن الأخرويات وإزاحتها من مركز الوجود -وهذه العملية بالطبع «لم تفلح إلا من خلال إنجاز ثورة متواصلة طالت الحياة اليومية والفرد»⁹- كصنم للعصر يُعبَد من دون الله وتفنى فيه الأعمار ويُوالَى الإنسان ويعادَى عليه وإضفاء القدسيّة له، وذلك لأن من طبيعة الإنسان أنه «لا يمكن أن يعيش خلوًا من أي تديّن أو تألّه أو رؤية كليّة تجعل لحياته معنى أو بشكل أعم موضوعًا ما يلحظه بعين القداسة»¹⁰، وقد نجح الخطاب المدني بصبغته العَلمانيّة من إزاحة  «الصفات الإلهية والإمكانات الربانية إلى كيانات وعوالم أخرى»¹¹ كبدائل عن الدين، لتعويض أتباعه عن شعورهم بالنقص الوجودي الفادح في قيمة الحياة. فـ “احتلَّت الدولة القوميّة (الوطن) -نموذجًا- المقام الذي كان مخصصا للإله في الحب والولاء والتضحية والتوجه وتبدلت المواقع التقليدية في البنية الرمزية للاجتماع البشري برمزيات حداثية»¹² تتمثل في هياكلها السياسية وجدران أرضها، وقسْ على ذلك كل البدائل الأرضية. فالمجد الحضاري بهذا المعنى ما هو إلا شكل من أشكال الأديان البديلة. 

صراع تقدّم وتخلُّف أم صراع سلب الإنسان من إنسانيته؟

«صرنا نتحول إلى خرفان خنثوية نكون عبيدًا في بعض حالاتنا ونكون مستهلِكين مسعورين في حالات أخرى». اوجيني باسيتي.

إن الاستبدال الذي طرأ (الحضارة كوسيلة إلى حضارة كغاية) لا يمكن أن يقود إلّا إلى وحشيّة من نوع جديد . فقد فُتِحت الحدود الثقافية والاقتصادية للتّنافس على احتلال الإنسان على مستوى شعوره الفردي وعلى مستوى حياته الاجتماعية وغزو ما تبقى منه ككائن  له قيمة وجودية مكرَّم من الله وتشْييئه ومكْنَنَته وتفْكيكه. لأنّ الحضارة المعزولة عن الرُّوح «لا يمكن أن تقام على أسس أخلاقيّة، وليس من واجبها أن تسعى إلى الدّخول في العالم الأخلاقي»¹³. فتدعس هذا البشري في التراب حين ينقضي أجلُه وتواصل هي زينتها وبهجتها على دمه المسفوح لأجلها، فأيّ ماء سيطهِّره حينها وإنّ أقدس ما سعى إليه قد استنزفه حتّى الموت ودسّه في التراب.

من الجدير بالذكر في هذا السياق أنه باطل كلَّ البطلان أن يكون في هذه الدّنيا على ما هيَ عليه مجد حضاري تتوحَّد عليه البشرية على اختلاف لغاتهم وأجناسهم وأوطانهم وأديانهم، تنقذهم من هذه المأساة، إنما يراد بتلك الشّعارات الرنَّانة سلبُ إنسانية الإنسان ودفع أي معارِض فوْق-طبيعي يُحرِّره من ضعفه واستعباده على الأرض. ولمّا «كان من الواضح أنّ تحرير الإنسان من المادية سيقلب أغلب جوانب حياتنا فإن المجتمع العصري سيعارض بكل قوّته الأمر»¹⁴ . الصّراع إذن ليس صراع تقدّم وتخَلّف، رِجعيّة وتطور، بل صراع من أجل احتلال الإنسان وسلب إنسانيته من خالقه على حساب آلهة أرضية. وملامح هذا الصراع تتمظهر أكثر حين نرى الناس اليوم يتلاشى «اعتقادهم بأن معاناتهم على هذه الأرض سيكافأ في حياة أخرى»¹⁵.

الثقافة المعيارية

جناية الخطاب المدني على الإنسان

{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ} [سورة الأعلى: 6-7].

قد لا يتفق الكثير مع هذه النظرة المقدّسة للحضارة وأنّها تسعى لاحتلال الإنسان وسلب معنى للحياة، لكن تسويغ الخطاب المدني على حساب الآخرة سواء كان بِنِيَّة حسنة أو سيئة ما هو إلا تمهيد للانزلاق في هذا المنحدَر الفظيع، وذلك وفق ما يُعبِّر عنه إبراهيم السكران: «قانون المتوالية الفكرية» الذي مفاده أنّ «كثيرا من الأفكار والمقالات الممجوجة في صورتها النهائية، أو المتناقضة مع أبجديات الوحي والعقلانية إنما بدأت بالتزام مبدأ نظري معين دون الاستكشاف المسبق لكافة آثاره النهائية وللوازمه ومؤداه وفي ثنايا سجلات الفرقاء، ينجرف صاحب المقالة إلى الالتزام التدريجي لمقتضيات هذا المبدأ بهدف الاحتفاظ بعنصر الاطّراد وعدم التناقض، فيتجارى به ذلك حتى يصل مستنقعات ما ظَنَّ أنه سيصل إليها يوما ما»¹⁶. ومن يتلامس مع الكتابات المعاصرة في هذا السّجل ومن يتبنَّى هذا الخطاب يجد بوضوح «أن الإيمان بالغيب يضعف في قلبه، وكذلك الحِكَم الإلهية، ولا يستحضر الثواب والعقاب، وتتعاظم جداً لديه المصالح العاجلة فيستسيغ تحتها فعل كل شيء حتى لو كان حراماً!»¹⁷، وقد أشار النبي ﷺ لشيء من هذا التّوالي والأفول الديني بقوله ﷺ: ((يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يُدرى: ما صيام؛ ولا صلاة؛ ولا نسك؛ ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس؛ الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة «لا إله إلا الله» فنحن نقولها))¹⁸. وهكذا ينتهي الأمر بكثير من غلاة المدنيّة بأن يفرغوا الإسلام من محتواه الأصلي، وذلك من خلال التنازلات والإجراءات التي تناقض مبادئ وقيم الدين الإسلامي. حتى إنه بات منهم من يحاول أن «يكسب انتماء الناس إلى الإسلام عبر عمليات إعادة التصنيع والتشكيل طبقا لميول المستهلك»¹⁹، لا كما هو الإسلام في ذاته. لذلك عندما نُقدم للناس خطابًا عن العمران والحضارة وإهمال الجانب الأخروي فيهم فإنّنا نُقدِّم لهم في الحقيقة حضارة منزوعة المعنى وخطابًا مسمومًا لا يراعي المركزيات الحقيقية للشريعة  من القيام بشأن العبادات وتزكية النفس، وهذه المركزيات مبثوثة بشكل واضح في الآيات والأحاديث النبوية لا تحتمل التأويل إلا بتعسُّف صارخ. 

هذا والصلاة والسلام على نبينا محمد ﷺ وعلى آله وصحبه أجمعين.

المصادر:

  • [1] هيروشيما / جون هيرسي. 
  • [2] آلام العقل الغربي / ريتشارد تارناس.
  • [3] معنى الحياة في العالم الحديث / عبد الله الوهيبي.
  • [4] النوازع والمصالح / ألبرت هيرشمان .
  • [5] معنى الحياة في العالم الحديث / عبد الله الوهيبي .
  • [6] معنى الحياة في العالم الحديث / عبد الله الوهيبي .
  • [7] معنى الحياة في العالم الحديث / عبد الله الوهيبي .
  • [8] الإكسير / مجموعة من الباحثين.
  • [9] عصر الفراغ / جيل ليبوفتسكي .
  • [10] معنى الحياة في العالم الحديث / عبد الله الوهيبي .
  • [11] معنى الحياة في العالم الحديث / عبد الله الوهيبي .
  • [12] معنى الحياة في العالم الحديث / عبد الله الوهيبي .
  • [13] الدولة المستحيلة / وائل حلاق.
  • [14] تاريخ الفكر الغربي / أحمد السيد .
  • [15] معنى الحياة في العالم الحديث / عبد الله الوهيبي .
  • [16] مآلات الخطاب المدني / إبراهيم السكران .
  • [17] العقلية الليبرالية / عبد العزيز بن مرزوق الطريفي .
  • [18] صحيح ابن ماجه | ٣٢٨٩.
  • [19] مآلات الخطاب المدني / إبراهيم السكران.

زكرياء بودراع

إِذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ فَلا تَقنَع بِما دونَ النُجومِ المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى