النزعة الاستهلاكية.. كيف حوّلتنا الليبرالية الجديدة لآلات مُستهلِكة

هل نظرت حولك وتأمّلت في هذه الدنيا من قبل؟ عشرات الآلاف من الشركات والمؤسسات والمنظمات التي تسعى لتوفير منتجات استهلاكية للناس في شتّى أصقاع الدنيا. صارت قدرة المرء الاستهلاكية وما يشتريه ويملكه هو معيارًا على جودة حياته وحياة أسرته. كلّما ارتفع استهلاكك وعدد مقتنياتك، كلّما ارتفعت مرتبتك الاجتماعية بين الناس.

الاستهلاك أمر طبيعي فجميع البشر منذ خُلقوا مستهلكون. إنّه أمرٌ أساسي أن يستهلك المرء ما يحتاجه من طعام وشراب ولباس وغير ذلك مما يتوافر له على قدر الحاجة. المشكلة أو الظاهرة التي نعيشها في الخمسين عامًا الأخيرة هي أننا صرنا نشتري ونستهلك ما لم نكن بحاجة إليه من قبل. صرنا نستهلك لمجرّد الاستهلاك وليس للحاجة أو الضرورة.

لعلّ أبرز النزعات الاستهلاكية الظاهرة هو ما يقوم به محبّوا منتجات شركة آبل، حيث تجد المئات وربّما الآلاف منهم مصطفين منذ ساعات الصباح أو حتّى قبل عدة أيّام لكي يكونوا “أول من يشتري الآيفون الجديد”. صارت الآلة هدفًا للتباهي والارتفاع في الصفّ الاجتماعي، ولم تعد سلعة أو أداة يمكن شراؤها والاستغناء عنها في أي وقت:

يبدأ تقريرٌ لصحيفة الغارديان البريطانية بعنوان “الأيديولوجية المسببة لجميع مشاكلنا..” بالتساؤل:

تخيّل أنّ جميع من ولدوا تحت الاتحاد السوفياتي لم يسمعوا قطّ عن الشيوعية. إنّ الأيديولوجية المهيمنة على حياتنا بالنسبة للكثير منّا لا تمتلك اسمًا واضحًا. اذكرها في محادثة وسيتم رمقك باستهجان، حتى لو كان مستمعوك قد سمعوا عن المصطلح من قبل فإنّهم سيعانون من أجل تعريفه، النيوليبرالية، ماذا تعرف عنها؟

النيوليبرالية.. أيديولوجية العالم الجديد وروحه

النيوليبرالية هي أيديولوجية قائمة على مبادئ السوق الحرّة وخصخصة الشركات العامّة وفتح الأسواق المحلّية للشركات الخاصّة والمتعددة الجنسيات، بالإضافة إلى المساواة بينها وبين الشركات المحلّية في الامتيازات. أي ببساطة فتح كل الأبواب للقطاع الخاص وجعلّها حرّة تمامًا في ممارسة شؤونها. بدلًا من أن تقوم الدولة بممارسة ريادة الأعمال، تصبح الشركات الخاصّة هي من تمارس ريادة الأعمال نيابةً عن الدولة.

الحرّية من اتحادات التجارة المشتركة تعني الحرّية في تخفيض الحدّ الأدنى من الأجور، الحرّية من القوانين تعني الحرّية في تسميم الأنهار، وضع العمّال في خطر من أجل العمل، استخدام معدّلات فائدة غير متساوية وتصميم سياسات اقتصادية سامّة ليتم تطبيقها والربح من ورائها. الحرّية من الضرائب تعني أنّ الغني سيصبح أغنى والفقير سيصبح أفقر وتعني استمرار التوزيع غير العادل للثروات.

وفقًا لمبادئها، فالثروات لا يجب أن توزّع بالتساوي بين الناس. أولئك الذين فشلوا في إيجاد أعمال مناسبة لهم هم أنفسهم السبب في ذلك، بسبب عدم امتلاكهم ذوات ريادية وعدم تطويرهم من أنفسهم وقدراتهم. إننا نعيش في عالمٍ يوصم فيه كلّ من لا يملك القدرة على المنافسة بالفشل والتخلّف تلقائيًا. أولئك الذين هم أغنى منك هم أغنى لأنّهم مارسوا ريادة الأعمال بينما لم تقم أنت بها. إن لم يكن هناك ألعاب وأدوات للرياضة في مدرسة أبنائك فإنّها مسؤوليتك أنت في حال صاروا بدناء وليس مسؤولية المدرسة.

إنهم لا يقومون بتوفير المنتج فقط، إنّهم يجعلونك تعتقد أنّك بحاجة إليه ولن تعيش من دونه. إنّهم يعلنون عن أشياء من المفترض ألّا يحتاجها أحد في الإعلانات والجرائد وفي كل مكانٍ تضع عينيك عليه لكي تشتريها. لا يهم إن كنت بحاجة ماسّة إليها أم لا، المهم هو أن تقتنيه. وكنوعٍ من “المكافئة”، عندما يراك أقرانك وأنت بهذا المنتج الجديد الذي يتم الإعلان عنه في كلّ مكان فإنّ رتبتك الاجتماعية وطبقتك سترتفع.

نظام متكامل يستخدم الديموقراطية كأداة

كما شرحنا في عدّة تقارير سابقة عن عقيدة الصدمة، حيث تعمل الكيانات النيوليبرالية على اتباع سياسة “الصدمة” لفرض شروط وقوانين اقتصادية نيوليبرالية لا يوافق عليها الناس في الحالة الطبيعية، عندما تفشل النيوليبرالية في تطبيق السياسات المطلوبة على الصعيد المحلّي لدولة ما، فإنّها تلجئ إلى تطبيقها على الصعيد الدولي. فعندما قامت البرلمانات حول العالم بالتصويت على تقييد مبيعات السجائر، حماية مصادر الماء من تلوّث شركات التعدين، إلغاء فواتير الطاقة أو منع الشركات الصيدلانية من نهب المواطنين بحجّة الدواء فإنّ الشركات متعددة الجنسيات لجأت إلى محاكم ما وراء البحار للضغط على الحكومات المحلّية لإلغاء قوانين حماية البيئة والمستهلك. لقد لجؤوا إلى الديموقراطية واستعملوها كمسرح لتمرير ما يحتاجونه.

إلّا أنّ الأمر لا يتوقف هنا، فالأمر ليس مجرّد حبّ الشراء من أجل التباهي. للشراء أنت بحاجة لعمل، للعمل أنت بحاجة لسلسلة هائلة من الشهادات والوثائق والاستحسانات والخبرات. إذا كان لديك كلّ ما سبق ومع ذلك فشلت في الحصول على عمل فهذا يعني أنّه قد كان هناك من هو أفضل منك. يجعل هذا البشر يدخلون في دوّامة من الحلقات المفرغة لتطوير مهاراتهم وخبراتهم ليس من أجل شيء سوى الإبقاء على مصدر رزقهم الوحيد. كما يفتح هذا آلاف الأبواب للشركات الرأسمالية متعددة الجنسيات للربح. يمكنهم ببساطة انتظار البشر عند نهاية أي حلقة يريدونها ومنحهم فرصة الخروج منها مقابل تنازلات عن حقوقهم الأساسية التي من المفترض أن يحصل عليها أي إنسان يعيش في القرن الخامس عشر.

خصخصة شركات القطاع العامّ من شركات ماء وطاقة وقطارات وصحّة وتعليم وطرق وغيرها سمح للشركات بأن تضع “أكشاك رسوم” في وجه الخدمات الأساسية التي هي من حقّ أي إنسان وفرض رسوم عليها. صارت هذه الخدمات “مؤجّرة” للناس رغم أنّها فعليًا قادمة من بلادهم وثرواتهم ولا تحتاج أي شيءٍ من موارد الخارج. عندما تقوم بدفع ثمن تذكرة القطار فأنت تدفع قسمًا صغيرًا منها لقاء الوقود وأجور العاملين والتكلفة الفعلية لنقلك عبر القطار، الباقي هو أرباح وفوائد تعود للشركات الخاصّة التي نفّذت المشروع أو موّلته.

أمورٌ مشابهة تحصل يوميًا في جميع القطاعات الأخرى من كهرباء وماء وتعليم وصحّة. هذا ما تستثمر فيه النيوليبرالية. خصخصة الشركات العامّة أربح بكثير من المجاراة في سوق يعمل فيه الجميع بالتساوي والتنافس ليقدّموا خدمة محدودة خارج نطاق الأساسيات. صرنا في زمنٍ صارت فيه الأساسيات عبارة عن خدمات قابلة للربح من طرف شركات خارجية خاصّة!

وصلت حتّى إلى بيت الله الحرام

هل يحتاج الحجاج والمعتمرون إلى مقهى ستاربكس حقًا على بعد 500 متر من أقدس مكان روحي في العالم؟ أو إلى دجاج KFC ومحلّات المجوهرات التي يبلغ سعر الواحدة منها آلاف الدولارات؟ أو إلى غرفة آجارها اليومي 1000 ريال سعودي لتكون مطلّة على الحرم وعلى ارتفاع مئات الأمتار فوق المسجد؟ هل تتحول مكّة المكرّمة إلى مكانٍ استهلاكي بدلًا من مكانٍ روحي كما كانت على مدار تاريخها؟

من المخطط أن يتم افتتاح مشروع أبراج كدي في مكّة المكرّمة خلال العام الجاري، وهو أكبر فندق في العالم. به 10000 غرفة و70 مطعم رفيع المستوى وأكثر من 45 جناح ويبعد حوالي 1.2 كيلومتر عن الكعبة. تكلفته تبلغ 3.5 مليار دولار. لا حاجة لذكر الشركات الخاصّة والمتعددة الجنسيات التي ستكون هناك تحت شعار خدمة المسلمين.

ربّما يمنع دخول الكفّار إلى مكّة المكرّمة، لكن على ما يبدو، يمكن لأفكارهم وأيديولوجياتهم أن تسرح وتمرح فيها كما تشاء. مصر تتجه أيضًا نحو الخصخصة عبر اتفاقيات مقبلة وجارية مع صندوق النقد الدولي. ومع استلام محمد بن سلمان الحكم قريبًا في السعودية، من المتوقع أن يحذو حذو مصر في الخصخصة. صندوق النقد الدولي مثلًا هو من المؤسسات الدولية التي تعمل على فتح الفرص للنيوليبرالية.

الخلاصة

النيوليبرالية تحكم العالم. رغم أنّ الكثيرين ربّما لا يعرف بوجودها أصلًا على عكس أدواتها كالديموقراطية والبيروقراطية، إلّا أنّها هي من تسير العالم في الخفاء وفق السياسات المطلوبة. إنّها لا تشبه شيئًا مثل نظرية المؤامرة، لأن هذا واقع نعيشه ونراه بأمّ أعيننا.

يطيب لي أن أذكر هنا هو أنّ الإنترنت قادرٌ على اختراق النيوليبرالية. عبر الإنترنت يمكنك حرفيًا كسر كل الحلقات التي تعمل النيوليبرالية وغيرها من الأيديولوجيات على إيقاعك بها. يمكنك تعلّم أي مهنة أو حرفة عبر الإنترنت وكسب المال في غضون شهور دون الحاجة إلى 20 سنة من التعليم الرسمي النظامي. يمكنك التواصل مع مئات الزبائن والشركات والعملاء المحتملين، يمكنك تنظيم حملات وحركات ومظاهرات تضرب سمعة مئات الشركات في غضون أيام. يمكنك إرسال واستقبال أموال بعيدًا عن مشاكل الضرائب ونسب الفوائد. يمكنك تطوير كورس أو قالب أو منتج أو برنامج والاستمتاع بالأرباح لعدة شهور أو سنوات مستمرة. هذه الأداة لم تكن متوافرة عندما نظّر منظّروا النيوليبرالية لها في أوساط القرن الماضي.

إنّ من واجب كل مسلم منّا أن يتخلّى عن نزعته الاستهلاكية ويعمل على استهلاك أقلّ الممكن وتنمية ما يفيض من ماله في خدمة مشاريع المسلمين. إن فشلتم في العمل أو الوظائف الرسمية فاتجهوا إلى العمل الحرّ (freelancing). ابدؤوا دومًا مشاريعكم الجانبية عبر الإنترنت التي يمكنكم الاعتماد عليها لتأمين مصدر دخل إضافي. لا تظلوا أسيري الشركات والمؤسسات الدولية والمحلّية. لا تنظروا إلى العمل على أنّه منتهى الحياة. ولا إلى المنتجات على أنّها غاية المنتهى.

المصادر

ضيوف تبيان

يمكن للكتّاب والمدونين الضيوف إرسال مقالاتهم إلى موقع تبيان ليتم نشرها باسمهم في حال موافقة… المزيد »

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى