صلاحية وواقعية المنظومة القيمية للإسلام لكل زمان

منذ بداية الوجود البشري على الأرض، وبداية صور المجتمعات التي تكونت من خلاله، سعى الإنسان إلى تنظيم الحياة وفق معايير تضبط المعاملات في مختلف العلاقات الممكنة داخل المجتمع، سواء علاقة الفرد بنفسه وعلاقته بغيره وعلاقة الفرد بالمجموعة، والمجموعة بالفرد، والمجموعات بعضها ببعض.

وقد كان المعيار الحاكم في المجتمعات هو الأساس الذي يمكن من خلاله التماس الحالة التي يحياها الأفراد والجماعات، فإن كان شكل الحكم يسعى للعدل والخير، ستكون المنظومة القيمية أو المعيار المنبثق منه ضامنًا لإقامة العدل واستدامة الخير، وإن كان شكل الحكم قائمًا على الطغيان والاستبداد، سنجد أن المعيار الحاكم هو الوسيلة الأبرز التي من خلالها يقع استضعاف الشعب ونهب حقوقه وتحديد حرياته، لإقامة وضع من التسلط يرغم فيه الشعب على التقيد بالمعيار الحاكم.

وقد كان من البديهي عند المسلمين، خلال ما يقارب 1400 سنة، أنهم يملكون أفضل منظومة قيمية يتحاكم إليها الحاكم والمحكوم، الأفراد والمجتمع، وبقيت هذه القناعة رغم ما شاب المنظومة من بعض تعطيل لصورتها الكاملة التي أنزلت عليها، والذي كان من آثار الاستبداد بداية، ثم الانكماش الحضاري الذي جاء كأثر لذلك للاستبداد لاحقًا.

لكن رغم هذا لم يكن ليخطر في خلد مسلم اهتزاز ثقته في منظومة الإسلام القيمية كما نزلت في الرسالة الخاتمة، حتى إذا جاء الاستعمار بالمنظومة المادية الوضعية، محمَّلةً برصيد هائل من الخبرة المادِّية، تزامنًا مع وجود أصوات داخلية نادت باتخاذ معيار الغرب أساسًا للنهضة، وتوجهت بالطعن بالأصول القيمية للأمة، وبضرورة تقليد الغرب لا في التقدم المادي فحسب، بل في نظمه ومعاييره وقيَمه، حينها دخلت الأمة مرحلة جديدة، من تغييب المنظومة القيمية للإسلام كمعيار للمجتمعات.

هذا المقال محاولة للإجابة عن سؤالِ -أو الرد على شبهة- هل  المنظومة القيمية للإسلام صالحة لكل زمان ومكان؟

المنظومة القيمية في الإسلام

صلاحية وواقعية المنظومة القيمية للإسلام لكل زمان

يملك الإسلام منظومة قيمية فريدة، شاملة لكل نشاطات الإنسان الفردية والجماعية، لتستوعب بطريقة رائعة مختلف أوجه الحياة، فتتوجه بتشريعات للفرد وأخرى للأحوال الشخصية وأخرى للسياسة والاقتصاد وأخرى لحالات السلم والحرب والمعاهدات… إلخ. 

إن المنظومة القيمية في الإسلام تتميز بكونها تغني أصحاب هذا الدين في ظلالها عن استيراد أي تشريع خارجي مهما كان بسيطا كآداب الطعام مثلا أو آداب الكلام، مرورا بتشريعات المواريث والتقسيم الدقيق للتركة، وصولًا إلى تشريعات الدفاع عن الحرمات وصيانة الكرامة ودفع الصائل الخارجي، وغيرها من التشريعات التي لا تترك ثغرة لتسلُّل قيم دخيلة عليها.

وقد جاءت المنظومة القيمية في الإسلام أثرًا لبناءٍ بدأ ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم كآخر حامل لرسالة التوحيد، واستمر بناؤها طيلة حياته الشريفة، وبلغ التمام بنزول الآية الكريمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3]، معلنةً نعمة اكتمال التشريع، الذي بدأ تطبيقه العملي أثناء حياة النبي صلى الله عليه وسلم مع مجريات الواقع، ثم التطبيق العملي في مرحلة الخلفاء الراشدين والقرون المزكَّاة.

وتواصلت حياة المسلمين بهذه المنظومة القيمية، فكانت المجتمعات ترتفع بقربها لكمال المعرفة العلمية والتطبيق العملي لها، وتتردى بإهمال أحد جوانبها، واستوعبت كافة المجتمعات التي بلغها الإسلام، على اختلاف الحضارات السابقة التي كانت عليها، ولم يحدث صدام بين القيم القديمة قبل الإسلام، والمنظومة الجديدة، بل كان التشريع في الإسلام أحد أبرز الأسس التي دفع شعوب البلدان الجديدة للإقبال والدخول في هذا الدين.

لكن إذا تغير الزمن، وتغيرت أولويات الواقع، كيف تتعامل منظومة الإسلام القيمية؟ وما مدى فاعليتها؟

الثابت والمتغير في التعامل مع الواقع

نعم لقد تغير نسق الحياة في واقعنا المعاصر، وأصبحت السرعة تسيطر على مجال واسع فيها، وتغير شكل المدن وحركة النقل فيها، وتسابق الإنسان المعاصر للتصنيع… فالإنسان طوَّر من وسائله لكن دوافعه هي ذاتها منذ أن نزل إلى هذه الأرض، شيَّد الإنسان المعاصر المباني الشاهقة وحرص على رفاهيته لكن بناءها جاء من نفس الرغبة الإنسانية في السكن، واتخذ الإنسان المعاصر وسائل حديثة للتنقل في البر والبحر والجو، وجوَّدها لتكون أسرع، لكن جاء ذلك من الرغبة نفسها في التنقل، نعم لقد تطورت الأسلحة الحديثة وصنع الإنسان الأساطيل الجرَّارة والقنابل العنقودية والذرية، لكن الدوافع في امتلاك السلاح هي نفسها في صراع الخير والشر الذي كان محل اختبار الإنسان منذ وطأت قدماه الأرض.

هناك إذن ثوابتُ ومتغيِّراتٌ، جوهر وعرَض.

ثوابتُ تنطلق منها رغبات الإنسان، لا تتغير عبر الزمن، ومتغيرات في الطرق التي يحقِّق بها رغباته في الواقع حسب التطور الحاصل.

أما الإسلام فقد ضبط الثوابت، وترك المتغيرات للاجتهاد البشري؛ الاجتهادِ داخل سياق الثوابت.

وهذه هي ميزة التشريع في الإسلام.

وبها استطاع التفاعل الإيجابي الحي مع الواقع طيلة 1400 سنة، وبتلك الميزة يمكن إقامة المنظومة القيمية للإسلام في كل زمن.

وسنتعرض في المقابل للمنظومة الغربية وتعاملها مع الثابت والمتغير أثناء المقال، لكن قبل هذا نشير إشارة موجزة لمكانة الفطرة في الإسلام.

مكانة الفطرة في منظومة الإسلام

صلاحية وواقعية المنظومة القيمية للإسلام لكل زمان

لقد أعطى الإسلام أهمية قصوى للفطرة البشرية في كل أحكامه، تلك الأحكام التي جاءت موافقة للفطرة، وموافقة لسلامة الذات البشرية، وصيانة لها من الجنوح نحو توجهات يمكن أن تنحرف بها بعيدًا عن طبيعتها.

فالإنسان رُوحٌ وجسدٌ وعقل، لا يلغي الإسلام أيًّا منها أو يطغي أحدها على حساب الآخر، ففيه ارتقاء وسموٌّ روحي بلا إلغاء لنوازع المادة، وفيه تلبية وتقرير لحاجات الجسد بلا انكباب أعْمى في الاستهلاكية، وفيه حثٌّ على إعمال العقل والتدبر انطلاقا من البديهيات العقلية الفطرية.

يضمن الإسلام بالتالي التوازن الذي يمكن للإنسان من خلاله تأدية نشاطاته في الحياة بواقعية مثاليَّة، لا تهوي به في مستنقع البهيمية المادية المعاصرة، ولا تكبِت حاجياته الغريزية وتلغيها.

المنظومة القيمية المهيمنة

بدأت الأحداث في أوروبا المظلمة، حيث كانت الكنيسة تفرض الرهبانية على منتسبيها، فتمنعهم من الزواج، وتمنع الطلاق على بقية أتباعها، حاربت الكنيسة الشهوة الغريزية للإنسان، في محاولة لقتل النوازع الطبيعية، كما حجرت التفكير العلمي وإعمال العقل في الكون والواقع، ففرضت نظرياتها العلمية الخاصة بالطبيعة، وحرَّمت كل اكتشاف يخالف ما ذهبت إليه بهتانا، وأعدمت كل محاولة لإعمال العقل بعد أن كفرت أصحابها وأصدرت فيهم حرمانًا كنسيًّا من الجنة، حتى الجنة كانت تباع وتشترى بصكوك الغفران التي توزعها الكنيسة مقابل مبالغ مالية.

ثم جاءت الثورة الغربية على الكنيسة.

لم تكن ثورة تصحيحية، بل كانت ردَّةَ فعل على واقع مزرٍ. ومِن طبيعة التغيُّرات التي تنشأ كردة فعل أن لا تقف على حد الإنصاف، بل تتجاوز الإنصاف للتطرف في الجهة المقابلة لأسباب الانحطاط.

فهربت أوروبا من أسر الكنيسة، لتسقط في الإلحاد الشامل.

هربت من الرهبانيَّة التي ابتدعها القساوسة لتسقط في المادية الحيوانية، والاستهلاكية. أنكرت بالتالي الفطرةَ، وأنكرت الثوابت، وعبَدت التطور الدارويني والتفسير المادي.

وجاءت المنظومة القيمية الغربية لتقرَّ هذا وتُتَرجمه إلى قوانين ونظُم اجتماعية وآليات اقتصادية، ومؤسسات للأسرة والمرأة والمجتمع، ونظام دولي يهيمن على العالم، معيارُه داروينيٌّ مادِّي استهلاكيٌّ، مآلُه عدَميٌّ، لم يتوقف عن تربية البشرية على نهَم الاستهلاك، حتى أصبح الإنسان ذاته هو السلعة.

الثابت والمتغير في التعامل مع الواقع

تقرَّر إذًا في المنظومة الغربية أنه لا ثباتَ ولا ثابت، كل الأحوالِ والقيم والقوانين قابلةٌ للتطور والتغير، في عملية متوالية من الانتقال من درك قيمي إلى درك أسفل منه، وفي اتساع لبقعة البهيمية في الحضارة الغربية، حتى غطى سوادها المشهد، وبقي قليل من النور ملاحقًا ومطاردًا وممنوعًا بقوانين المنظومة الغربية وقواها الصلبة والسائلة.

لقد أقرَّت قوانين الغرب الحق في الإجهاض بل وشجَّعت عليه، وأقرَّت الحق في الانتحار وتشجِّع عليه، وأقرَّت الحق في زواج الشواذِّ جنسيًا وشجَّعت عليه، وأقرت عمليات التحويل الجنسي وتشجع عليه، وأقرت النسوية وأطَّرت نشاطها في هدم الأسرة، وملكت الدول المهيمنة قنابل نووية، ومنعت المستضعفين من امتلاكها أو حتى من تصنيع أبْسط أسلحتهم، وادَّعت حق الشعوب في تقرير مصيرها، واستثنت المسلمين من حقهم في إقامة دينهم، وأقامت منظمة للصحة العالمية، ومنعتنا من الاكتفاء الصحي، وأقرَّت حقوق الإنسان وحق الشعوب في غذائها، وأجهضت المشاريع الغذائية المحلية… إلخ.

لقد أنشأت المنظومة الغربية تنظيمًا عالميًّا للفساد والمجاعات والحروب، تحت غطاء من خطابات الأمن والوحدة الإنسانية والمجتمع الدولي.

مكانة الفطرة في المنظومة المهيمنة

صلاحية وواقعية المنظومة القيمية للإسلام لكل زمان

يمكننا القول إن الحرب الأساسية التي تسخِّر فيها المنظومة الغربية أغلب جهودها، هي الحرب على الفطرة. إن التأسيس لقوانين وثقافة الجندرية مثلا حيث يصبح تعريف جنس الفرد خاضعف لهويَّته الجندرية التي اختارها بنفسه، وما يتبع ذلك من تربية الأطفال وتشجيعهم على تحويل جنسهم، وسجن وملاحقة الأولياء إن هم اعترضوا على هلاك أبنائهم، إن هذا التأسيس يعدُّ حملة لإزهاق الفطرة الإنسانية، وصناعة كائن جديد لا علاقة له مع طبيعة الإنسان ومنطق وجوده.

إن قوانين كـ «قانون سيداو» أو «قانون السوسيال» الذي يتم بموجبه خطف أبناء المسلمين من عائلاتهم في السويد مثلا والغرب عامة، وقوانين الأسرة وتمكين الديانة النسوية وغيرها، ما هي إلا حملات منظمة محارِبة للفطرة، متسلِّحةٌ بالهيمنة على المجال القانوني، والتبعية القيمية، خاصة في غياب منظومة قيمية مقابلة توقف هذا النزيف في ضميرِ وقيَم الفطرة الإنسانية.

في الختام

جاءت المنظومة القيمية للإسلام لتتحدى فساد التصورات وفساد النظُم التي كانت قبلها، وهي في كل زمن ومكان، لَجديرة بأن تتحدى أي أوضاع للفساد في العالم من جديد. وإن الغاء انتظام المسلمين والتفافهم حول منظومتهم القيمية، جعل حصونهم مهدَّدةً، مِن داخلها ومن خارجها، وإن الحقوق المهدورة، والكرامة المسلوبة، والفطرة المشوهة، لهي أثر من آثار طغيان المنظومة الغربية على مجتمعات المسلمين، بل على كافة المجتمعات التي يهددها المسخ الذي يعمل لتحويل الإنسان لكائن جديد، فاقد لكل المقومات البشرية، منفصل عن هويته وخصائصه.


مصادر

كتاب : هذا هو الاسلام لمحمد قطب.

مؤمن سحنون

أرجو أن أكون من الساعين لأن ننال يوما الحرية، الحرية بمعناها الشامل لأمة تعرف رسالتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى