الاجتماع البشري.. من مجتمعات التكافل إلى تجمعات الأفراد

ثمة تغيرات طرأت على بنية الاجتماع البشري، تحولّ على إثرها إلى النقيض من السابق؛ فمن مجتمع تجمعه مشتركات عِدة إلى تجمعات لا تتفق إلا في السُكنى وبعض أشكال وأنماط المعيشة*

يناقش المقال هذه الظاهرة استبيانا لمظاهرها وأسبابها، وتحسُّسا لظلالها وتبعاتها، ثم إدراج بعض مظان علاجها، وتدارك ما بقي من جوانب قوة في محاصرة الظاهرة، وإيقاف مدها المتلاطم.

مفهوم المجتمع والتجمع

يفترق المجتمع عن التجمُّع بكون الأول جملة من البشر تجمعهم عدة سمات كنمط العيش، وأساليب المأكل والمسكن، ووحدة الغاية، وجوهرية الأهداف، والتحرك في ذات الفلك الحياتي لأجل حفظ المسافات الآمنة بينهم [1]، لكن التجمع يُوصف بمجموع الناس الذين تختلف غاياتهم، وأنماط حياتهم، وأهدافهم ولا يجمعهم سوى أصغر المشتركات البشرية؛ كالمساكن ودور التعبد والمشافي، في تجافٍ تام عن بقية مسالك الحياة.

مظاهر التحوُّل من المجتمع للتجمع

الاجتماع البشري

تعدد الطبقات الإجتماعية [2] ففي الحي الواحد تجد أن ثمة أغنياء، وفقراء، وطبقة متعلمين، وأميين، ومشتغلين بالعمل السياسي، ومن لا يُعرف اهتمامهم حتى، هذه التباينات الطبقية توضِّح بجلاء أن خللا ما في هذه المجامع البشرية؛ لأن المال والمعرفة -اللذيْن شكلا هذه المسافات والافتراقات الطبقية- من المحوزات التي يسهل تشاركها ولو بدرجات ونسب متفاوتة؛ فبقليل من السلوك الاجتماعي تتضاءل مظاهر الفقر، وتتلاشى نسب الأمية للتعرّف على المعلوم بالضرورة، وتشيع المفاهيم السياسية العامة بقليل جهد من أربابها، فبالتالي هذه التمايزات الطبقية أدت إلى تشظي السمة المجتمعية وتحولت الأمم إلى تجمعات كمجموع سيارات وبضائع لا تجمعهم أي قيم ذاتية طالما شكل كل منهم ذاته بعيدا عن الآخرين.ه

غياب التربية الجماعية وشيوع ظاهرة التربية العواقبية [3] ففي المجتمع ثمة مهمة تربوية توكل للرأي العام إد يتلقى الطفل نصائح خارج المنزل، وبالمدرسة من أشخاص لا يعرفهم غير أنه أقترف خطأ تقع مسؤولية تصويبه عين على من شهده سواء تربطه به صلة أم لا، لكن هذه الخصيصة اختفت لما شاع في الناس القوانين التي تتيح للطفل التظلُّم حتى ضد الوالد والوالدة، فتجاسر الأبناء على الجميع بدءا من المنزل، فالتربية العواقبية التي ترسم للطفل حياته وفق ما يترتب على أفعاله نصحا وتقويما حلت محلها تربية عقابية تنصب جزاءاتها أمام كل ناصح.

أسباب التحول من المجتمع للتجمع

  1. التحرر والفردانية: فالليبرالية التي ارتكزت أهدافها حول ركني التحرر والفردانية (الحرية الفردية) ساهمت بشكل كبير في تلاشي الفواصل بين الفضاء العمومي، والفضاء الخصوصي؛ إذ الفضاء الخصوصي كان يبدأ بشكل أدق من عتبات الأسرة  وسياج المنزل، وما كان خارج ذلك كالمسؤوليات السياسية والاجتماعية، أو المعنوية كالعمل الجامع، والإحساس بأوجاع الأمة، وقضاياها المصيرية، فيعتبر هذا فضاء عموميا. لكن الفردانية تلاعبت بهذه القسَمات إذ خرّبت العمومي بتقليل مساحاته بحسب رغبات الأفراد فلم يعد الشأن شأن الجميع طالما أن هناك نكيرا من أحدهم، وزادت رقعة الفضاء الخاص وذلك بتخريب القيود الأسرية، وتشتيت مهام الآل، وتقليل سطوة الوالدين حتى في تحديد مصائر أبنائهم، وتكريس الجهد والمال في دفع تلك الأفئدة تجاه أسوار منازلهم مبنًى ومعنًى.
  2. الفراغ الوجودي وغياب المعنى: فالتضخيم الشديد لواردات المعارف والانهزام أمام المعمار البشري سيما أن غالب المجتمع البشري يردح تحت وطأتي الفقر والاستعمار؛ فساعد ذلك على ضمور الغائية المجتمعية، وتشكلت الغايات الفردية، وتشتت القيم الجامعة على حساب بروز المعتقدات الفردية، فالدافع للمجتمع المتماسك ليس محسوسا فحسب بل ثمة خفايا نفسية لمَّا غابت وضمرت اضمحلت هذه الجُمعة الإنسانية.
  3.  النظرة الذرية للوجود: وهي من مخلفات التقنيات الجزيئية الحديثة التي لم تقتصر على خدمة المكتشفات العلمية فحسب؛ بل تجاوزتها لتظهر في صور الافتراق البشري إذ يستند كل منّا على مطلوباته الخاصة، واحتياجاته مع استظهار دعاوى بناء الذات بالذات.

تبعات هذه الظاهرة

ضمور الهموم الجامعة للمجتمع البشري يسهِّل السيطرة عليه فالعقيدة المشتركة حصن ضد العدو المتربِص، ورادعة أمام موجات التشظي، فلما تغيبت الجوامع القيمية وتضاءلت، مع فشو المفرِّقات؛ فذي نُذر شرّ، ورسل انهيار، ودلائل اضطراب، ففي الحضارات البشرية السابقة كان أهم أسباب البقاء أو الفناء عاملان هما: الوحدة والانشقاق.

ما العمل؟

الاجتماع البشري
  1. الطرق المتزايد لضرورة التمتين للقيم البشرية المشتركة كالتأكيد على حقوق الجار، والوالدين، والكبار والصغار، مما تُبنى به العلاقات  الصغرى، والمزايا الشرعية في صلة الأرحام.
  2. التأكيد على جوهرية قيم التكافل والتراحم الإنساني الذي أكدته النصوص الشرعية في الكتاب والسنة، والتشديد والوعيد الذي رتبته على العبث بمجموع الهموم والممتلكات العامة.
  3. توضيح العبث الليبرالي وخطل خطابات التحرر الفردي، وكشف المنظومات الفاعلة في تصديره كالمجموعات النسوية، والذكورية، والأحزاب اليسارية، والمنظومات المعرفية كدور الإعلام، وإنتاج المرئيات والمسموعات الداعمة لهذه الاتجاهات الفاسدة.
  4. إنتاج مجتمع معافى من الفردانية وذلك ببناء جيل واعٍ متمسك بالكتاب والسنة، منضبط بالتراتبية التربوية، مذعنا لما يترتب عليها.
  5. التعرف المستمر على الاجتماع البشري الرقمي الحديث [4]، فثمة تغييرات جوهرية أحدثتها هذه التقنيات في بناء المجتمعات البشرية.

المراجع:

*. للشيخ الدكتور عبد الله العجيري توضيح مهم لهذه الظاهرة ضمن حديثه في الموسم الثاني من بودكاست نقطة حلقة (الحب في زمن الحداثة) من الدقيقة (103:52).

  1. يرى بعضهم أن المجتمع والتجمع مترادفان لكنهم اختلفوا في توحيد الغايات فجعل بعضهم أن غياب الغايات الجامعة من سمات التجمعات فقط.
  2. التباين الطبقي المبسوط في المدونات السياسية يُقصد به داخل المجتمع بشكل عام لكن هذه التباينات في المجتمعات الصغيرة تخرج عن جنس التصنيف السابق فمثلآ الماركسية في سياق تحليلها للمشكل البشري لا تقصد بالبرولتاريا والبرجوازية هذه الأحياء السكنية فحسب بل هو ميزان تحليلي عام.
  3. قوانين الطفل والأسرة من نتائج التحرر الليبرالي.
  4. أشهر الكتابات النافعة بحسب اطلاعي: (علم الاجتماع الرقمي) لكيت أورتون.

عبد العزيز كرار العكد

كلية الطب والجراحة، جامعة كردفان مهتم بقضايا الفكر الإسلامي مختص بفهرسة كتب السير الذاتية باحث… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى