كيف تشكّل مناطق خفض التصعيد بابًا لوأد ثورة الشام؟

نشرتُ بخصوص اتفاق الهدنة المُوَقَّع في أواخر شهر ديسمبر 2016م، الاتفاق الذي مهَّد لمفاوضات الآستانة، تقريرا تحت عنوان “وقفة تحليلية مع اتفاق الهدنة في سورية“، ثم كتبتُ إبَّان انعقاد مؤتمر آستانا (1) تقريرًا تحت عنوان “مهزلة وخيانة مفاوضات الآستانة“، وما قلته في التقريرين ينطبق على النسخة الرّابعة لمفاوضات آستانة التي انعقدت في العاصمة الكازاخية يومي 3-4 مايو 2017م، ويؤكد ما استشرفته وحذّرتُ منه!

وأود هنا أن أستأنف التحليل السّياسي لما يصدر من مفاوضاتٍ أكّدت تجارب الأمّة الإسلاميّة خلال القرن الأخير أنها-أي المفاوضات-أحد أهم أدوات الغرب التي يستعملها لشق صف المسلمين واستدراجهم بالتسلسل للاستسلام والتنازل وتضييع قضايا الأمّة التي قاموا ابتداءً لنصرتها، فيتحوّل المفاوضون المسلمون إلى مرتزقة يقاتلون المخلصين من الأمّة الذين يقفون سدًا منيعًا أمام مخططات الغرب الهادفة لإبقاء هيمنته على بلاد المسلمين.

ما هو مركز المعارضة في المفاوضات؟

ليس لوفد الفصائل (من أهم أعضائه “جيش الاسلام”) التي دخلت لعبة المفاوضات أي سلطان أو قرار. حتى قرار مشاركتها يصدر من تركيا والسعودية تحت إشراف أمريكي! فلم يستطيعوا الامتناع عن الذهاب لأيٍّ من مؤتمرات جنيف وآستانة التي وصل عددها في المجموع إلى حوالي العشرة، رغم قمة الذّل التي أوصلتهم إليه المفاوضات، ورغم قناعتهم أنّها لن تحقق أي شيء مما وعدهم به النظام الدّولي: لا هدنة، ولا إفراج عن معتقلة واحدة حتى، ولا دخول مساعدات إنسانية للمدنيين، ولا رفع حصار الخ.

بل خلال وبين كل مفاوضات يزداد إرهاب روسيا وإيران وأمريكا وعصابات آل الأسد على المناطق المحررة في الشّام بكلّ أسلحة البطش والدّمار الشّامل، ويفرّغون مناطق جديدة من أهلها ويطردون من منطقة تلو الأخرى! ورغم تصريح الفصائل المفاوضة كلّ مرّة بأنّهم لن يذهبوا للمفاوضات لعدم وفاء روسيا وإيران ونظام آل الأسد باتفاقات حلقاتها السّابقة، يأخذون في آخر المطاف ورغم أنوفهم مقاعدهم في جلسات المفاوضات.

تمثيلية انسحابات وفد “المعارضة” الصبيانية المتكررة من جلسات المفاوضات ثمّ الرجوع إليها أصبحت مملةً وتسبب الغثيان، وتؤكد أنّه لا قرار بيدهم، فمن كان بيده القرار لا يحْتجُّ بالانسحاب، بل لا يذهب أصلًا للمفاوضات. فأقصى ما تفعله “المعارضة” من حين لآخر هو بعض المشاغبة، كمشاغبة الصبية في روض الأطفال، ثم ما يلبث الأطفال لينصاعوا لأوامر مُعَلِّميهم ويجلسوا على كراسيهم صامتين متأدبين يأخذون الواجبات المنزلية التي عليهم إنجازها!

وفد “المعارضة” ليس أصلًا طرفًا في المفاوضات، بل هم عبيد ينفذون فقط ما يحدده لهم النّظام الدّولي! فدورهم في المفاوضات هو أن يكونوا شهود زورٍ ليس إلّا، المطلوب هو حضور أجسادهم فقط لِتَأخذ قرارات النظام الدّولي شرعية دوليّة، بحيث يمكنه القول أنّ هذا ما أراده “ممثلو” الشّعب في سوريا! ولذلك فبيانات الآستانة كانت في كل مرّة مجهزّة مسبقًا لِتُقرأ على الصّحفيين وتمضي عليها ما تسمى بالدّول الضّامنة: روسيا وإيران وتركيا، ولا تُسأل “المعارضة” عن رأيها فيه ولا يُطلب توقيعها عليه، المطلوب منها التنفيذ وليس التّوقيع!

ما هي أهم النقاط التي يحويها بيان آستانا (4

ذكر البيان أنّ الاتحاد الرّوسي، جمهورية “إيران الإسلاميّة” وجمهورية تركيّا كدول ضامنة لمراقبة نظام وقف إطلاق النار في الجمهورية العربية السورية (المشار إليهم بـ “الضامن”)، يعربون عن تصميمهم على “خفض مستوى التّوترات العسكريّة” وتوفير الأمن للمدنيين في الجمهورية العربية السّورية، ووضعوا ستة بنود يتم من خلالها “خفض مستوى التوترات العسكرية”، بعض البنود احتوت على عدة مواد أو تفاصيل، وأقتصر هنا على ذكر أهمها:

مناطق تخفيض التصعيد

بهدف وضع نهاية فوريّة للعنف وتحسين الحالة الإنسانيّة وتهيئة الظّروف الملائمة للنّهوض بالتسوية السّياسية للنزاع في الجمهورية العربيّة السّورية، يتم إنشاء “مناطق تخفيض التصعيد” التالية:

  • محافظة إدلب وبعض أجزاء الجوار (محافظات اللاذقية وحماة وحلب)
  • أجزاء معينة في شمال محافظة حمص
  • الغوطة الشرقية
  • بعض مناطق جنوب سوريا (محافظتي درعا والقنيطرة)
مناطق خفض التصعيد نقلًا عن الجزيرة

وفي إطار مناطق خفض التصعيد

وقف الأعمال العدائية بين الأطراف المتنازعة (حكومة الجمهورية العربية السّورية وجماعات المعارضة المسلحة التي انضمت إلى نظام وقف إطلاق النّار وستنضم إليه) باستخدام أي نوع من أنواع الأسلحة، بما في ذلك الضّربات الجويّة.

الخطوط الأمنية

لمنع وقوع حوادث ومواجهات عسكريّة بين الأطراف المتنازعة، تنشأ على حدود “مناطق تخفيض التصعيد” خطوط أمنيّة. وتشمل المناطق الأمنية ما يلي:

  • نقاط تفتيش لضمان حرية تنقل المدنيين العزل وإيصال المساعدات الإنسانية وتعزيز النشاط الاقتصادي
  • مراكز مراقبة لتأمين تطبيق نظام وقف إطلاق النار
  • عمل نقاط التفتيش ومراكز المراقبة وكذلك إدارة المناطق الأمنية يجب أن تكفلها قوات الدول الضّامنة على أساس التوافق. ويمكن أن تنشر الأطراف الثالثة قواتها، إذا لزم الأمر، على أساس توافق آراء الضامنين.

الضامنون يلتزمون بما يلي:

– اتخاذ جميع التدابير اللازمة لمواصلة القتال ضد داعش وجبهة النصرة وجميع الأفراد والجماعات والمؤسسات والكيانات الأخرى المرتبطة بالقاعدة أو داعش وغيرها من التنظيمات الإرهابية التي حددها مجلس الأمن الدولي داخل وخارج مناطق التصعيد.

التحالف الدولي يستهدف معسكرًا لجبهة النصرة بريف حلب

– مواصلة بذل الجهود لإدراج جماعات المعارضة المسلحة التي لم تنضم إلى نظام وقف إطلاق النار حتى الآن، انضمامها إلى نظام وقف إطلاق النار.

– يقوم الضامنون باتخاذ الخطوات لإنجاز خرائط مناطق تخفيض التّصعيد والمناطق الأمنيّة بحلول 4 يونيو 2017م، وكذلك فصل جماعات المعارضة المسلّحة عن الجماعات الإرهابيّة المذكورة في البند.

ماذا تعني “مناطق تخفيض التّصعيد” وما هي شروط تخفيض التّصعيد فيها؟

بيان آستانة (4) يحمل نفس الهدف الذي نوقش في لقاءات جنيف وآستانة السّابقة، ألا وهو القضاء على الفصائل “الإرهابيّة”، لكن هذه المرة يضع البيان شيئًا من التفصيل في كيفية تحقيق الهدف بحديثه عن “مناطق تخفيض التّصعيد”.

فالهدف من “مناطق تخفيض التّصعيد” والتي تم تعيينها في المناطق الأربعة المهمة التي تجتمع فصائل “المعارضة” والفصائل المصنفة على أنها “إرهابيّة” (وعلى رأسها “هيئة تحرير الشام”)، هو:

  • عزل تلك المناطق عن بعضها البعض ومحاصرتها، ومنع تنقل المقاتلين والأسلحة فيما بينها، ولذلك نصَّ بيان الآستانة على [إنشاء خطوط أمنية ومراكز مراقبة على حدود “مناطق تخفيض التّصعيد”].
  • دفع فصائل “المعارضة” لعزل نفسها جغرافيًا عن الفصائل المصنفة على أنها “إرهابيّة” وعلى رأسها “هيئة تحرير الشام”،وعدم مشاركتها في قتال نظام آل الأسد وحلفائه، ولذلك نصّ البيان على [فصل جماعات المعارضة المسلّحة عن الجماعات “الإرهابيّة” المذكورة في البند (5) من البيان].
  • فصل جماعات “المعارضة” عن الجماعات المصنفة أمريكيا على أنها “إرهابيّة” (على رأسها “هيئة تحرير الشّام”) يستوجب قتال جماعات “المعارضة” للفصائل “الإرهابيّة” وتطهير “مناطق تخفيض التصعيد” منها. وهذا بالضبط ما حاول فصيل “جيش الاسلام” تنفيذه حين باغت “هيئة تحرير الشام” في الغوطة الشرقية ببدء حرب استئصالية ضده في 28 ماي 2017م، أيامًا فقط قبل انطلاق مؤتمر آستانة (4).

وقد علل منَظِّري وشرْعِيِّي  “جيش الإسلام” صراحةً أنّهم يريدون استئصال “الهيئة” وتطهير الغوطة الشرقية من “الخوارج”! وهذا يعني أنّ استئصال كلّ الجماعات التي لا تريد الخضوع للنّظام الدّولي، أمر محسوم ومتفق عليه منذ مدة بين فصائل “المعارضة” من جهة، وتركيا، إيران، نظام آل الأسد، روسيا وأمريكا من جهة أخرى!

مدى تخفيض التّصعيد في المناطق التي حددها بيان آستانة (4) متعلق بمدى تجاوب فصائل المعارضة مع الأوامر الموجّهة إليهم بقتال الفصائل المصنّفة على أنّها “إرهابيّة” ومدى نجاحهم في ذلك. فَعبارة “تخفيض التصعيد” في غاية الأهمية، إذ تحمل رسالة “أمل وتهديد”-جزرة وعصا-لفصائل “المعارضة”: فكلما نجحتم في تطهير منطقة من “الإرهابيين” و”الخوارج” و”الغلاة” وتعاونتم معنا (أي مع روسيا وأمريكا وإيران ونظام آل الأسد) على استئصالهم؛ فسنخفف من قصفنا لتلك المنطقة.

وهذا بالضبط فهمه وعَبَّرَ عنه مثلا سمير كعكة (شرعي فصيل “جيش الإسلام”) في تغريدة له يوم 30 مايو 2017م، إبَّان انطلاق حرب “جيش الإسلام” على هيئة تحرير الشام في شرق الغوطة، حيث قال: [يا أبطال جيش الإسلام، عندما كسرتم قرن داعش شهد لكم القريب والبعيد بهذه المنقبة العظيمة، ويكفيكم شرفًا أنّكم جنّبتم بلادكم طائرات التّحالف](ا.هـ). سمير كعكة يأمر بقتال هيئة تحرير الشام قتالًا استئصاليًا تمامًا كما فعلوا مع جماعة “الدولة”، حتّى يجنّبوا الغوطة قصف التّحالف الدّولي!

احذروا طُعْم “إيقاف القصف” و”إيصال مساعدات إنسانيّة”، فإنّها أبوابٌ لوأد الثّورة

على الثّوار في الشّام أن يَتَحَلَّوا بوعيٍ سياسيًّ شرعيًّ عميق، وعي بأساليب الغرب في استدراج المسلمين للخيانة ولخدمة مخططاته. عليهم أن يدركوا أنّ المفاوضات لم تحقق قط أي مصلحة، ناهيك عن نصر للمسلمين، وأنّ الوعود “الورديّة” التي يقدّمها أعداء الأمّة ما هي إلّا قِطَعًا من جحيم مغلفّةً في ورق برَّاق لامع، ما إن يلهث وراءه المسلمون حتى يُضَيِّعوا قضيتهم.

فالغرب يستعمل دائما سياسة “الجزرة والعصا”، يستدرج المسلمين بالجزرة لِيَنْقَضَّ عليهم بالعصا ويُهَشِّم رؤوسهم، فالطَّمَع في “الهدايا” والمصالح “المجانيّة” قاتل، فمن يظن أنّ الغرب سيُمَكّن المسلمين في البلدان الإسلاميّة من “الأمن” و”الأمان” و”الحريّة” و”التّحرر” وإقامة دولة إسلاميّة، بل دولة عدلٍ حتّى؛ فهو واهم ولم يفقه شيئًا من تحذير الله والرّسول للمسلمين من الكفّار ومن التّاريخ ومن السّبل التي تؤدي للخسران والفشل في الدّنيا والآخرة.

تدبروا قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ”(صحيح مسلم)، فالكفار يستدرجونكم لجحيم الدنيا والآخرة بإطماعكم بِشهوات: “هدنة”، “إيقاف قصف المدنيين وحمايتهم”، “إيصال مساعدات غدائية وطبية”، “تخفيض التصعيد العسكري”، الخ… لِتستسلموا له وتُسَلِّموا له أمركم ومصيركم، فيُعيدكم للقفص الذي وضعكم فيه منذ أكثر من قرن من الزمن، ويزيد في الإمعان من إذلالكم وتسليط أخبث وأحقر وأوحش الحكام عليكم! تدبروا كيف استدرج إبليس أبويكم آدم وحواء بإطماعهم بالخلود في النّعيم وبأنّه ما ينصحهم إلا بالخير

{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشّيْطان قَالَ ألا أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى}(سورة طه)، {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشّيْطان لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِين، وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ، فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ}(سورة الأعراف).

فانظر مثلا لبيان آستانة (4) الذي يهدف لعزل مناطق الثوار الأربعة ومنع تنقل المقاتلين والأسلحة فيما بينها بإنشاء [خطوط أمنية ومراكز مراقبة على حدود “مناطق تخفيض التصعيد”]، فقد سَوَّق البيان “الخطوط الأمنية” و”مراكز المراقبة” التي يريد النظام الدولي إنشائها حول “مناطق تخفيض التصعيد” على أنها [نقاط تفتيش لضمان حرية تنقل المدنيين العزّل وإيصال المساعدات الإنسانيّة وتعزيز النّشاط الاقتصادي… ولتأمين تطبيق نظام وقف إطلاق النّار](ا.هـ). وسنسمع السّطحيين والسُّذج -حتى من حفظة القرآن والحديث-، الذين لا يفقهون شيئًا في السّياسة، كيف سيرحّبون بهذه “الخطوط الأمنيّة” و”مراكز المراقبة” لأنّها ستخفف معاناة الشّعب السّوري وتمكّنه من التّوصل للمساعدات، وسيقولون أنه لا خطر في هذه الإجراءات الأمنيّة إذا وُكِّلَ لتركيا إدارتها، تمامًا كما استبشروا خيرًا بِـ”درع الفرات” ليدركوا بعد حين أنّه وبال على الثورة!

فاحذروا أيّها الثّوار ألاعيب الغرب، واحذروا تركيا، لا تسمحوا بعزل مناطقكم المحررة ومحاصرتها بمراكز مراقبة، ولا تسمحوا لتركيا بدخول مناطقكم المحررة ولا إقامة خطوط أمنيّة حولها، فتركيا خادمة للنّظام الدّولي، ولا يهمها إلّا منع الكرد من إقامة دولة على حدودها، فتقدم ثورة الشّام وفصائلها كقربان للنّظام الدّولي لعلّ ذلك يشفع لها عنده!

اعلموا يا ثوار أنّكم إن سمحتم بعزل ومحاصرة مناطقكم المحررة وإنشاء مراكز مراقبة حولها وأوقفتم القتال؛ فسيكون هذا بمثابة دق آخر مسمار في نعش ثورتكم!

خطوات مهمة للحفاظ على الثورة

ويجب على الثّوار المخلصين أن يرفعوا الشّرعية عمَّا يُسمّى “الحكومة المؤقتة”، و”الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السّورية”، و”الهيئة العليا للمفاوضات”، ويأمروا الفصائل بالانسحاب منها. فحتى الآن لم يصدر أي بيان واضح بهذا الخصوص. فمجرد السّكوت عن هذه “المنصات” التي صنعها الغرب عن طريق السعودية وتركيا وقطر يعطيها شرعية لتمثيل الثّورة، ويجعل لها قبولًا ومصداقيّة لدى المسلمين في الشّام، فيسهّل عليها تمرير مخططات الغرب وإعطائها شرعية شعبيّة!

ويجب على الثّوار المخلصين أن يتخذوا موقفًا حاسمًا واضحًا من مفاوضات الخيانة في جنيف وآستانة، فلا يكفي عدم المشاركة فيها، فهذا لا يكفي لحماية الثّورة إذا كان غيركم يشارك فيها وينفذ مخططاتها في الشّام، كما رأيتم ذلك بأم أعينكم لما أطلق “جيش الاسلام” حربه الاستئصالية لتطهير الغوطة الشرقية!

ولا يكفي أنكم لا تشاركوا في مفاوضات الخيانة في جنيف وآستانة، لكن لا تُحَرِّمونها، بل وتأملون أن يخرج منها شيء من “الخير” لأهل الشّام وتخفف عنهم آلامهم! فليس ثمة أيّ خيرٍ في مفاوضات جنيف وآستانة، بل هي الشّر المحض، وهي السّبب في اقتتال فصائلكم ومنع توحد صفوفكم، وتعطيل جبهات القتال ضد نظام آل الأسد وحلفائه، وهي السبب من عدم القدرة على اقتحام دمشق وتحريرها، فجيش الإسلام هو من يحميها من السّقوط، كما يحمي الموك منطقة الجنوب!

ففي المفاوضات التي يرعاها الغرب ويحدد إطارها وأهدافها، قضاء على ثورتكم، وضياع تضحيات سنوات من القتال وملايين من القتلى والجرحى والمُهجَّرين والمغتصبين والمعتقلين.

أَحْكَمُ وأبْلَغُ ما قيل في الحلول السّلمية، والمبادرات، والمؤتمرات الدّولية، المادة الثالثة عشرة من ميثاق حماس الصادر في أغسطس 1988م (والذي انسلخت عنه حماس للأسف في ميثاقها الجديد التي أعلنته مؤخرًا)، حيث ورد فيها:

«تتعارض المبادرات، وما يسمى بالحلول السلمية والمؤتمرات الدّولية لحل القضية الفلسطينية مع عقيدة حركة المقاومة الإسلاميّة، فالتفريط في أي جزء من فلسطين تفريط في جزء من الدّين، فوطنية حركة المقاومة الإسلاميّة جزء من دينها، على ذلك تربّى أفرادها، ولرفع راية الله فوق وطنهم يجاهدون.

{واللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أكثر النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (يوسف: 21).

وتثار من حين لآخر الدعوة لعقد مؤتمر دولي للنّظر في حل القضيّة، فيقبل من يقبل ويرفض من يرفض لسبب أو لآخر، مطالبًا بتحقيق شرط أو شروط، ليوافق على عقد المؤتمر والمشاركة فيه. وحركة المقاومة الإسلاميّة لمعرفتها بالأطراف التي يتكون منها المؤتمر، وماضي وحاضر مواقفها من قضايا المسلمين، لا ترى أنّ تلك المؤتمرات يمكن أن تحقق المطالب أو تعيد الحقوق، أو تنصف المظلوم، وما تلك المؤتمرات إلّا نوع من أنواع تحكيم أهل الكفر في أرض المسلمين، ومتى أنصف أهل الكفر أهل الإيمان؟

{ولَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليهودُ وَلاَ النَّصَارَى حتَّى تَتَّبعَ مِلَّتَهُم قُل إنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الهُدَى وَلَئِن اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الذي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ من اللهِ من وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} (البقرة: 120).

ولا حلّ للقضية الفلسطينيّة إلا بالجهاد، أما المبادرات والطّروحات والمؤتمرات الدّولية، فمضيعة للوقت، وعبث من العبث. والشّعب الفلسطينيّ أكرم من أن يعبث بمستقبله، وحقّه ومصيره.» (ا.هـ).

خاتمة

أودّ في النّهاية أن أشير لمقال قيّم وصل إلى تحليل قريب مما قدمتُه هنا عن “مناطق تخفيض التصعيد”، كاتبه هو المحامي والمحلل السياسي المتخصص بالشأن الروسي، اليوناني “أَلِكسندر مِيرْكُوريس”، عنوان المقال: [المرحلة النهائية في سوريا: “مناطق تخفيض التصعيد” = “القضاء على مناطق ‘القاعدة'”]، نشره الكاتب على موقعه “دِي دُورَان”!

كما أودّ التنبيه إلى أنّ الخلافات والصّراعات والاقتتال بين الفصائل المنخرطة في الثورة لن يتم أبدًا تجنبها عن طريق نداءات الدّراويش الذين لا يبحثون عن جذور وأسباب الاقتتال والعمل بجديّة لاقتلاعها، الدّراويش الذين يتذبذبون بين الحق والباطل، «مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا» بين فصائل المفاوضات وفصائل الجهاد، ويكتفون بالنداء بِـ “أنتم إخوة”، “اتقوا الله في الدّماء”، “القاتل والمقتول في النّار”، “توحدوا” الخ… فليس بعد الخوارج والمَدَاخِلة أشد خطرًا على الثّورة من مشايخ الصوفية الدّراويش.

فالثورة والثوار في حاجة ماسّة إلى تشخيص عملي علمي لأسباب الاقتتال، ووضع حلول عملية لقلع أسباب الدّاء، فالدّاء (الاقتتال) لن يزول أبدًا بنقاش أعراضه، بل بقلع أسبابه. وأحيل هنا إلى مقال لنا: “أُسّ الداء في ثورة الشام وكيفية علاجه” يتطرق للداء وكيفية علاجه حتى يمكن تفادي الاقتتال بين الفصائل في الشام.


مراجع

نص المذكرة الخاصة بإنشاء مناطق لتخفيف حدة التصعيد في سوريا

Memorandum on the creation of de-escalation areas in the Syrian Arab Republic

Here’s the full text of the Syria “De-Escalation Zone” memorandum. – Signed today by Turkey, Russia and Iran in Astana.

Syrian endgame: “De-escalation areas” = “Destroy al-Qaeda areas”

ميثاق حركة المقاومة الإسلامية (حماس) (الصادر في 18 أغسطس 1988)

فاروق الدويس

مسلم مُتابع للأحداث في البلدان الإسلامية خاصة، يحاول المساهمة في معركة الأمة المصيرية بأبحاث ومقالات… More »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى