ذكر الله حقيقته ومعانيه
إنَّ ذكر الله ليس مُمارسةً قوليَّةً مطلوبة في الشرع وحسب، بل هي جزء أصيل من تكوين إيمان الفرد المُسلم. وقد خصَّها الإمام النووي بأبواب مُتتابعة تحت “كتاب الأذكار”: “باب فضل الذِّكر، والحثِّ عليه”، “باب ذِكر الله -تعالى- قائمًا وقاعدًا ومُضطجعًا ومُحدِثًا وجُنُبًا؛ إلا القرآن فلا يحلُّ لجُنُبٍ ولا حائض”، “باب ما يقوله عند نومه واستيقاظه”، “باب فضل حِلَق الذِّكر، والنَّدب إلى مُلازمتها، والنهي عن مُفارقتها لغير عُذر”، “باب الذِّكر عند الصباح والمساء”، “باب ما يقوله عند النوم”.
هذا عن “رياض الصالحين”، لكنَّ الإمام قد أفرد كتابًا كاملاً أسماه “الأذكار” وهو من ألزم ما يكون للمُسلم؛ حيث جمع فيه الأذكار الواردة في كلِّ حال الإنسان. ولعلَّ ما فات يلفت نظرنا إلى سبب الاهتمام بذِكر الله كمُمارسة شعائريَّة؟ وهل هي أصلاً مُمارسة شعائريَّة؟ تعالوا نتأمَّل معًا باختصار بالغ مُستظلِّينَ برياض الصالحين لعلَّنا نكون منهم.
ما الذكر؟
الذِّكر في الإسلام هو كلُّ قول يذكر المُسلِمُ اللهَ به تعبُّدًا. وفي ضوء حديث أدرجه الإمام يُبلغنا نبأَ رسول الله -صلَّى الله وسلَّم- لنا:
ألا أنبِّئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخيرٌ لكم من إنفاق الذهب والفضَّة، وخيرٌ لكم من أنْ تلقَوا عدوَّكم؛ فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى. قال: ذِكر الله -تعالى-.
في ضوئه نلحظ عدَّةَ ملحوظات تُفهمنا أكثر حقيقة الذِّكر:
1- الذِّكر عند التأمُّل يتعدَّى دائرة القول المُنفرد دون فعل آخر إلى دائرة الفعل الحَرَكيّ نفسه، فها هو القرآن الكريم يقول: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) -طه 14-. بل يكاد الفاهِم المُتأمِّل يُسمِّي كلَّ شعائر الله ذِكرًا؛ فالصيام ذِكر، والزكاة ذِكر، والحجُّ ذِكر. وكذلك يضُمُّ تأمُّلنا هذا كلَّ فعل صالح للمُسلم يفعله تحقيقًا لأمر الله، أو رغبةً في جنَّته، أو خوفًا من عقابه. فلولا ذِكر الله في قلب العبد ما فعل، أو لَفعلَ هذا الفعل دون عقد نيَّة؛ أيْ هكذا على عواهنه، دون تدبير منه أنَّ الفعل لله قد وُجِّه، ومن أمر الله قد صدر. فهذه هي الحقيقة الأولى التي يقع عليها نظر المُتأمِّل في “الذِّكر” كشعيرة.
2- لكنَّنا نقف مع حدِّ النصوص، ونقول إنَّ الذكر هو شعيرة لسانيَّة. ولا تعارُضَ بين هذا الوقوف وبين التصوُّر السابق؛ فجميع التصوُّرات صادرة من تحديد جهَتَيْنِ: جهة الله التي يُذكر بفعل أو قول، وجهة العبد الذي يَذكر الله فيُجري سيرته على لسانه، أو يفعل ما يقتضيه هذا الذِّكر.
3- وكذلك عند التأمُّل سنجد أنَّ الذِّكر مُرتبط بحقيقة الاعتراف بالألوهيَّة لله -تعالى-. ففي الحديث الذي أدرجه الإمام “أفضلُ الذِّكر؛ لا إله إلا الله”. ويعني أنَّ صفوة ما يذكر به العبد هو قضيَّة ألوهيَّة الله. كما في الباب أيضًا حديث في ذكرٍ واردٍ يقول: “كان رسول الله إذا أوى إلى فراشه قال: باسمك اللهُمَّ أحيا وأموت. وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا، وإليه النُّشُور”. ولعلَّ هذا الحديث يشير إشارةً واضحةً إلى قضيَّة “اتصال الذكر بمعنى الألوهيَّة”؛ ففي الذكر الاعتراف الدائم بفعل الله فينا، وبتدبيره لنا، وبفضل الله علينا.
والمقصد من الأمر أنَّ الذِّكر قضيَّة في غاية الأصالة والمركزيَّة في الإسلام، وليستْ “شيئًا” من ضمن أشياء. ومن هنا إذا عرف المُسلم أنَّ كلَّ ما أمره الله به له لُحمة قويَّة بالفكرة الأصيلة للإسلام، وله شأن في البناء الإيمانيّ له، وأنَّه لمْ يؤمَر به فضلاً أو زيادةً بل عن حِكمة وتدبير؛ إذا عرف المُسلم ذلك تغيَّر وجهُ أدائه لما يؤدِّي.
4- أمَّا المَقول في ذكر الله فيجب أن يدور حول حدّ الصحَّة. وهذه الصحَّة في الذكر تكون بتلاوة القرآن الكريم -وهو من أَوْلَى أبواب الذكر، وله فضلٌ وزيادة ضخمة على الأذكار العاديَّة-، أو ترديد ما أتت به السُّنَّة الصحيحة من أذكار، وهي كثيرة جدًّا. وأشرت إلى محاولة واحدة لجمعها في كتاب “الأذكار” للإمام النووي.
ومن هُنا ننتبه إلى عدم ذكر الله بما يُخالف حدّ الصحَّة؛ فهناك أقوال باطلة تحتوي على صفات منسوبة إلى الله، أو أسماء لمْ ترِدْ. وكذلك هناك أذكار مُبتَدَعَة عند التمعُّن فيها نجدها حاملةً للشرك الخفيّ بالله، وقد يقول القائل هذا الذِّكر وهو لا يدرك حقيقته. وبالعموم فإنَّ الوارد من الذِّكر كثير، وشامل لكُلّ أحوال الإنسان، ولا داعي لمُفارقته لما سواه؛ لذا فلنلتزم بالأذكار الواردة عن النبيّ.
5- من الممكن تقسيم الأذكار -في غير تلاوة القرآن بالقطع- إلى: “أذكار مركزيَّة”: وهي التي ارتكزتْ عليها مجموع الأحاديث، وبيَّنت ثوابها العظيم، وتواتَرَ التزامُ النبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- بها في كلّ أحواله، وأمَرَ به أمْرَ عُمومٍ من غير تقيُّدٍ بموقف معين (هذا مثال واحد لها حديث: “ألا أدُلُّك على كنز من كنوز الجنَّة؟ فقلت: بلى يا رسول الله. قال: لا حول ولا قوَّة إلا بالله”). و”أذكار موقفيَّة”: وهي مجموع كبير من الأذكار كلٌّ منها يختصُّ بموقف معيَّن. وليُركِّز المُسلم جهده الأكبر على حفظ الأذكار على حسب درجتها من المركزيَّة.
6- مع العلم أنَّ وسيلة الذِّكر المكتوبة صارتْ في مُتناول كلّ مُسلم؛ فهذه كُتُب الأذكار فيها الصغير جدًّا والكبير، وهُناك مَطويَّات تحوي أهمَّ الأذكار تُحمل في الجيب، وهذا تطبيق على الهاتف يضمُّ مجموعات الأذكار. فاستفِدْ مِمَّا سهَّل الله عليك به؛ واحفظ مركزيَّات الأذكار، وداوم على قراءة أذكار المواقف. فلمْ يقُلْها الرسول لنحفظها بين دفَّات الكُتُب، بل لنحفظها في صدورنا.
معاني الذكر العديدة
وقد تتعدَّد المعاني التي تكتنف الذِّكر، وأهمُّها:
1-الذِّكر تذكُّرٌ لله -تعالى- في كلِّ حين. وها نحن نقرأ أمره بذلك في قوله -تعالى- (وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) -الكهف 24-. ولعلَّنا بهذا النصّ مَدعُوُّون لتأمُّل معنى الذِّكر الذي تأمر الآية به كُلَّما نسي المُسلم ربَّه. والمُحصِّلة في المعنى أنْ تعيش مُراقبًا لله في كلّ أمرك، مُستحضرًا له ولعظمته، مُتذكِّرًا أنَّه المُحيي والمُميت، وأنْ لا أحدَ يضرُّك إلا بأمره. وحفنة المعاني هذه مُغيِّرةٌ لوجه حياة أيّ إنسان متى آمن بها. فسبحان الله على هذا الإسلام الذي كُلَّما تأمَّلتَه وجدتَ تضامَّه وتعاطفَه وتكاتُفَه بعضَه فوق بعض.
2-الذِّكر تجديد للإيمان؛ بتذكير النفس دومًا أنَّ أعظم ما يُلتزم وأكبر هو ذكرها لله -تعالى-. (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) -العنكبوت 45-. وانظر إلى حديث الباب: “قال رسول الله: سبق المُفرِّدُون. قالوا: وما المُفرِّدون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون اللهَ كثيرًا والذاكرات”. ألمْ تلفتْ لفظةُ “المُفرِّد” انتباهك؟! مُفرِّد اسم فاعل من فرَّدَ أو أفرَدَ. والمعنى هنا إفراد الله بشيئَيْنِ: أنَّه الأَوْلَى من أيّ شيء في حياة المُسلم، ومعنى الإفراد أو التوحيد المعروف.
3-الذِّكر استدعاء للنظير وهو ذكر الله -تبارك وتعالى- لك؛ فلتتصوَّر أنَّ الله إذا ذكرته ذكرك. يقول الله (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) -البقرة 152-. ولعلَّنا نلحظ ما جعلتْه الآية مُقابلاً للذكر وهو الكُفران والجحود بالله. وهذا الحديث يحمل المعنى نفسه:
أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني؛ فإنْ ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإنْ ذكرني في ملأٍ ذكرتُه في ملأٍ خيرٍ منه.
4-الذكر شكر لله -تعالى- على إنعامه بالهداية الإيمانيَّة؛ فإذا ذكرته كان منك الذِّكرُ شكرًا على إخراجك من ظُلُمات التصوُّرات الإنسانيَّة إلى نور الهُدى الساطع الذي أنعم به عليه. في قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) -الأحزاب 43:41-.
5-الذكر شوق لله -تعالى-، وإعلان محبَّة ظاهرة له -لذلك سنرى الحثّ على الذِّكر الجماعيّ-.
6-الذِّكر تدبُّر في آياتِ الله -تعالى- وآلائِهِ العُظمى، وبذلك يُحوِّل الإسلامُ العبادةَ إلى نشاطِ تفكيرٍ عميقٍ صحيحٍ مُستقيمٍ. ومن ذلك قوله (أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا) -مريم 67-، وقوله (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ) -آل عمران 191-.
7-الذِّكر سِناد المؤمن في الدنيا. جاء هذا في حديث: “أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله… أخبرني بشيءٍ أتشبَّث به؟ قال: لا يزال لسانُك رطبًا من ذكر الله”. ومن هُنا جاء الأمر بترطيب اللسان به، ومن غيره يكون اللسان جافًّا جامدًا لخلوِّه من معاني الله الجليلة.
8-وهناك الكثير من معاني الذِّكر التي لا أستطيع أنْ أجمعها. ويكفي أنْ نورد قول الله عن نتيجة الذِّكر أنَّه الفلاح، وهذا يُشير إلى كُلِّ معنى جُزئيّ ويربو عليه. (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) -الأنفال 45-. ويكفي أن نورد آية تصف حال المُسلم الذي يقلُّ ذكر الله عنه تقول فيه الآية: (وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ) -الأعراف 205-. فما بين طريق “المُفلحِين” وطريق “الغافلِين” اخترْ طريقك يا عبد الله الصالح.
الذكر فارق الحيّ من الميِّت
ولننظُر هنا إلى عِظَم الفارق الذي أقامته الأحاديث بين الذِّكر وإهماله. يقول الحديث: “مَثَل الذي يذكر ربَّه والذي لا يذكره مَثَل الحيِّ والميِّت”. لا إله إلا الله! .. اللهُمَّ اجعلنا من الأحياء لا من الأموات. والمعنى هُنا يشير صراحةً إلى أنَّ الذَّاكر لله يختلف حقيقةً عن غير الذَّاكر -ونعيد التذكير أنَّ التشبيه وكافَّة الصور البلاغيَّة في نصوص القرآن والحديث الصحيح تكاد تقترب من حيِّز الحقيقة لا المجاز، وهناك مَن بحث هذه القضيَّة كثيرًا-، بل لعلَّه يُشير إلى ما سبقت به الكلام بارتباط الذِّكر بقضيَّة الإيمان والتوحيد. وكذا نرى المعنى في حديث:
مَثَلُ البيت الذي يُذكر الله فيه والبيت الذي لا يُذكَر الله فيه مَثَلُ الحيّ والميِّت.
ذكر الله في كلّ وقت
ويحثُّ الإسلام المؤمنين على دوام ذكر الله في كلِّ وقت؛ فهو وقاية لهم من شرور أنفسهم، فيما قد يفعلونه حينما يغفلون عن ذكر الله، تقول الآية الكريمة (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) -آل عمران 191-. وكذلك سبَّبتْ الآية دوام الذِّكر بأنَّه افتتاح باب التأمُّل والتفكُّر -كما أوردت سابقًا-، لكنَّ التفكُّر هنا يكون من مُنطلق صحيح فيؤدِّي -بإذن الله إلى نهايات صحيحة. وفي الحديث عن السيدة “عائشة” -رضي الله عنها-: “كان رسول الله يذكر الله -تعالى- على كلِّ أحيانه”. فهذا هدى الإسلام فاقتدِ.
ذكر الله في الجماعة
ولأهميَّة الذِّكر لمْ يكتفِ الإسلام بسلوكه الفرديّ -أنْ يؤدِّيه الفرد-، بل أقرَّ سلوكه الجمعيّ في مظاهر كثيرة؛ أهمُّها صلاة الجمعة، وصلوات الجماعة الاعتياديَّة، وكذلك حلقات الذِّكر. ولا يقصد هنا بحلقات الذِّكر جلسات أيَّة طائفة بابتداع في الذِّكر وفي الفعل المُصاحب له؛ بل المقصود جلسات أناس كِرام يجتمعون ليذكروا الله بالقرآن وقراءته جماعيًّا -أيْ يقرأه واحد ويسمعه الآخرون، أو القراءة بالتناوب-، وجلسات ذكر الله بما أثبتته الشواهد الحديثيَّة من أذكار.
وفي ذلك المعنى تقول الآية: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) -الكهف 28-. وفي الآية نهي استكراه عن ترك جماعة الخير وصحبة الخير؛ فهي وسيلة من سدّ الذرائع أمام الباطل وأفكاره في نفس الإنسان. وكذلك نجد الحديث يُوجِّه: “لا يقعد قومٌ يذكرون الله إلا حفَّتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلتْ عليهم السَّكينة، وذكرهم الله فيمَنْ عنده”. فماذا تريد حالاً أفضل من هذه الحال يا عبد الله الطائع؟!
هُم القوم لا يشقى جليسُهُم
وهنا أورد حديثًا لطيفًا به فائدة في آخره؛ من خيريَّة جماعة المُسلمين الطائعة، وأنَّ رجُلاً لمْ يقصد لذكر الله، لكنَّه مرَّ وجلس معهم، وبالقطع سمع ما يقوله هؤلاء القوم من الذِّكر. يقول الحديث:
“إنَّ لله ملائكةً سيَّارةً فُضلاءَ يتتبَّعون مجالس الذِّكر؛ فإذا وجدوا مَجلسًا فيه ذِكر قعدوا معهم، وحفَّ بعضُهُم بعضًا بأجنحتهم، حتى يملأوا ما بينهم وبين السماء الدنيا. فإذا تفرَّقوا عرجوا وصعدوا إلى السَّماء.
فيسألُهُم الله -عزَّ وجلَّ- وهو أعلم (أيْ غنيٌّ عمَّا سيقولونه): من أين جئتُم؟
فيقولون: جئنا من عند عبادٍ لك في الأرض يُسبِّحونك، ويُكبِّرونك، ويُهلِّلونك، ويحمدونك، ويسألونك.
قال: وماذا يسألونَني؟
قالوا: يسألونك جنَّتك.
قال: وهل رأوا جنَّتي؟
قالوا: لا، أيْ ربُّ.
قال: ومِمَّا يستجيرونني؟
قالوا: من نارك يا ربُّ.
قال: وهل رأوا ناري؟
قالوا: لا.
قال: فكيف لو رأوا ناري؟
قالوا: ويستغفرونك.
فيقول: قد غفرتُ لهم، وأعطيتُهم ما سألوا، وأجرتُهم مِمَّا استجاروا.
فيقولون: ربِّ.. فيهم فلانٌ عبدٌ خطَّاءٌ؛ إنَّما مرَّ فجلس معهم؟
فيقول: وله غفرتُ. هُم القوم لا يشقى بهم جليسُهُم.”
فيا أيُّها العبد الصالح.. هؤلاء الذاكرون لله هُم القوم الذين لا يشقى فيهم جليس؛ وكم تحمل هذه الكلمة من بشارات. فأفشِ ذكر الله في نفسك، وفي بيتك، وبين مُجتمعك الصغير؛ لعلَّ الله لا يُشقى لكم جليسًا. ولا تنسَ الإمام النووي، ولا صاحب السطر من صالح دعائك.