كيف نصل إلى تمام محبة الله في قلوبنا؟
إن الوصول إلى الله تعالى يتطلب عدة أمور، والأصل في العبادة أن تكون بين جناحي الحب والرجاء، ويُكملهما الخشية من الله بالتوازي، لا يطغى جانب على آخر. ومن ذاق طعم محبة الله حتمًا سيدرك الفرق بين أن نعبد الله بخشية فقط، أو بحب وخشية معًا، ولا يمكن أن يشعر العبد بتمام الحب إلا بعد الوصول إلى عدة مراتب، والإقبال على الله أول المراحل، ولا يكون الإقبال الصحيح إلا بعد معرفة الله.
قال الإمام ابن قيم الجوزية: إن في القلب شعثًا لا يلمه إلا الإقبال على الله، وعليه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزنًا لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلقًا لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلبًا شديدًا لا يقف دون أن يكون هو وحده المطلوب، وفيه فاقة لا تسدها إلا محبته ودوام ذكره والإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تُسد تلك الفاقة أبدًا!
فكيف نصل إلى مرحلة معرفة الله والإقبال عليه؟
صلاح القلوب بين يدي الله عز وجل، وأصل الصلاح وأعلاه هو المحبة. والمعرفة هي الطريق للمحبة.
قال بعض المحبين: مساكين أهل الدنيا، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها. قالوا: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله والأنس به، والشوق إلى لقائه، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، وكل ما له قلب حي يشهد هذا، ويعرفه ذوقًا.
ومن ذاق المعرفة والحب بحق وصل إلى سعادة الدنيا والسكينة وهدوء القلب.
أولًا: معرفة الله:
ومعرفة الله لها عدة طرق: أولها التسليم والاستسلام، ولا يكون تمام التسليم إلا بفهم حقيقة «لا إله إلا الله» كما بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بتربية جيل الصحابة فأخرجهم من التيه والظلمات، وحلقت أرواحهم في رحاب التوحيد وحدثت المعجزات. ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ (الأنفال 9).
«لا إله إلا الله» لها ركنان: (النفي “لا إله”) و(الإثبات :إلا الله). فهي تنفي أن يكون في الكون معبود بحق إلا الله، وتُثبت له ذلك وحده لا شريك له. وتشتمل الشهادة على معانٍ عديدة:
- إفراد الله تبارك وتعالى بالعبادة: قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (سورة الجن)
- البراءة من الشرك وأهله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا (النساء)
- ألا يتخذ العبد من دونه حكماً يتحاكم إليه: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۗ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (الشورى).
ومن المعلوم أيضًا أن من شروط لا إله إلا الله (الانقياد)، فكيف يصل المُحب إلى الله بدون الانقياد إلى أوامره والتسليم بها؟! وهناك فرق واضح بين “الانقياد” و”القبول”:
- الانقياد: الاتباع بالأفعال والاستسلام والإذعان: وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (الزمر)
- القبول: إظهار صحة الاتباع بالقول
ومن شروط لا إله إلا الله أيضًا “المحبة”: والمراد الوصول إلى محبة الله ومحبة رسوله ومحبة كل من يؤمن ويتبع منهج الإسلام، فترى العبد المحب يعبد الله حق عبادته ويحذر من معصيته.
الذنوب وتأثيرها على محبة الله
يقول ابن القيم رحمه الله:
“القلوب جوالة إما أن تجول حول السماء وإما أن تجول حول الخلاء “
قال بعض السلف:
“إنَّ هذه القلوب جوالة، فمنها ما يجول حول العرش، ومنها ما يجول حول الحش [أي القاذورات]، يعني حطام الدنيا الفاني.
وتأثير الذنوب على القلوب يكون تدريجيًا على حسب ما وصل العبد إلى صغائر الذنوب أو كبائرها. ومن أشدها: “حجب القلب عن الرب”، كما ذكر ذلك الإمام ابن القيم في كتابه الداء والدواء: وهي حجاب القلب عن الرب فى الدنيا، والحجاب الأكبر يوم القيامة، كما قال الله تعالى: “كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ” ( المطففين).
ومن وصل لتلك المرحلة والعياذ بالله فحتمًا سيعيش فى الضنك والألم كما قال الله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ( طه)
الإعراض عن الذكر سبب للضنك، حتى وإن كان العبد يتمتع بكل نعم الدنيا فالقلب مليئ بالألم والذل والانكسار، ولا يهديه شيء إلا الرجوع إلى الله تعالى!
قال تعالى: “مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (النحل)
وقال: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ۖ وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (هود)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: “إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا” ، قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ ؟ قَالَ: “حِلَقُ الذِّكْرِ”.
يقول ابن تيمية رضي الله عنه: “إنّ في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، قالوا: وما هي؟ قال: إنها جنة الإيمان”. إن المؤمنَ يعيش في جنة حقيقية بإيمانه بالله تعالى ورضاه عن قضائه في كل ما قدّره عليه؛ فيجد السَّكينة والطمأنينة مهما أصابه من البأساء والضراء، فلا يحزن ولا يجزع لأنه يعلم أنه لا راحة له إلا مع أول قدم يضعها في الجنة.
يقول الحسن البصري رضي الله عنه: “لا تجعل لنفسك ثمنًا غير الجنة، فإنّ نفس المؤمن غالية، وبعضهم يبيعها رخيصة”، جنةُ الدنيا نصَبَ لها أسلافنا الأقدام، وجهزوا حكايا الشوق إلى دار السلام، ولبسوا ثياب التقوى والحياء، وتطيبوا بطيب الصدق والإخلاص والوفاء، تبتّلوا بذكره تعالى، وتمسّكوا بكتابه، وجاهدوا في سبيل الله حق الجهاد، فهبّت عليهم نسائم المحبة والرضوان.
فحقًا قد جعل الله تعالى نعيم وجنة الدنيا في التلذذ بطاعته واجتناب نواهيه، وهذا هو المعنى الحقيقي المقصود لمعرفة الله بطاعته وعبادته الموصلة إلى أعلى درجات المحبة التي بها سلامة واستقامة القلب وطمأنينته والوصول إلى الصراط المستقيم.
آثار محبة الله للعبد
- القبول في الأرض: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:إذا أحب الله العبد نادى جبريل إن الله يُحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض.
- التوفيق للطاعات: إن الله إذا أحب عبدًا وفقه للطاعات واستعمله في الصالحات.
في الحديث: (إذا أحبَّ الله عبدًا استعمله) قالوا: وكيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: (يوفقه لعمل صالح قبل الموت).
- الابتلاء: ويُبتلى العبد على حسب ما وصل من محبة الله. ففي الحديث:أشدُّ الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل. يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة).
- والمراد أن يصل العبد لأعلى مراتب المحبة، فمحبة الله هي الأصل فى الأعمال، فإن الشبهات التي تعتري القلوب أحيانًا تحتاج إلى سلامة القلب لدفعها ومحبة الله هي الطمأنينة في مواجهة حروب وثغرات النفوس.
وتتجلى تبعات محبة الله في هذا الحديث القدسي: قال رسول الله: إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه ” رواه البخاري.
المصادر
- الداء والدواء لابن القيم.
- الأصول الثلاثة – محمد بن عبد الوهاب.
مقال رائع جزاكم الله خيرا وبارك الله فيكم وفي والديكم
كلما طهُرَ القلب رقّ .. فإذا رقَّ راق وإذا راق ذاق .. وإذا ذاق فاق وإذا فاق اشتاق .. وإذا اشتاق اجتهد وإذا اجتهد هبت عليه نسائم الجنة فيفرح بالطاعة ومن ذاق عرف ومن عرف اغترف ومن اغترف نال الشرف اللهم اجعلنا ممن راقوا وذاقوا وفاقوا واشتاقوا واجتهدوا بطاعتك ( ابن القيم الجوزية)
المحبة الخوف الرجاء
هذه اركان العبادة..طبق هذه الاركان على اي عبادة تقوم بها..فسأل نفسك هل قمت بها فقط محبة لله ام لمحبت شيء اخر. كذلك الخوف هل قمت بها خوفا من الله ام خوفا من غيره. كخوفك من السمعه مثلا.كذلك الرجاء هل قمت بهذه العبادة ترجو الثواب من الله فقط ام ترجو شيء من الدنيا مثلا. اذا صفت هذه الاركان الثلاثة لله وحده فان العبادة التي قمت بها تحقق فيها الاخلاص ومن ثم القبول من رب العالمين. يقول الله تعالى ( وما امروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدينا حنفاء ….) فلا يمكن ان تخلص عبادتك لله وحده الا اذا طبقت هذه الاركان الثلاثة وهي محبة الله والخوف من الله والرجاء من الله .
والله اعلم
كثيرون من لا يعرفون الجمع بين الرجاء والخوف . المشكلة إننا ننظر لكل منهما بشكل منفصل , الحل أن تفكر فيهما بتأثيرهما على هدف واحد وهو القرب من الرحمن . أي إنني أعبده رجاء رضاه وكسب معيته وقربه وأخاف من الذنوب والتقصير والهوى من أن تبعدني عنه وعن معيته .
الأمر أشبه بتعامل مع أي إنسان ترجى صحبته وتخشى فراقه , والله الودود الرحيم أولى وعبادته تعني ( إستسلام وطاعة ومحبة ).
الاصل ف العباده الحب والذل ويوازيهما الرجاء والخشيه وما الي ذلك ????
جزاكم الله خيرا وبارك فيكم