الخوف من الله.. هل هو جزع منه أم أُنسٌ به؟
لعلَّ بعض سُوء الفهم قد يعتري القيم الإسلاميَّة في عقول المُسلمين. وهذا السُّوء في فهم المنظومة القيميَّة الإسلاميَّة له العديد من الأسباب؛ لعلَّ أبرزها وأشدَّها تأثيرًا في سياقنا هنا هو إهمال المُسلمين لتعلُّم منظومة القيم هذه، وانصباب هدفهم في المعرفة على أمور العبادات التي يؤدُّونها. غافلين عن هذه المنظومة، مُعتقدين أنَّ مجرَّد سماع كلمات كالخير، أو الصدق، أو الصبر، أو الخوف كافية لتجلية مقصد الإسلام منها. فتأتي على هذه المعرفة الهشَّة بالغةِ الهشاشة أكاذيبُ أهل الضلال الذين نترك لهم أسماعنا ونسمح لهم ببثّ كثير من ضلالات وجهالات لتقابل السطحيَّة المعرفيَّة فتصيبها في مقتل.
ومن هذه الإصابات التي تكثر حديثُ كثيرٍ من المُغرضين المُريدين الشرَّ، وكثير من الجُهَّال الحمقى عن خُلُق الخوف في الإسلام. فنسمع كلمات وأسئلة عن الترهيب من الله، وأنَّ الدُّعاة يُخوِّفون الناس من الإله بدل أنْ يُحبِّبوهم فيه، وكيف يطلبُ إلهٌ أنْ يخاف منه الناس؟!.. علمًا بأنَّ هذه الأسئلة أو الأطروحات وما ماثَلَها مبنيٌّ في الأساس على “انعدام” فهم معنى الخوف في المنظومة الإسلاميَّة، وما يتعلَّق بها.
وإذا جاءتك فرصة لمُطالعة رياض الصالحين ستجد أنَّ الإمام النووي قد أفرد “باب الخوف” لتناول هذا الموضوع. وقبل أنْ نجول جولة في الباب سأفرد حديثًا للخوف ومعناه، وقسمَيْه، وغيرهما. حتى يتسنَّى لنا تكوين بناء أخلاقيّ متين به نعرف أخلاقنا، ونتسلَّح في مُواجهة ضلالات مُزيفة سرعان ما تسقط أمام الحقيقة. ولعلَّ هذه الكلمات الداعية إلى التعرُّف المُتقصِّي للمنظومة الأخلاقيَّة الإسلاميَّة تجد استجابة منك يا عبد الله الصالح.
ما هو الخوف؟
الخوف هو شعور فطريّ في الإنسان ينتُجُ من ترقُّب الشيء السيِّء في نظر الإنسان، أو من جهالة ما هو مُقدِمٌ عليه. أوَّله الحذر، وثانيه التوجُّس، وقد يرقى هذا الشعور في التملُّك من الإنسان حتى يتحوَّل إلى شعور آخر هو الرُّعب أو الفزع. وبالعموم شعور الخوف من أنواع الشعور التي لا تحبُّها النفس البشريَّة؛ حيث يرتبط بشعور آخر هو القلق. وتكون نفس الإنسان في حال الخوف على غير الاستقرار، أيْ تكون مُضطربةً.
وشعور الخوف تكاد بدايته -أو دافعه- تنحصر في حذر الإنسان من فوات نفع عليه، أو حذر لحاق ضرر به. مهما تفاوتتْ درجات هذا النفع أو هذا الضرر. فكلُّها تدفع النفس إلى شعور أوَّله الحذر وله درجات أخرى تعلوه إلى أقصى هذا الشعور. هذا باختصار ما يمكن أنْ أعرِّف به الخوف عمومًا.
الخوف شعور طبيعيّ فطريّ نابع من النفس
الخوف فطريّ في النفس البشريَّة؛ بل هو طور من أطوار النفس لا تخلو نفسٌ من الاضطرار إلى شعوره كلَّ حين، مهما حاطتْ بها وسائل الطُمأنينة. فمَنْ يمتلك السلطان يدعوه سلطانه إلى الاطمئنان به ويدعوه أيضًا أنْ يخاف على زواله، ومَن يمتلك المال مُطمئنٌّ بماله وخائف عليه في الوقت نفسه، وصاحب كلِّ نفيسٍ يخاف عليه فيكون الشيء النفيس الذي رجا منه الطُمأنينة هو مَبعَث الخوف في نفسه.
وإذا سألنا: لماذا الخوف شيء فطريّ طبيعيّ في الإنسان؟ ولِمَ كلُّ نفس تخاف؛ أيْ تبذل شعور الخوف تجاه شيء أو جهة؟ سيكون الجواب واضحًا كلَّ الوضوح لأنَّ الإنسان خلقٌ ضعيفٌ ناقصٌ. والناقص دومًا يدخله الخوفُ وكلُّ شعور؛ فعنصر “النقص” هو الذي يجعل الإنسان مَحلاً للشعور أصلاً. ونقص الإنسان ليس “عيبًا” فيه، بل هي خِلقة الله التي أخبرنا أنَّه برأها قصدًا ومَحلَّ حِكمة منه -ولعلَّ الفرصة تأتي لعقد حديث منفصل عن حكمة النقص في الإنسان-. لكنَّ الأهمَّ هنا هو أنْ نعرف أنَّ الخطأ الأكبر في فهم شعور الخوف هو أنَّك صنَّفتَه عن عدم تعمُّق وكأنَّه شيء غريب عن نفسك لا تعرفه، وبهذا رأيته عنصرًا سلبيًّا.
نوعا استقبال النفس للخوف
وإذا وصلنا إلى هذه النقطة فيجب توضيح أنَّ شعور الخوف في تأمُّله يفضي بنا إلى نوعَيْن في استقباله:
- خوف مُلجِم سلبيّ: وهي حالة يدخل الخوف فيها على نفس الإنسان، فيُقرِّر الإنسان القعود عن العمل تُجاه ما يخافه. وهو هُنا خوف مُلجِم أيْ يحيط النفس التي اختارت أنْ تسلكه بلجام يتحكَّم به فيها. وهذا الخوف نراه اعتياديًّا في الامتحانات مثلاً، فترتعد يد المُمتَحَن وتكفُّ عن العمل. لأنَّه ترك نفسه تسترسل مع شعور الخوف إلى حدّ الهلع والفزع. وكلاهُما من أقصى درجات الخوف.
- خوف دافعيّ: وهو الأصل في شعور الخوف؛ حيث خوف الإنسان من أيّ شيء هو دافع غريزيّ للعمل والتحرُّك. فخوف الإنسان من المرض -مثلاً- هو الدافع لدراسته والاهتمام به لصناعة الدواء وهكذا. وهذا الخوف الدافعيّ هو اختيار من الإنسان أيضًا؛ حيث اختار التحرُّك تجاه هذا النفع أو الضرر الذي هو مَنشأ كلِّ خوف كما قلنا.
فكرة الخوف في الإسلام
وهنا نأتي لجوهر الخوف في الإسلام؛ حيث الخوف في الإسلام مربوط بحقيقة الإيمان بالله. وعلى أساس هذا الإيمان بالله يُنظر للخوف؛ حيث نجد الله في كتابه يفرِّق بين أمور لا تستحقُّ أنْ يخافها مَن يؤمن به، وبين أمور تستحقُّ خوف المؤمن. ويُطالب الله المُؤمنين به ببذل شعور الخوف تُجاه مَن يستحقّ فقط، وألا يخافوا من الدنيا وأهوالها التي تظهر أمامهم.
بل إنَّه يجعل عدم الخوف من الدنيا علامةً على صدق الإيمان بالله (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) -الأنعام 48-، والآية الكريمة (فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) -الأعراف 35-، والآية الكريمة (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) -يونس 62-. هذا هو التنظير؛ فلنأتِ إلى معرفة الأدلَّة عليه، ومزيد شرح له.
الخوف في القرآن الكريم
لنْ يختلف الخوف في القرآن الكريم عن الذي عرفتَ سابقًا. فانظر -باختصار بالغ واقتصار- إلى معنى الحذر الذي أورده الإمام في أوَّل الباب: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) -آل عمران 28-، وهذا التوجُّس: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ) -طه 67-، وهذا من المستوى الأعلى وهو الرعب -آل عمران 151-:
(سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا).
أمَّا عن الخوف من حيث هو اختبار وعلامة إيمان فيكون على جهَتَيْن:
- خوف من أمور لا يجب الخوف منها، بل هو خوف مُستَهجَن. وهو الخوف من العباد ومن تصاريف الزمن. وذلك بدليل قوله -تعالى- (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ) -المائدة 54- فكما نرى؛ في الآية ذمٌّ للذي يخاف لومة اللائم بغير الحقّ، وهذا خوف مذموم. وقوله (يَا مُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ) -القصص 31- ففيها النهي عن الخوف من المخلوق، وتدلُّ أيضًا على فطريَّة الخوف، وأنَّه لا إشكال في أنْ يدخل الخوف في قلبك ابتداءً، الأهمّ ماذا تفعل عندما يدخل هل تلجأ إلى الله أمْ لا؟
- خوف لجهة تستحقّ. والجهة الوحيدة التي تستحقّ الخوف هي الله ووَعدُهُ ووَعِيدُهُ. يقول الله في تأسيس هذا: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) -البقرة 40-، ولا شكَّ أنَّ البلاغة تُخبرنا أنَّ التقديم والتأخير في الآية لغرض “الحَصْر”. فقد حصر الله شعور الخوف والرهبة له وحده. واعتبر هذا كمال إيمان العبد به؛ فمتى آمَنَ العبد بأنَّ الله وحده هو القادر فكيف سيخاف من غيره؟!
ووَعدُ الله هو أنْ يأتي بالناس يوم القيامة لحسابهم؛ لذلك وصف الله المؤمنين الأتقياء بالخوف من وعد الله بقيامة الناس للحساب (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) -النور 37- .
ووعيد الله هو عذاب يوم القيامة ونرى الله يصف المؤمنين بالخوف منه (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ) -الرعد 21-، بل نراه يُسبِّبُ دخول النار وعذاب أناس بأنَّهم لا يخافون وعيده فيقول (كَلَّا بَل لَّا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ) -المُدثِّر 53-.
الخوف من الله هل هو جزع منه أمْ أُنسٌ به؟
على السابقِ نفهم “الخوف في الإسلام”. لكنَّنا هنا سنحاول أنْ نفهم معنى “الخوف من الله نفسه” وحقيقته، فهل هو جزع وهلَع كما توحي كلمة الخوف؟ بالقطع لا، فلا يخاف اللهَ على هذه الشاكلة إلا غيرُ المُؤمن به. أمَّا المؤمن به المُحافظ على أوامره فلِمَ يجزع أو يهلع؟!
إذنْ لماذا وصف الله المؤمنين به بالخوف منه؟
- لأنَّ الخوف من الله -كما سبق- هو علامة الإيمان وكماله، وتصديق قولك “آمنتُ بالله”. فعندما تؤمن بالله حقًّا سيهون عليك أمر الدنيا وما فيها، وترى أنَّ المُستحقّ بالاعتبار وحده -وركِّز هنا على أنَّ الخوف مُتعلِّق بالتوحيد كعقيدة- هو الله لا غيره.
- الخوف في التصوُّر الإيمانيّ عند العبد الصالح يكون من مُجانبة الله له. وأنتَ يا عبد الله الصالح المُنفِّذ لأوامره تكون خائفًا من أنْ يُجانبك الله من فعل معصية تفعله أو ذنب ساعة ترتكبه. فيُجانبك الله وتنفصل عن معيَّته الحافظة لك.
- الخوف في التصوُّر الإيمانيّ دفعٌ على العبادة وحثٌّ عليها، وحمايةٌ من الخطايا والذنوب. فليس العبد الصالح إلا إنسانًا يخطئ ويزل ويقع. فتأتي قيمة الخوف من الله كي تشحذ كلّ هممه متى خمدت. ولا إشكال أبدًا في خُمُودها لوهلة فهكذا هو الإنسان، الأهمُّ أنْ يرى الله إقبالك عليه بخوف ورغبة. يقول الله -تعالى- (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) -النحل 50-، فتراه سبَّب تنفيذ أوامره بالخوف.
- والخوف من الله دفعٌ في الوقت نفسه لعدم خوف غيره الذي لا يستحقُّ. يقول الله في هذا عن الإنسان منذ بدء نزوله على الأرض -البقرة 38-:
(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ).
- والخوف من الله التحاق برحمته؛ حيث من رحمته أنْ أنزل إليك الهدى والنور، وحذَّرك مُخبرًا بما سيحدث في الحياة وبعد المَمات. وخوفُك من تحذيره واعتبارُك لتوجيهه دخولٌ في رحمته والتحاق بها.
- والخوف من الله إصلاح للمُجتمع أيضًا لا للفرد فقط. فهذا المُجتمع الذي نواته الإنسان فإذا صلح صلح وإذا فسد فسد.
فهكذا نرى حقيقة الخوف من الله ووعده ووعيده، فهو أُنس بالله في هذه الدنيا، ونور من الله في الآخرة .. وإلى هذا فاعمل يا عبد الله الصالح. وإذا أردتَ أنْ تعرف بدقة ماذا تخاف في دنياك فهيَّا نتعرَّف عليه.
ماذا يخاف الإنسان في الإسلام؟
وبِناءً على ما عرفنا من أنَّ الخوف أحد الدوافع للنفس البشريَّة، وأنَّ الخوف شعور فطريّ، وأنَّ الخوف ينشأ من فوات نفع على الإنسان أو لحاق ضرر به؛ نسأل: ما الذي يجب أنْ يخاف عليه المُسلم في إسلامه؟ .. المسلم هو الشخص المؤمن بالله الواحد الأحد المُنفذ لشريعة الله التي أمره بها. وبذلك الترتيب ندرك ما الذي يخافه المسلم في حياته، أو ما هو الشيء الذي يجب على المسلم أنْ يخافه في حياته:
- فوات عُمره دون استغلال أمثل له في عبادة الله؛ فهذا الوقت الذي منحَك الله لتتعلَّم وتأكل وتشرب وتتملَّك وتروح وتجيء هو محلّ نفعك، وبالتالي -حسب رؤية الإسلام- يجب أنْ تخاف من أنْ يضيع عليك دون أنْ تنفقه في طاعة الله وعبادته. ولعلَّنا هنا نعرف كم كان الإمام النووي نبيهًا فطنًا عندما أدرج هذا الحديث في باب الخوف. يقول رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-:
لا تزول قدما عبد حتى يُسأل عن عُمرِهِ فيِمَ أفناه، وعن عِلمِهِ فيْمَ فعل فيه، وعن مالِهِ من أين اكتسبه وفيْمَ أنفقه، وعن جسمه فيْمَ أبلاه.
والحديث يتعلَّق بيوم الحساب وسؤال الناس عن تلك الفُرَص التي أعطاها الله لهم، وهذه المنافع التي وهبها لهم. فهذا يا عبد الله ما تخاف على فواته فاعمل لذلك، وكلُّ هذا داخل في إطار الخوف من الله نفسه.
- من الضرر الذي يصيبه. وهنا نقف لنسأل: هل ضرر الدنيا نقصد؟ الإسلام يجيبك أنْ ليس ضرر الدنيا هو المقصود، بل ضرر الآخرة. لسبب وجيه منطقيّ أنَّ الدنيا هي دار الاختبار، ومن أدوات هذا الاختبار ما يصيبك فيها من ضرر -كي تُختَبَر به كيف ستصنع-، فالضرر الدنيويّ وسيلة لا غاية.
يقول الله فيه (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) -البقرة 155-. أمَّا الضرر الحقيقيّ فهو موعود الله المُحقَّق بعذابه للقوم الكافرين أو أصحاب الكبائر غير التائبين عنها، أو تاركي عُمَد العبادات -مثل وعد الله للذين يسهون عن الصلاة بالويل-. فهذه كلُّها من الأضرار التي يجب على كلّ مُسلم أنْ يخشى لحاقها به، فهي أضرار محتومة -فقد توعَّد الله بها-، وهي أضرار حقيقيَّة -أيْ ليست مصنوعة للاختبار كما التي في الدنيا-. تقول الآية الكريمة (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) -الزُّمر 13-.
وبذلك ترى أيُّها العبد الصالح أنَّ أخلاق الإسلام كليَّةً مُنضبطة مُتَّسِقة مع العقل السليم الراجح، يشير إليها ويعضِّدها كلُّ تفكير سليم هادئ.
يقول المُشكك أنَّكم تعبدون ربَّكم خوفًا!
ويقول مُشكِّك لك -في صورة تلقاها على وسائل التواصل، أو على التلفاز في برنامج -وقد صار للمُشكِّكين برامج ثابتة المواعيد-، أو في غيرها-: أنَّ “دينك” -يقول هذا وهو يدَّعي الإسلام- يجعلك تعبد الله لأنَّك خائف منه، وراغب في جنته وحسب.
وها قد رأينا فيما مضى رؤية الإسلام للخوف؛ فهيَّا نعرِّف هذا المُخرِّف رؤية الخوف وفكرة “الترهيب والترغيب” بالتصور الخالص غير المرتبط بالرؤية الإيمانيَّة. ليعرف أنَّه قانون خالق الكون شاء أم أبى. في النقاط الآتية:
- كما قلنا سابقًا الخوف شعور فطريّ طبيعيّ، وهو بذلك ليس إلا تفاعُلاً نفسيًّا كالحُبّ والانبهار والإعجاب والقلق والاختناق.
- فكرة “الترهيب والترغيب” هي المنظومة الوحيدة في التعامُل مع الإنسان. فالإنسان باستعداده الفطريّ لا يتحرَّك إلا لحاجة من نفع أو ضرر -كما عرفنا في فكرة الخوف الدافعيّ الأصيل-، وبذلك فإنَّ منظومة “الترهيب والترغيب” هي أمثل منظومة له. فهي التي تستثير استجابته -كي يفعل-، وهي نفسها التي تؤدي الدور الجزائيّ -بعد الفعل-.
- مثال واضح للغاية: هو القوانين كلُّها فقد بُنيتْ على الفكرة. فالقانون منظومة حُكم وتسيير تعتمد على فكرة “الترهيب والترغيب”؛ الترهيب من العقوبة الجزائيَّة التي تلحق بك حال مُخالفة القوانين، والترغيب هو كونك مُواطنًا صالحًا مُنفِّذًا لحُكم القانون فيك؛ وبذلك يتمُّ التعامُل معك بصورة كريمة تليق بفعلك.
وكذلك القياس تمامًا في الحالة الأبويَّة فالابن يخاف الأب من ناحية، ومن أخرى يرغب في أنْ يكون ابنًا بارًّا وبذلك يكون أهلاً لإكرام أبيه.
- مثال آخر غائم: هذا المُشكِّك مثلاً الذي أسمَعَنا حُجَّته الألمعيَّة هذه، وهو يردِّدها ويمثِّل عليك أنَّه “حرّ” وأنَّه لا يخضع للرهبة من أحد. هو كاذب؛ فهو أيضًا يخضع للترغيب في أنْ يستميلك إلى ما يقول من جانب، وبذلك يكون ناجحًا في عمله، وبذلك يكون مُرضيًا لصاحب التمويل الذي يوفِّر له فرصة الظهور. وهو أيضًا يخضع للترهيب فيخشى خسارة ما ينتج من إفك، وبوار سلعته من جهة، ويخشى مُعارضة ما جاء به فيخسر جُمهوره المُتفقين معه في الرأي. وهي نفسها فكرة المُمثِّل على المسرح الذي يرغب أنْ يجذب انتباه جمهوره بكُلّ أفعاله ويؤثِّر فيهم، ويرهب من أنْ يخسر هذا الانتباه أو ألا يكون مُؤثِّرًا فيهم.
- مثال أشدّ غيامًا: الإخوة العائشون سويًّا مثلاً -أقصد هنا تساوي الأطراف دون تفاوت- في بيتهم يُقرُّون نظامًا. هذا البيت تحكمه فكرة “الترهيب والترغيب”؛ فكلُّ أخ يخشى أنْ يُثير حفيظة الآخر بفعله، وكلُّهم يرغبون في أنْ يعمَّ حياتهم السلام. وهو نوع من الترهيب والترغيب المعنويّ.
- ولا بُدَّ هنا من أنْ نتذكَّر أنَّ مَحبة المَحمَدة -أيْ أنْ يصيب الإنسانَ مدحُ الناس وحمدُهم، ومحبَّتُهم-، وكراهة المَذمَّة -أيْ أنْ يلحقَ بالإنسان ذمٌّ من غيره واستسخافٌ وكراهيةٌ- فطرتانِ في الإنسان، بل من أكبر دوافعه. وهُنا نعرف أنَّ “الترغيب والترهيب” الأسلوب المُنطبق على طبيعة السلوك الإنسانيّ، وليس “أحد الأساليب” في التعامُل مع هذه الطبيعة.
وهكذا نستخلص أنَّ فكرة “الترهيب والترغيب” فكرة أصيلة ترتبط بالإنسان ابتداءً وانتهاءً، فهي لا ترتبط بالدين الذي يعتنقه الإنسان، بل لو ذهبت تتقصَّى كلّ وجه للإنسان لوجدت هذا القانون حاكمًا. لأنَّ “الترهيب والترغيب” يرتبط بوجود نظام، وكلُّ الدنيا لها نظام -حتى لو بدت لك من دون نظام-.
لكنَّك يا صاحب التشكيك تبذل خوفك لمَن لا يستحقّ، ورغبتك لمَن لا يستحقّ. أمَّا الإسلام فيُحرِّر الإنسان حقًّا جاعلاً خوفَه ورَغَبَه وولاءَه لله ربّ العالمين.