هل باتت أمريكا بأمس الحاجة للصحوة الدينية للوقوف أمام الليبرالية الملحدة؟
روبرت بريدج
ترجمة/ ربى الخليل
تحرير/ عبد المنعم أديب
هذا المقال ترجمة كاملة لمقال: Does America need a religious revival to offset its godless liberalism لكاتبه: Robert Bridge في موقع: rt.com. الآراء الواردة أدناه تعبّر عن كاتب المقال الأصلي ولا تعبّر بالضرورة عن تبيان.
في ظل هيمنة نهج التلويح بفضيلة الليبرالية المتطرفة على حساب الفضيلة الحقيقية؛ بدأت جذوة الإيمان في الولايات المتحدة الأمريكية تخبو.
نحّى[1] الشعب الأمريكي جانبًا عقيدته الدينية التقليدية، متأثرًا بعقيدة ضالة مفادها أن التلويح بالفضيلة والمداراة السياسية؛ أو ما يُعرف بالصوابيَّة السياسيَّة ما هو إلا سياق منفصل تمامًا عن الأخلاق. مما حدا به للمسارعة إلى الارتماء في حضن الكنيسة الليبرالية ومعتقداتها فائقة الغرابة.
ولتكن السماء عونًا لكل مُلحد وَثَنيّ لا يركع أمام طاغوت “مجتمع المِيْم” (يُشار إليهم بـ [LGBTQ+ [2). وإن تجرأت وغفلت عيناك عن رؤية الأرصفة وأعمدة الإنارة المتشحة بملصقات قوس قزح، وغزوها لصفحات وسائط التواصل الاجتماعي، فلتعلمْ أن أمريكا تعيش أسبوعها الثاني[3] من شهر “فخر المثليين”.
أما إن سوَّلتْ لك نفسُك أن تكون من “المُبغِضِين”، وتعلي الصوت نفورًا منهم؛ ستُساق في وَضَح النهار مجبرًا على تقديم المبررات للغوغائيين حَمَلَة الشعلة؛ الذين لم يطأ الغفران بابهم يومًا! وخير دليل على ذلك ما حصل للاعبي فريق “تامبا باي رايز” في الدوري الأمريكي لكرة السلة للمحترفين، حينما رفضوا بكل تهذيب أن يتشح زيُّهم الرياضي بشعار “مجتمع الميم” في احتفالات “ليلة فخر المثليين”.
وهو ما حثَّ صحيفة “ذا تاميا باي تايمز” لإعداد مقال ذكرت فيه أسماء لاعبي الفريق -وهم الذين يتقاضون الأموال للعب الكرة، لا لنصرة كل اتجاه اجتماعي- على أثر إحجامهم عن إلصاق شعار المثليين على زيهم الرياضي، واكتفائهم بارتداء زيهم الرياضي التقليدي في مباراة 4 يونيو/ حزيران المقامة على أرضهم. وهم: جيسون آدام، جالين بيكس، بروكس رالي، جيفري سبرينغز، ورايان تومبسون. وأمام حفنة من المراسلين، توجَّب على هؤلاء الرياضيين المتمردين توضيح أسباب سلوكهم الشاذ على هيئة اعتذار مَصُوغ بعناية بالغة، معربين فيه أنه قرار يرتكز على خلفية دينية.
ومع اتقاد نار جهنم، بعد أن سوَّلت لهم أنفسهم ردع دعاة الفضيلة[4]، كان حَريًّا متابعة ما ستؤول إليه هذه الرواية.
إنْ اعتقدت أن مسرحية الجنون الصيفي قد أسدلت ستارها هنا؛ فأنت لا تولي الاهتمام اللازم. فقد استلَّتْ الغالبية العظمى من الشركات سيوفها -بدءًا من شركة ناسكار المعنية حصرًا بسباق السيارات والسيارات السريعة وأمور السلامة، كما يجب أن يكون الحال، وصولًا إلى الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) ومقره في سويسرا-؛ وخاضت معركة شرسة، جنبًا إلى جنب مع غوغائيي العدالة الاجتماعية، واضعين نصب أعينهم استنهاض بيئة أكثر شمولية.
ومع ذلك، يجدر بي التنويه بسؤال: متى أُغلقت أبواب أي فعالية رياضية في وجه شخص ما بسبب ميوله الجنسية؟ سأجازف بالإجابة وأقول: “مطلقًا”.
أيها القارئ، اربط الأحزمة فالرحلة بدأت للتو.
إذا سألتك عن هوية المؤسسة الأمريكية التي تأبى بالمطلق أن تركع أمام مذبح “التعددية” الجنسية، بماذا ستجيب؟ إن كان جوابك متمثلاً بسلاح البحرية الأمريكية، فعليك أن تستهل مقعدًا وتنصت بالأخص إن كنت من المحاربين القدامى المخضرمين الذين كان لهم باع طويل في المعارك الخارجية. فقد أماط القادة الأشاوس غزاة الشواطئ اللثام عن ألوانهم الحقيقية، ويعزّ عليَّ إعلامُك أن اللون العسكري الزيتي كان بعيدًا كل البعد عنها.
صرح سلاح البحرية الأمريكية عبر حسابه الرسمي على موقع التويتر بالقول: “على مدار شهر يونيو/ حزيران، أعرب سلاح البحرية الأمريكية عن تقديره وفخره بمساهمات الجنود البحارة من مجتمع الميم. ونلتزم برعاية بيئة تخلو من العنصرية والتمييز، مع الدفاع عن القيم المتمثلة بالمساواة في المعاملة بين الجميع في جو من الاحترام والكرامة”. وذيَّلَ التغريدة بوسم #شهر_فخر_المثليين ووسم #سلاح_البحرية_الأمريكية، وصورة خوذة مزينة برصاص بألوان قوس قزح، الرصاص ذاته الذي يقتل الناس.
إلا أن هذا لا يغدو عن كونه نقطة في بحر ما حدث في دالاس بولاية تكساس -موطن رجل الكاوبوي المُبعد-، إبّان الاحتفالات بمجتمع الدراغ كوين أو الرجال الذين يرتدون الملابس النسائية ويتشبَّهون بهن، في أحياء هي مرتع لأتباع مجتمع الميم؛ حيث استضاف نادٍ يرتاده ذوو الميول الجنسية الشاذة حفلاً تحت اسم “أحضروا الأطفال لاحتفالات فخر المثليين”. ومما يدعو للصدمة إقدام بعض الأهالي على تلبية النداء، وهو ما دفع زميلي إيان مايلز تشيونغ إلى وصف المشهد بالقول المحق إن إقحام الأطفال في عروض بذيئة كهذه لهو انحراف محض، وبعيد كل البعد عن الفخر.
وغنيٌّ عن البيان أن وقع “الصدمة الثقافية” يكون في أوجه عندما تعصف ببلادك. فأنا لم أعد أعي مكان مولدي، أسوة بعدد متنامٍ من الأمريكيين في خضم سنوات قليلة نأت أمريكا فيها عن كينونتها؛ كأمة صالحة تهاب الله مرتكزة إلى مبادئ مسيحية راسخة ومتينة، وغدت أقرب ما يكون إلى سدوم وعمورة[5] العصر الحديث.
متى خرجت الأمور عن مسارها الصحيح، والأهم من كل هذا، لماذا سمحنا لها أن تؤول إلى هذا؟
إذا ما تبحرنا في الماضي وعدنا بالذاكرة إلى فترة نشأتي ضمن الطبقة الوسطى خلال فترة السبعينات، كانت الحياة آنذاك طبيعية تمامًا؛ بل على الأرجح كانت مثالية بالحكم على طبيعة سير الأمور وقتئذ رغم التدهور الصناعي الحتمي الذي عصف بمدينة بتسبرغ بولاية بنسلفانيا -وهي مسقط رأسي على غرار الكثير من مناطق ما يعرف باسم “حزام الصدأ”-؛ إلا أن هذا لم يحل دون تشبث الناس بمبادئهم اليهودية المسيحية، والمضي قدمًا دون أن يُمس النسيج الأخلاقي الكلي بأي سوء.
كان الحي الذي نشأت فيه عارمًا بأتباع الطائفة الكاثوليكية. وارتياد الكنيسة مرة كل أسبوع عندها لم يكن حدثًا استثنائيًّا للغالبية بقدر ما كان عُرفًا. وللمفارقة تجلَّى لدي بوضوح تام البعد الديني عبر مباريات كرة السلة التي كانت تنظمها الكنائس المحلية خلال عطلة نهاية الأسبوع. على سبيل المثال كانت كنيستنا تواظب على إرسال فريقها لكرة السلة للناشئين على متن حافلات لمواجهة فرق أخرى تابعة للمدارس الكاثوليكية في أرجاء المنطقة. وكانت هذه المباريات تستقطب المئات من المتعبدين في المنطقة وكل أعضاء الأبرشيات الدينية في كل أرجاء المنطقة.
واليوم باتت مثل هذه المباريات في كرة السلة ناهيك عن عشرات المدارس الكاثوليكية التي كانت تستضيفها في غياهب النسيان. ويعزى ذلك إلى أن ارتياد الكنيسة في كل البلاد بدأ يتضاءل؛ مما حدا بعديد المدارس الكاثوليكية -ومنها مدرستي- لأن تغلق أبوابها منذ سنوات خلت. والمصير نفسه ينتظر المذاهب الدينية الأخرى.
في عام 2019، أجرت مؤسسة غالوب استفتاء أفضى إلى أن نسبة عضوية الكنيسة قد بلغت بين عامي 1937 و1976 في الولايات المتحدة الأمريكية 70% فيما فوق؛ فيما تراجعت النسبة قليلًا إلى عتبة 68% في فترة السبعينات وحتى التسعينات. فيما شهدت النسبة على مدار السنوات العشرين الماضية انحدارًا حادًّا في الانتماء الديني؛ حيث اقتصرت النسبة على 50% فقط من الأمريكيين ممن يرتادون كنيسة أو مسجدًا أو كنيسًا يهوديًّا.
لا يسعني الجزم ما إذا كانت العقلية الليبرالية المتطرفة الملحدة التي أطبقت على خناق البلاد هي نفسها التي أوصلت أمريكا لحالتها الراهنة. لكن من الجليّ تمامًا أن انحسار العقيدة الدينية يشكل عاملًا فاصلًا. وإنْ أضفت إليها الفراغ الروحي، والمذهب المادي الجارف، ورسائل العنف التي تنفثها هوليوود -والبعيدة كل البعد عن الأخلاق-؛ تحصل على وصفة كاملة لكارثة تحدق بالبلاد.
وثمة ارتباك وقع فيه الأمريكيون خلال سعيهم للاستعاضة عن المؤسسة الرُّوحية في حياتهم. وذلك عند خلطهم ما بين نهج التلويح بالفضيلة والمداراة السياسية مع السلوك الأخلاقي الحقيقي، والذي غالبًا ما يكون متجذرًا دينيًا.
وحتى نستشرف نقاط الاختلاف ما بينهما؛ يسعنا القول إن مَن ينهج التلويح بالفضيلة هو ذاك الشخص الذي يتصدر المقاعد الأمامية في الكنيسة كل يوم أحَد، ليثبت للجميع مدى ورعه، مع العلم أنه -في اعتقادي- أمثالُه هُم أكثر القوم نأيًا عن الرضا الإلهي. فالإنسان الصالح هو من يقارب سلوكه سلوك السامري الطيب[6] الذي يفيض قلبه بأفعال الخير دون أن ينتظر مجدًا أو عطايا دنيوية.
لقد قدمت المؤسسة الدينية للكنيسة -بكافة مذاهبها- للمجتمع عمومًا أساسًا أخلاقيًّا متينًا بغض النظر عن بعض الهفوات والأخطاء المعروفة. إلا أن هذا الأساس في وقتنا الراهن يتداعى، ويتجلى ذلك في كل زاوية وكل شارع وكل مدينة؛ في الوقت الذي تنتشر كالنار في الهشيم بذور الانحلال الاجتماعي وتخرج عن السيطرة، وتتحول هذه النباتات الطفيلية إلى أشجار ضخمة تؤذن بنهاية الحضارة الغربية. نداء إلى أمريكا، لقد أزف الوقت لصحوة دينية؛ بلدُنا العظيم بأمسِّ الحاجة إليها من أجل تقويض تجاوزات الليبرالية.
المصادر
- سيلحظ القارئ الكريم أن الكاتب يتبع أسلوب السخربة والاستهزاء من حالة السعار الجنونية التي تلبَّست أمريكا والعالم الغربي في مناصرة تلك الاتجاهات الشاذة، وسخريتهم من الدين والأخلاق؛ لذا بعض المعلومات يوردها على هذا النحو، لا على محمل الجدية. (المُحرر)
- يرمز إلى المِثليَّة، والمثليين، ومُزدوجي الميل الجنسي، ومغايري الهوية الجنسية وغيرهم. (المترجمة)
- نشر هذا المقال في السادس من يونيو 2022. (المُحرر)
- هنا من مواطن السخرية من الكاتب على هذه الاتجاهات. (المُحرر)
- قرى جاء ذكرها في الكتاب المقدس، كان أهلها يرتكبون الفواحش. (المُحرر)
- أحد الأمثلة الجيدة التي ضربت في الإنجيل. (المُحرر)