اختيارات المحرر

بين فتية الكهف وفتية النفق.. ما أشبه اليوم بالبارحة!

الصراع بين الحق والباطل طويل بطول تاريخ البشرية كلها، يتغير الزمان والمكان لكن الصراع يبقى قائمًا حتى وإن اختلفت الوسائل، فمُنذ قَتل ابن آدم أخاه إلى يومنا هذا لم تتوقف مشاهد هذا الصراع.

في محطة من تلك المحطات الفارقة في تاريخ البشر قديمًا كانت قصة أصحاب الكهف التي حكى القرآن الكريم تفاصيلها في سورة سمّيت باسمهم (الكهف)، أولئك النفر الذين خرجوا من ديارهم فارِّين بدينهم حتى قضى الله فيهم أمرًا كان مفعولًا.

وحديثًا، وفي أيامنا هذه، يُحاصَر مجموعة من شباب غزة المقاومين في أنفاق رفح، وهم يذودون عن حياض وطنهم ويدافعون عن مقدسات الأمة بأكملها.

فما وجه التشابه بين فتية الكهف وفتية النفق؟

أصحاب الكهف والنفق كانوا فتية

كهف

يخبرنا القرآن أن أولئك النفر الذين فرُّوا بدينهم فآواهم الله في الكهف كانوا فتية، قال الله تعالى عنهم: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: ١٣] وكلمة “الفتى” في اللغة العربية تطلق على من هم في سِن الشباب، وهذا يرمز إلى صِغر سِنّهم مع قوة إيمانهم، وصلابة عقيدتهم.

وفي غزة اليوم، وبالتحديد في أنفاق رفح، يُحاصَر مجموعة من الفتية أيضًا تحت الأرض، في ظروف مستعصية مستحيلة، وإن شئت فقُل غير آدمية على الإطلاق، وزِد على ذلك انقطاع أخبار العالم الخارجي عنهم، فما علموا بقرار وقف إطلاق النار، وما استطاعت قيادتهم أن تعلمهم من ذلك شيئا؛ ومع ذلك لم يستسلموا، ورفضوا رفع الراية البيضاء أمام عدوهم المتغطرس، ولسان حالهم يقول كما قال أسد الصحراء من قبل: نحن لا نستسلم؛ ننتصر أو نموت!

حين تضيق الأرض بأصحاب العقيدة تتسع الأنفاق

حين ضاقت الأرض بالفتية، وحاوطهم الظلم من كل جانب، ولم يجدوا بُدًّا من الخروج والاختباء لجأوا إلى الكهف يحتمون به، فآواهم الله فيه، وكفَّ عنهم أعين الظالمين.

وحين ضاقت الأرض على شباب غزة وأبطالها، وتخلى عنهم القريب قبل البعيد، وحاوطهم اليهود من كل جانب اتجهوا إلى باطن الأرض يحتمون به، فحفروا الأنفاق بأيديهم، وبإمكانيات بسيطة وأدوات محدودة، ودبابات العدو وطائراته من بين أيديهم ومن خلفهم ومن فوقهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ومع ذلك ما استطاعوا كشف أمرهم ولا رصد أماكنهم!

حين تضيق الأرض بأصحاب العقيدة تتسع الأنفاق

وسيكتب التاريخ -يومًا ما- عن تلك الأنفاق ملاحم طويلة في صفحات ناصعة، وبمداد من نور،  وحروف تقطر عزة وكرامة وعزيمة وإباء، وستكون فصلًا بطوليًا هائلًا في تاريخ المقاومة الأبية يُدرَّس للأجيال القادمة.

العون والتأييد من الله 

قال الله تعالى في فتية الكهف: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الكهف: ١٤]، ربط الله على قلوبهم وقوّاها فاحتملوا الغربة عن الأهل والوطن، وجفاء العيش في الكهف، واضطهاد الكافرين والناس أجمع لهم، ولولا هذا الربط والعون من الله ما استطاعوا، فمن خلال تمسكهم بدينهم وعقيدتهم، واستجابتهم لأمر ربهم، ولجوئهم إليه حقق لهم ما وعدهم به في قوله تعالى: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} [الكهف: ١٦].

وفي فتية النفق يبدو ذلك جليًّا لكل ذي عقل، فتأييد الله لأوليائه، وإمدادهم بالماء والغذاء لشهور طويلة، وصمودهم في ظروف قاسية لا يتحملها غيرهم= كل هذا دليل على معيّة الله لهم، وربطه على قلوبهم، ونشر رحمته لهم.

الفرق بين فتية النفق وشباب العصر

إن المرء لينظر إلى هؤلاء الفتية الأعزاء نظرة فخر وألم:

فأما الفخر فلأنه ما زال في الأمة الإسلامية أمثال هؤلاء الرجال الذين يحملون همّ أمتهم على أكتافهم، ويضحّون في سبيلها بأرواحهم، ويبذلون لتحقيق رفعتها نفوسهم، لم تُلههم دنيا زائلة، ولم تشغلهم ملذات فانية، رضوا من الدنيا بالقليل، وقلوبهم معلقة هناك، في الآخرة؛ حيث أيقنوا عين اليقين أن مقام الشهادة يستحق العناء والتضحية.

أبطال النفق

وأما الألم فلأنه ما زال في الأمة الكثير من الشباب في دنياهم لاهون، وفي شهواتهم متقلبون، كل همّهم فتاة فاتنة، أو صحبة ماجنة، أو سهرة صاخبة، أو شهوة طاغية، لا يعلمون عن دينهم إلا القليل، ولا خطر على أذهانهم معنى الولاء والبراء، فضلًا عن العمل للدين والتضحية في سبيل إعلاء رايته!

الخاتمة: الأمل في الأمة لا ينقطع 

ومع كل هذا، فالأمل قادم بإذن الله، والأمة الإسلامية على وشك الخروج من عنق الزجاجة؛ فأحلك ساعات الليل ظلمة هي التي تسبق بزوغ الفجر، وما هذه الابتلاءات المتتابعة على الأمة إلا لتمييز الصفوف، {لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلۡخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ} [الأنفال: ٣٧]، فإن لم تجد لنفسك مكانًا في نفق يخدم الأمة فلا تكن خنجرًا في ظهرها، واعمل على تزكية نفسك وإصلاحها حتى تجد لنفسك ثغرًا يناسب جهدك، ويقضي الله في الأمة أمرًا كان مفعولًا.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى