سُنَّة التمحيص.. عندما تكشف الشدائد صدق الإيمان وحقيقة الثبات!
بعد ساعات من التعذيب والتنكيل، ذاق فيها خبّاب الأمرّين، اقتَنَعَت أخيرًا أم أنمار أن تتركه بعض الوقت لكي تبقى فيه بقيّة من حياة، خرج خبّاب يبحث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما زال ظهره الذي اكتوى بالجمر الملتهب يؤلمه أشدّ الألم، وصل إلى الكعبة وجعل يدير بصره يمنة ويسرة وكأنه يبحث عن بَلسمٍ يُنسيه الألم الذي ما يزال يخترق الجلد إلى الأحشاء، فجأة يجد بُغيته فتتسارع الخطوات، ويدنو من قرة عينه صلوات ربي وسلامه عليه، لم يكن خبّابًا بحاجة لأن يشرح لحبيبه ما الذي قد حلَّ ونزل به، فالهيئة والحال يُغنيان عن البيان، ولكن توجه إلى ما بعد ذلك مباشرة: ((يا رسول الله، ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟))
فإذا بالجواب يأتي صادمًا وبغير ما كان يتوقّعه خباب رضي الله عنه: ((قد كان مَن قَبلكُم يُؤخَذ الرجلُ فيُحْفَرُ له في الأرض فيُجعَل فيها، فيُجاء بالمنشار فيُوضَع على رأسه فيُجعَل نصفين، ويُمْشطُ بأَمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يَصُدُّه ذلك عن دينه، والله ليُتِمّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إِلى حضرموت لا يخافُ إِلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)) [صحيح البخاري: 6943].
هذا الحوار القصير ذو المعاني الغزيرة يأخذنا إلى مكان آخر تمامًا، مكان آخر ونمط تفكير مختلف، ويفتح أبوابًا من الأسئلة ويرمي بالكثير من إشارات الاستفهام.
ما هي سُنَّة الله التي بمقتضاها تنزل الشدائد بالمؤمنين وتعصف بصفوفهم فيتساقط الدعيُّ وضعيف الإيمان بها من بينهم؟
ما هي هذه السنة، وما هي الحكمة منها، وما هو واجب المؤمن تجاهها؟!
سُنَّة التمحيص
إذا تصفّحت معجمًا من معاجم اللغة العربيّة تبحث عن معنى كلمة “سُنَّة” فإنك ستجد على سبيل المثال في القاموس المحيط: سُّنَّةٌ منَ الله: «حُكْمُهُ، وأمْرُهُ، ونَهْيُهُ. {إلّا أنْ تَأتيَهم سُنَّةُ الأوَّلين}، أي: مُعَايَنَةُ العَذاب».
ولو بحثت عن معنى كلمة “التمحيص” لوجدت كما في لسان العرب: «ومَحَصَ الشيءَ ومَحَّصَه: خَلَّصَه من كل عيب».
ونَخلُص من المعنى اللُّغوي الذي ما هو ببعيد عن المعنى الشرعي، إلى أن سنّة التمحيص هي: الامتحانات والاختبارات التي يكتبها الله تعالى على عباده المؤمنين في الدنيا، ليُظهِر صِدق إيمانهم ويختبر ثباتَهم على دينهم، وتتناسب هذه الامتحانات في شدّتها مع زيادة إيمان العبد المؤمن، فتشتدّ مع زيادة الإيمان وتَسهُل مع نقصه، لأن شدّة الامتحان مظنّة رفعة الدرجات والمقامات عند الله تبارك وتعالى.
وفي الحديث الذي أخرجه الإمام الترمذي في سننه بإسناد حسن صحيح من حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه قال: ((قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، أيُّ النَّاسِ أشدُّ بلاءً؟ قال: “الأنبياءُ ثمَّ الأمثلُ فالأمثَلُ، فيُبتلى الرَّجلُ على حسْبِ دينِه، فإن كانَ في دينهِ صلبًا اشتدَّ بلاؤُهُ، وإن كانَ في دينِهِ رقَّةٌ ابتليَ على حسْبِ دينِه، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتَّى يترُكَهُ يمشي على الأرضِ ما عليْهِ خطيئة)) [سنن الترمذي: 2398].
سنّة التمحيص في كتاب الله تعالى
من صور الابتلاءات العظيمة التي نزلت بالمؤمنين، وكانت مثالًا شديدًا؛ لاختبار صدق الإيمان والثبات على المبدأ ما حصل للمسلمين في غزوة أحد، حين انقلب النصر إلى هزيمة شديدة بسبب مخالفة ارتكبها بعض الصحابة رضي الله عنهم لأمره صلى الله عليه وسلم، فجاءت الآيات القرآنية وصوّرت هذا المشهد العظيم من مشاهد الابتلاء والاختبار، يقول سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: {إن يمسسكم قَرحٌ فقد مسَّ القومَ قرح مثلُه وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم اللهُ الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحبُّ الظالمين (140) وليمحّص الله الذين آمنوا ويمحَقَ الكافرين (141)} [آل عمران] فالآية كما يظهر ذكرت حِكَمًا كثيرة ترتبط بالشدائد التي يكتبها الله عزَّ شأنه على المؤمنين، فابتدأت الآية بذكر معنى مادي يجب ألّا يَغفَل عنه المؤمن وهو أنَّ ما يصيب المسلمين من جراحات بسبب الجهاد والقتال أنه يصيب الكافرين مثلُها، بل وهم فوق ذلك لا يرجون ما نرجو من الله تبارك وتعالى من المغفرة والعفو والجنة.
والمعنى الثاني أن هذه الدنيا التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة قد كتب الله تعالى فيها أنها لا تدوم لأحد ولا يثبت فيها مُلك أحد فهي يوم لك ويوم عليك، فلا أَسَفًا على ما فات منها ولا فَرحًا بما يحصُل من متاعها فكل ذلك زائلٌ لا محالة، ثم يأتي محلُّ الشاهد عند قوله سبحانه {وليمحّص الله الذين آمنوا} فالتمحيص إذًا مقصودٌ لذاته، فإن الله سبحانه وتعالى يكتب هذه البلايا المزلزِلة التي تغربل صفَّ المؤمنين وتنفي عنهم الخبث حتى لا يبقى في الصف إلا كل مؤمن مستيقنٍ بموعوداتِ ربه مخلصٍ له متوكلٍ تمام التوكل عليه، ومن كان في إيمانه دَخَلٌ فإما أن يتدارك نفسَه بعد هذه الزلازل ويرجع إلى ربه، وإما أن يدور عليه حجر الرحى كما سيدور على المنافقين فيطحن حبَّهم حتى يذره دقيقًا، وقد صرّحت آيات الذكر الحكيم بهذا المعنى فقد قال تباركت أسماؤه في سورة آل عمران أيضاً: {ما كان الله ليَذَرَ المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يَميزَ الخبيثَ من الطيّب..} [آل عمران: 179]
فهزُّ صف المؤمنين هزاً يُخرج به الدُّخلاء من بينهم أمرٌ مقصود لذاته وهو من مقتَضيَات التمحيص كما تبيّن.
وبالعودة إلى غزوة أُحد والتي كانت مليئة بالدروس والعبر المتعلّقة بسنَّة التمحيص فقد قال المولى سبحانه وتعالى في سورة آل عمران أيضًا: {ثمَّ أنزلَ عليكم من بعد الغمِّ أَمَنَةً نعاسًا يغشى طائفة منكم وطائفةٌ قد أهمَّتهم أنفسُهم يظنُّون بالله غير الحَق ظنَّ الجاهلِيَّةِ يقولونَ هل لنَا من الأمر من شيء قل إِنَّ الأمر كلَّهُ للهِ يُخْفُونَ في أنفُسِهِم ما لا يُبدُونَ لَكَ يقُولُونَ لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنَا قل لو كنتم في بُيُوتِكُم لَبَرَزَ الذِينَ كُتِبَ عليهم القتل إِلى مَضَاجِعِهِم وليبتَلِيَ الله ما في صُدُورِكُم وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُم والله عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُور} [آل عمران: 154]
فالآيات تبيّن أن من حكمة الله تبارك وتعالى في الشدائد والامتحانات إظهار خبايا النفوس ودفائن القلوب، فالمؤمن يُسلّم أمره لله تبارك وتعالى ويرضى بحكمه وقضائه وقدَره، فيكون جزاءه على ذلك من الله أنه يثبّته ويعينه على تجاوز الامتحان، وينزل عليه السكينة والطمأنينة، فتراه رغم عِظَم الكرب مطمئنًّا راضيًا، أما المنافق فإن الشدائد تظهر دفائن قلبه، وما كان يظهر خِلسَةً من غير قصد في فلتات لسانه وقت الأمن فإنه يظهر وقت الخوف واضحًا جليًّا، وفي هذا الأمر مِنحةٌ عظيمة من الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين، فكم من ثعلبٍ مكّار قد التحف جِلدَ الضَأن يُظهِر المحبة للمؤمنين وموالاتهم؛ تفضحه الشدائد وتكشف غيظه على الموحّدين وحقده الذي يأكلُ كبدَه.
فلولا الشدائد التي عصفت بالأمة فكشفت السوءات وهتكت الأستار؛ لبقينا إلى يومنا هذا نترنّم بصوت القارئ فلان، ونستعذب كتب ومقالات فلان، ونُشِيدُ برأي المفكّر فلان، ممّن أذن الله تعالى أن تنفضح سرائرهم، وكتب أن يلفظهم الناس بعد أن كانوا قد عظّموهم وصدّروهم، وهذا المعنى لمن تأمل عظيم جدًا في فهم مقاصد التمحيص وتلمُّس حكمة الله تعالى منه.
من صور التمحيص في السيرة النبوية
إذا قرأت سيرته عليه الصلاة والسلام فإنك ستجدها مليئة بدروس الابتلاء والاختبار الشديدة، كما أنك ستقرأ روائع الثبات منه ومن صحابته رضي الله عنهم أمام التمحيص، وإني أزعم أن أعظم مرحلة من مراحل التمحيص والابتلاء هي المرحلة المكيَّة، تلك المرحلة التي قضاها سيدنا رسول الله ﷺ هو وصحابتُه الأطهار في مكة المكرّمة تحت وطأة بطش الكافرين، يعصف بهم أذى المشركين وتنالُهم صنوفُ التعذيب، من ضربٍ وقتل وسب وشتم وتنكيل، وهم فوق ذلك كلِّه مأمورون بأن يكفّوا أيديهم عن ردّ الأذى ومبادلته بمثله، ولهذا الأمر حِكَمٌ كثيرة منها: التعبّد لله بفعل ما يأمر به مع كامل التسليم ودون أي نقاش، ومنها أنَّهم لو ردّوا بعض أذى المشركين لكان ذلك حجة للمشركين كي يستأصلوا المؤمنين، وكان قد منعهم من ذلك ابتداءً بقايا مروءة ورَحِم كانوا لا يزالون يعظّمونها، قال المولى سبحانه: {ألم ترَ إلى الذين قيل لهم كفُّوا أيديَكم وأقيموا الصلاة..} [النساء: 77] وحتى ترى حجم البلاء الشديد الذي نزل بالصحابة في هذه المرحلة ولم ينزل -ولن ينزل- على أحد من الأمة من بعدهم مثله، أنّهم رضي الله عنهم قد كانوا في الجاهلية أعزّة في قومهم يأبَون الذلَّ ويرفُضون المهانة، ثم لما آمنوا بالله تبارك وتعالى أراد سبحانه أن يختبرهم في هذه المرحلة، فيرى الواحدُ منهم صاحبَه من المؤمنين يُضرَب ويؤذى وهو لا يستطيع فعل شيء له، تخيَّل معي أخي أن يمتحن الواحد منّا -إنّا نسأل الله تعالى العافية- أن يُمتحنَ بقتل والدَيه أو أحدهما أمام عينيه ثم يكون الواجب الذي أمره الله تعالى به أن يصبر ويحتسب ولا يصنع شيئًا آخرًا!
وهذا ما حصل لعمار بن ياسر رضي الله عنه تُقتل أمُّه ويُقتل أبوه ولا حيلة له ولا مخرج لما هو فيه من شدةٍ وأذى إلا الصبر والتسليم.
نعم؛ الجهاد والقتال صعبٌ شديدٌ تكرهه النفس لما فيه من قتلٍ وجراح، ولكن الأشد منه أن ترى عدوّك قد ظهر على أهلك ومالك ونفسك ولا حيلة إلى دفعه أو رد صياله وعدوانه، ومع ذلك صبَر الصحابة رضي الله عنهم وامتثلوا أمر الله تبارك وتعالى حتى صاروا في الفضل ما نعلم جميعًا، وخصوصًا من أدرك هذه المرحلة العصيبة من السابقين الأولين.
ومن صور التمحيص التي مرّت بالنبي ﷺ وبصحابته رضي الله عنهم ما كان يوم الأحزاب، من اجتماع كلمة المشركين في كل جزيرة العرب مع غدرِ ونكثِ اليهود -كما هي عادتهم ودَيدَنهم- وإحاطتُهم بالمدينة إحاطةَ السوار بالمعصم فبلغت القلوبُ الحناجر واشتد الكرب على المؤمنين، حتى إنَّ الرسول ﷺ يطلب من الصحابة أن يقومَ أحدُهم ليتسلل إلى معسكر المشركين فيأتيه بخبر القوم فلا يقوى أحد منهم لشدة الخوف على تلبية أمره ﷺ.
ولقد صوّرت الآيات القرآنية هذا المشهدَ الشديد تصويرًا بيانيًا عجيبًا يُغني عن كثير من الكلام فتأمَّل وتدبَّر معي قول المولى سبحانه في سورة الأحزاب: {يا أيُّها الذين آمنوا اذكُرُوا نعمةَ اللهِ عليكم إذ جاءتكم جنودٌ فأرسلنا عليهم ريحًا وجنودًا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرًا (9) إِذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفلَ منكم وإذ زاغت الأبصارُ وبلغتِ القلوبُ الحناجرَ وتظنُّونَ بالله الظنونا (10) هنالك ابتليَ المؤمنون وزُلزلوا زلزالًا شديدًا (11)} [الأحزاب]
لقد كان درس الأحزاب درسًا قاسيًا وامتحانًا شديدًا قلَّ نظيره في سيرة النبي ﷺ، تأمَّل قوله سبحانه {وبلغتِ القلوبُ الحناجرَ} أيُّ رعبٍ وخَوف بلغَ من أصحاب النبيّ عليهم رضوان الله، وأي شدة تُدَكُّ لهَولها الجبالُ الراسيات تلك التي عصفت بأشرف البشر بعد الأنبياء، ولكن حاشا لله سبحانه أن تكون هذه الابتلاءات بدون حكمة، وحاشاه أن يَكِلَ عبادَه المؤمنين لأنفسهم، لقد وعدهم إذا ما هم آمنوا به وتوكَّلوا عليه أن ينصرَهم ويؤيّدهم ويُمِدَّهم بمددٍ من عنده، وكذلك كان.
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (٢١) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا (٢٣) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (٢٤) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (٢٥) وَأَنزلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (٢٧)} [الأحزاب] فجعل بفضله وجوده ومنَّته عاقبة الصبر الفرج؛ وعاقبة التسليم النصر فله الحمد والمنَّة.
من حِكَم الله في التمحيص
لو أردنا أن نستقرئ مما سبق بعضًا من حكم الله تعالى التي أظهرها لنا في هذه الآيات والتي أودعها في باطن الشدائد والمكاره لخلصنا إلى الكثير، ولكنّ أهم ما مرَّ معنا:
- ترسيخ الإيمان في قلوب المؤمنين، {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22]
- تنقية صفّ المؤمنين من المنافقين، “ابن سلول يرجع بثلث الجيش يوم أُحد”.
- أنه -أي التمحيص- الحالة التي لا مفرّ منها للوصول إلى النصر والتمكين، {وَأَوۡرَثَكُمۡ أَرۡضَهُمۡ وَدِیَـٰرَهُمۡ وَأَمۡوَ ٰلَهُمۡ وَأَرۡضࣰا لَّمۡ تَطَـُٔوهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣰا} [الأحزاب: 27]
- تربية المؤمنين وتزكية نفوسهم، {مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ رِجَالࣱ صَدَقُوا۟ مَا عَـٰهَدُوا۟ ٱللَّهَ عَلَیۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن یَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُوا۟ تَبۡدِیلࣰا} [الأحزاب: 23]
- تأديب العصاة وتطهيرهم من الذنوب، {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165]
- إظهار عدل الله في معاقبة المخالفين، “أن الرماة الذين خالفوا أمر الرسول ﷺ ونزلوا عن جبل الرماة كانوا سببًا في الهزيمة”.
واقع المسلمين اليوم
إن المتابع لواقع أمة الإسلام اليوم يرى الأزمات المتتالية التي مُنيَت بها الأمة منذ سقوط دولة الخلافة وصولًا إلى تاريخ كتابة هذه الكلمات، فالتشتُّت والتشرذم وتكالبُ العدوّين، مع التخلُّف الماديّ في كثير من ميادين الحضارة العلميَّة والماديَّة، أضف إلى ذلك حالة اللَّهَث خلف الغرب ومنتجاته الثقافية والفكرية مهما كانت هذه المنتجات رديئة وسيئة، بالإضافة إلى الحالة العسكرية المتردّية التي تعيشها كثير من بلاد المسلمين من تسلّط عدوّ خارجي كما في حالة فلسطين أو عدو داخلي كما في سوريا فرّج الله عنهما -وهذان مثالان يصلح قياس كثير من بلاد المسلمين عليهما- هذه الحالة من التدافع والصراع إنما هي في حقيقتها اختبار وامتحان من الربِّ تبارك وتعالى لعباده المؤمنين، فهم فيما يفعلونه إزاء مجريات الأحداث إنما يجيبون على أسئلة هذا الاختبار، واصطفافهم بين الحق والباطل في كل موقف يعتري الأمة في كل بقاع الأرض إنما هو في الحقيقة مكابدة وإنجاز لهذا الامتحان، وهذا المعنى يشمل الأفراد والجماعات من الأمة، فبين مقلٍّ في جمع أبواب الخير ومستكثر، وناجح فائز فيما امتحنه الله تعالى فيه، وبين راسب قد فشل في اجتياز العقبة التي من اجتازها يكون قد قفز إلى رضوان الله تبارك وتعالى.
واجب المسلم في هذا الواقع
ويمكن تلخيص ما يجب على المسلم فعلُه اليومَ بشكل عَمَلي بعيدًا عن التنظير الذي لا أرضَ حقيقيَّةَ له في نقاط أساسية أهمُّها:
- تحصيلُ أهمّ مفاتيح العلوم الشرعية، لأن خدمة الأمة والدين إنما هو وسيلة لتحصيل رضوان الله تعالى، وكم زلَّت أرجلٌ وأقدامٌ في هذا الطريق لأشخاص وجماعات ابتدأت رحلتهم فيه سعيًا لخدمة الدين، فدخل الشيطان على مراكبهم من بوابة الجهل، فتخطَّف بعضَهم بالإفراط وبعضَهم بالتفريط، وما أفلح من جَانَبَ الصراط إلى شدّة ولا إلى ميوعة؛ إذِ الحقُّ في لزوم الكتاب والسنة من دون إفراط ولا تفريط.
- القراءة الناقدة لواقع الأمة، وهذا الأمر لا يقل أهميّةً عن سابقه، لأن تدريس علوم الشريعة اليوم جعلها جافة منفصلة في طريقة تنظيرها عن تغيُّرات الحياة والواقع، فعلى المصلح أن يدرس واقع الأمة ويفهم المحيط الذي يريد أن يعمل فيه بشكل جيّد، حتى يتسنّى له استنباط الحلول والأدوية الناجعة لواقعه.
- الإعداد، ويشمل الإعداد البدني واكتساب المهارات، والقدرة على التعاطي مع الأدوات والوسائل التي يحتاجها المصلح في الحالة المدنيّة والمجاهد في الحالة العسكرية.
- البحث عن الثغر الأنسب، وضع تحت كلمة الأنسب خطًا، فقد تفيد الأمة في ثغر معيّن كما يستطيع غيرك ولكنك لو بحثت جيدًا فقد تجد ذلك الثغر الذي لن يستطيع أحد أن يَسُدَّه كما ستفعل أنت.
- وضع الخطة ومباشرة العمل، فالتسويف قاتلُ الإنجاز، ولذلك يجب أن يسير المسلم في الخطوات السابقة كلها معًا -قدر المستطاع- فإن كان الواقع الذي تعيشه يتيح لك العمل ضمن مجموعةٍ فبادر إلى البحث عن الأفراد الذين يشاركونك الهمَّ نفسَه واصنع البيئة التي ستطبّقون الخطة فيها، وإن لم يسمح لك واقعك بالعمل الجماعي فلا أقلّ من أن تكون ذئبًا منفردًا يخدم الأمة والدين حتى وإن كان وحيدًا.
- الدعاء، لنفسك ولأهلك وللمؤمنين عامة ولمن نزل بهم الكرب خاصّة.
أخيراً، لا ننسى أننا لم نؤمر بتحصيل النتائج وإنما نتعبَّد الله بإخلاص النيّة وبذل الوُسع والمستطاع، فعليك بذرُ الحَبِّ لا قطف الجنى.. والله للساعين خير معين.