محمد الفاتح وفتح القسطنطينية صاحب البشارة وأبو الخيرات.. النشأة والتربية
حديثنا في هذه السطور عن القائد العظيم محمد الفاتح الذي نأمل أن تكون تحققت فيه بشارة النبي -صلى الله عليه وسلم- فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش، فمن هو صاحب هذا الشرف العظيم.. إنه الفاتح الذي حول الكيان العثماني من دولة إلى إمبراطورية.
الفاتح الذي ثبت دعائم الحكم الإسلامي في عدة دول أوروبية دفعة واحدة، وهو المثال الرائع للقائد الذي يهتم بكل شئون دولته، والذي وضع نظامًا واضحًا ومحددًا يمكن أن يسير عليه لقرون متتالية.
الفاتح الذي دعم نهضة علمية غير مسبوقة في الدولة العثمانية، وارتفعت في عهده العلوم بشكل لافت، مثل: الجغرافيا، الطب، الهندسة، الفلك، والعلوم العسكرية، فضلًا عن العلوم الشرعية، وهو الذي اهتم اهتمامًا فائقًا برعاية الفنون والآداب، واستجلاب البارعين من هذه المجالات من ربوع الدنيا إلى دولته.
الفاتح هو الذي حدد سياسات الدولة بشكل واضح تجاه غير المسلمين تقول الدكتورة فيكي سبينسر: “أسس محمد الفاتح أول مجموعة من الاتفاقيات بين المجتمعات المختلفة والدولة (تقصد المجتمعات غير المسلمة كالأرثوذكس، والأرمن، واليهود) وذلك ليضمن الأمان، والذاتية والحماية للمجتمعات غير المسلمة في مقابل الجزية”.
يقول القس الكاثوليكي جورج: “رأيت الحاكم -السلطان الفاتح- متبوعًا فقط باثنين من الشباب في طريقه إلى قصره إلى المسجد البعيد عنه، ورأيته كذلك يذهب إلى الحمامات العامة بالطريقة نفسها، وعندما يعود من المسجد إلى قصره لا يقترب أحد من أتباعه أو منه لتحيته”.
هكذا الأبطال إذا خالط العدل حكمهم، لم يخشوا شيئًا إلا الله.
ثم إنه من منطلق حديث النبي صلى الله عليه وسلم -الذي ذكرناه آنفًا- حبذنا أن يكون كلامنا عن نعم الأمير الفاتح وإن كان الكلام عنه صعبًا علينا أن نوفيه حقه ولكن الله المستعان وعليه التكلان.
ومن هنا سيكون بداية حديثنا عن نشأة الدولة العثمانية التي نشأ منها محمد الفاتح في الأساس والتي هي مصدر عزه وتكوينه، فالدولة العثمانية كانت دولة قوية متينة يخرج منها الأبطال والفرسان، دولة دام عزها لقرون، ولكن قضى الله أنه ما طار طير وارتفع إلا كما علا سقط.
ولما اخترنا الحديث عن نشأه الدولة العثمانية كانت غايتنا كيف تنهض الأمم من العدم، وكيف تكون أمة ضعيفة صغيرة لا يُأبه لها، ثم تنهض وتتقدم ويخرج منها فاتحًا عظيمًا كمحمد الفاتح هنا.
نشأة الدولة العثمانية
تعد الدولة العثمانية من أهم الدول في تاريخ البشرية والتي أنشأت هذه الدولة الكبيرة هي عائلة تنتمي إلى الأتراك، والأتراك أسلموا قديمًا، وقدموا كثيرًا من العائلات التي حكمت أقطار عدة في العالم الإسلامي.
وأشهر قبل الأتراك -قبل العثمانيين- قبيلة السلاجقة، حكمت سلاجقة الروم أرض الأناضول أكثر من مائتي عام. وفي أثناء حكمها توافدت القبائل التركية المختلفة من وسط أسيا لتقيم إمارات في الأناضول تحت سيادة دولة السلاجقة، وكان على رأسها رجل يدعى أرطغرل، وقد أقطعه السلاجقة قطعة أرض صغيرة في غرب الأناضول، أرطغرل هذا هو أبو عثمان مؤسس الدولة العثمانية.
في عام 1281 م توفي أرطغرل، وتولى بعده ابنه عثمان، وفي عام 1300م أعطى السلاجقة عثمان بن أرطغرل بعض أمارات الاستقلال كالراية وعصا الملك وغيرها؛ ومن ثم يعد العثمانيون هذا هو تاريخ تأسيس الدولة العثمانية. زاد عثمان في مساحة إمارته الصغيرة التي كانت تبلغ أربعة آلاف وثمانمائة كيلو متر مربع، حتى بلغت ستة عشر ألف كيلومتر مربع عند وفاته عام 1326.
وبعد وفاة عثمان تولى ابنه -أورخان- ونقلت الدولة العثمانية في عهده نقله نوعية كبيرة، حيث حقق بعض الإنجازات التي أثرت بقوة في مسار العثمانيين. وكانت فكرة أورخان تكوين جيش يكون عمله الوحيد هو الحرب وهو ما عرف فيما بعد بالإنكشارية. (هم أطفال النصارى الذين فقدوا أسرهم أثناء الحرب يحتويهم المسلمين ويعلمهم الإسلام واللغة التركية ويدربونهم على القتال يصلون إلى مراتب عالية في الجيش).
وبعد أورخان تسلم مراد الأول -ابن أورخان- فتح أدرنة وجعلها عاصمة لدولته، وانتصر عدة انتصارات ضخمة على جيوش أوروبا في البلقان. وفي عام 1389م تولي بايزيد الصاعقة، وحقق عدة انتصارات مذهلة مكملًا فتوحات البلقان.
وبعد صراعات أهلية انتصر أحد أبناء بايزيد الأول وهو محمد الأول -الشهير بمحمد جلبي- على إخوته، واستمر في الحكم ثمانية أعوام وبعدها تولى ابنه مراد الثاني الذي حكم الدولة عام 1421م وهو في السابعة عشره من عمره.
هنا نذكر أن الله إذا أراد شيئًا هيئ له أسبابه، نحن رأينا كيف هيئ الله الملك لمراد الثاني ليكون خلفه محمد الفاتح، ليفتح الله على يديه، فقامت دولة عظيمة، ليخرج منها بطل عظيم كمحمد الفاتح.
ثم ما يهمنا في هذه المرحلة التاريخية أن نذكر أن مرادًا الثاني كان له من الأبناء ثلاثة: أحمد وعلي علاء الدين ومحمد وقد ولد الأخير في عام 1432م، وهو الذي سيصبح لاحقًا محمد الفاتح.
نشأة الأمير محمد الفاتح
لعلنا نقف هنا وقفة، نحن ننسب الانتصار العظيم دائمًا لمحمد الفاتح وننسى دور والده الذي أنشأه نشأة العلماء والأبطال، الذي اعتنى به وتعليمه وتهذيبه منذ نعومة أظفاره، ومن هنا يأتي دور الأب إذا قام بدوره على الوجه الصحيح أخرج لنا رجالًا وأبطالًا، وإنما ضاع شباب الأمة عندما فرّط الآباء في تربيتهم، لم يقل مراد الثاني الأعباء كثيرة وحكمُ الدولة مرهق والأبناء كثيرون، بل قام بتنشئة نشأ كل واحد منهم يصلح بطلًا إلا من وفاته منيته قبل ذلك.
لم يكن السلطان مراد الثاني يتوقع أن ولادة ابنه محمد، سيكون حدثًا يغير مجرى التاريخ. ولد محمد الفاتح في قصر أدرنة في يوم 30 مارس 1432م، ولم والده والدًا عاديًا، فقد كان أبًا صالحًا تقيًا ورعًا، كان من الموهوبين ولقد وصفه المؤرخ الأمريكي ول ديورانت بقوله: “كان كأحسن القادة” يقول المؤرخ الإسلامي القرماني: “كان عالمًا، عاقلًا، شجاعًا، وكان يبدي العناية بالعلم والعلماء”.
هكذا صلاح الآباء ينفع الأبناء لقد صدق فيه قول الله تعالى: “وكان أبوهما صالحا”.
ولقد أعتنى مراد الثاني بمحمد الفاتح ورباه تربية متميزة، حيث صقلت الموهبة عند الطفل، كما أنما هي التي أجبرت فريق العمل المصاحب للأمير محمد على تقبل الطاعة له، حيث ظهرت أمارات نجابته وذكائه بشكل لافت للنظر. وإنني أحب أن استهل الحديث عن تربية محمد الفاتح بقول المؤرخ الإنجليزي ستيفن تيرنبول: “لقد رُبِّي محمد الثاني ليكون أعظم سلطان في زمانه”.
جوانب مهمة في بناء الأمير القدير محمد الفاتح
يمكن تمييز ثلاثة جوانب مهمة كانت مهمة بارزة في عملية بناء هذا الأمير القدير:
أ ـ جانب العلوم الشرعية والدينية: وقد اهتم السلطان مراد الثاني بهذا الجانب بشكل خاص، وأوكل مهمة تعليم الأمير محمد أمور الفقه والقرآن والسنة لواحد من أعظم علماء الدولة العثمانية في ذلك الزمن.
وهو الشيخ الكبير “أحمد إسماعيل الكوراني”، وهو عالم موسوعي برع في مجالات شرعية شتى، وجمع علومه من مدن إسلامية كبرى متعددة، سواء في إيران، العراق، الشام، مصر، والأناضول.
هذه الشخصية الرائعة كانت مسئولة عن تربية الأمير الصغير فلهذا ليس بعجيب أن يخرج لنا عالمًا، يحمل العديد من الفنون والعلوم. ويضاف إلى العالم الكوراني العالم “خسرو” والفقيه “سراج الدين حلبي” اللذين كانا من أشهر علماء عصرهم.
لفتة تاريخية مهمة: لا يوجد دليل موثق على صلة الشيخ آق شمس الدين في هذه المرحلة المبكرة من حياته، وقد أحببت لفت النظر إلى هذه النقطة لكون الكثير من المؤرخين المحدثين يروون في كتبهم قصصًا عن تربية هذا الشيخ للسلطان وهو في طفولته وهذا لا يصح، بل كانت صلته به قبيل فتح القسطنطينية.
ب ـ جانب العلوم الحياتية والعقلية: إلى جوار العلوم الشرعية والدينية ففي هذه السن المبكرة تعلم محمد الفاتح عدة لغات إلى جانب التركية، فكان يتقن العربية والفارسية واللاتينية واليونانية الصربية وتضيف بعض المصادر اللغة العبرية إلى اللغات التي تعلمها الأمير.
كانت هذه اللغات التي تعلمها الأمير وسيلة وليس غاية؛ فقد استخدمها بحرفية عالية في تزويد نفسه بعلوم متميزة، فقرأ بالعربية الفقه والشريعة، بالفارسية الأدب وكتابة الشعر، وفتحت له اليونانية الطريق إلى كتب الجغرافيا الإغريقية وكانت اللاتينية طريقة إلى تعلم التاريخ الإيطالي والتعرف على آثار الرومان.
جـ ــ الجانب العملي والتدريبي: في هذه الطفولة المبكرة، لم يكن الأمر محدودًا بالتحصيل العلمي النظري، إنما صاحبَ هذه الأمور أمور شتى لعل من أبرزها هو التدريب على المهارات العسكرية وفنون القتال، فهذا هو المجال الذي يتخصص فيه الأمير بعد أن يكبر؛ الدولة العثمانية دولة جهادية، لها أعداء كثر ويُتوقع لهذا الأمير أن يخوض معارك كثيرة، ولهذا اهتم السلطان مراد الثاني ببنائه جسديًا ومهاراتيًا.
واهتم ببنائه علميًا وأخلاقيًا، ولم يكن تدريبه على هذه الأمور الحربية تدريبًا عاديًا مثلما يحدث في بعض المدارس العسكرية الآن، إنما كان متخصصًا لأبعد درجة، حيث كان يتعلم ممارسة فنون القتال إلى جوار تعلمه الخطط الإستراتيجية والرؤى الحربية، ولقد اشترك في هذه العملية المعقدة من التدريب عدة أساتذة عسكريين متمرسين، كان منهم الوزير صريحة قاسم باشا، وداماد زاجانوس محمد وخضر جلبي ولذا لم يكن من الغريب أن يخرج الأمير الصغير للقتال الفعلي وقيادة الجيوش وهو في السادسة عشر من عمره، إذ اشترك في الحملة المليونية الكبرى التي قادها والده مراد الثاني في ألمانيا وذلك عام 1448م.
وأخيرًا أحب أن أشير إلى أن هذا الطفل الذي اهتم والده بزرع كل هذه الأمور الجادة فيه بشكل متكامل واحترافي من علم شرعي، وعلم حياتي، وعلم وقتال وحرب وقيادة وإدارة، هذا الطفل لم يكن معزولًا تمامًا عن ممارسة الهوايات، والترفيه عن النفس بما يفيد؛ فقد كان يتدرب على تصنيف الأزهار، وصناعة الأقواس المستخدمة في الرمي واستخدام الأحجار الكريمة في الزينة فضلًا عن الشعر وقراءة السير التاريخية ثم أقول لو أننا لم نخرج من سيرة محمد الفاتح إلا بكيفية تربية مراد الثاني له لكفى، هكذا الأبطال الذين صنعهم آبائهم وضاع شباب الأمة حين تخلى الأب المربي عن دوره في التربية.
درس مهمل في حياتنا
هنا لابد أن نقف وقفة طويلة، نقف مع أنفسنا لنعالج فيها ضعف التربية، نحن عجزنا عن تربية أنفسنا في الأساس وبالتالي عجزنا عن تربية أبنائنا، انشغلنا بالدنيا وفات علينا أمر عظيم وهو هم هذا الدين وهم نصرته.
فات علينا أعظم أمر خُلقنا من أجله وهو عبادة الله ونشر دينه أصبحنا غثاء كغثاء السيل، كل همنا الدنيا وضاع علينا أمر ديننا، إليكم أيها الآباء قبل الأمهات هذي رسالتي لكم، حينما تخلي الأب عن دوره الحقيقي وترك كل التربية على الأم -ولا أعيب على الأم في شيء، ولكن لابد من المشاركة في التربية لينشأ جيل النصر، جيل العزة، جيل الرفعة- استضعف الأبناء الأمهات وأصبح الجيل تافهًا فاسدًا نظرًا لتخلي الآباء عن ثغورهم الحقيقة.
فاتق الله أيها الأب واعلم أنك مسئول، وضياع هؤلاء الشباب في عنقك، واعلم أن الله لم يجعل لك القوامة هباء بل هو ميثاق غليظ، لابد من القيام بحقه والعمل بموجبه، لابد من تربيه الأبناء على يديك، تحت إشرافك، يا أيها الأب المسئول لا تترك ثغرًا وكله الله إليك، وأنت أيها الشاب الناشئ، كن محمد الفاتح في قلبك، تعلم أصول العلوم وفروعها، كن مقدامًا، كن سباقًا بالخيرات، كن فاتحًا لقلوب الناس، وقل دائمًا اللهم اجعلني مفتاحًا للخير، مغلاقًا للشر.
نتابع في المقال القادم لنكمل مسيرة الأمير محمد الفاتح.
المصادر
- كتاب السلطان محمد الفاتح للدكتور راغب السرجاني.