الدولة العامرية في بلاد الأندلس

لما توفي الخليفة الأندلسي الحكم بن عبد الرحمن الناصر (المستنصر)، وأوصى بالحُكم لابنه هشام (المؤيد بالله) وعمره 10 سنين؛ تنازع الأمويون على من يتولى أمر البلاد. ثم استقر رأيهم على أن يشكلوا مجلس وصايا من الخليفة، يدبر الدولة حتى يكبر هشام؛ وأن يكون أعضاء المجلس رجالًا من خارج بني أمية، إذ كان بنو أميَّة يخشون ألَّا يُسلم الأمر إلى الخليفة؛ إن كان منهم أو أن يستبد به دونهم. لذلك اختاروا ثلاثة رجال ليسوا من بني أميّة.

  • الأول: جعفر بن عثمان المصحفي، وزير الدولة الأمويّة.
  • الثاني: غالب بن عبد الرحمن الناصري، قائد الجيش.
  • ثالث: محمد بن أبي عامر، قائد الشرطة في قرطبة.

محمد بن أبي عامر

محمد بن أبي عامر

ولد في جنوب الجزيرة الخضراء في سنة 326 هجري، وكان أحد كبار أجداده؛ وهو عبد الملك المعافري، من الذين فتحو الأندلس مع طارق بن زياد واستقر جنوب الأندلس، وكان أبوه عبد الله من طلبة العلم المعروفين؛ حيث نشأ محمد في بيت علم ومعرفة وسار على خطى أهله. ولما بلغ سافر إلى قرطبة -عاصمة العلم والمعرفة- ليتعلم العلم من علمائها، وعمل فيها كاتبًا في بداية أمره، ثم أصبح بعد تعرفه على صُبح البشكنسية -زوجة المستنصر- وكيلًا لعبد الرحمن بن المستنصر وتوفي في صغره. فوَلدت صُبح البشكنسية هشام، فأصبح وكيلًا عليه، ولم يلبث إلا وتدرج في المناصب، فعُيّن أمينًا لدار السّكة، وكُلف بالنظر على الخزانة العامة وخطة المواريث، ثم أصبح قاضيًا في إشبيلية ولبة، ثم عيّنه المستنصر مدير الشرطة الوسطى.

ثورة الصقالبة

كان الصقالبة من المعارضين لخلافة المؤيد بالله، وهم يشكلون عددًا كبيرًا من حرس الخليفة، فثاروا وضجوا يريدون أن يولوا المغيرة بن عبد الرحمن الناصر (عم هشام) إذ كان عمره 27 سنة. فلما علم محمد بن أبي عامر هذا الخطر توجه غير آبهٍ بالصقالبة أو غيرهم إلى المغيرة فقتله، وأجرى تعديلات في الحرس الخاص بالخليفة، فاستبدل الصقالبة بعناصر من الشرطة الموالين له.

هجوم النصارى

وإثر هذا الضعف، وفي عام 366 هـ هاجم نصارى الشمال الثغور الإسلامية؛ مستغلين ضعف المسلمين. فأما الوزير المصحفي فلم يكن له خبرة بالجهاد، وأما غالب الناصري فكان في مدينة سالم يصد الثغور. ويقول إنه لا يستطيع ترك المدينة إلا وهوجمت.

وبعض التحليلات تقول إنه لم يرِد الخروج لملاقاة العدو ليحرج المصحفي. ولم يعرف المصحفي ما الحل فهو متردد وخائف من الخروج للقتال. وهنا ظهر نجم ابن أبي عامر الذي قاد الجيش الإسلامي متوجهًا إلى الثغور؛ ليحميها، فذهب إلى قلعة تدعى “الحامة” من حصون “جيليقية” وحاصرها حتى أخضعها، ثم تجول في مناطقها 53 يومًا. وغنم الغنائم وفي طريق عودته وزع الغنائم على الجنود يتقرب بها إلى القلوب، فانتشر خبره، وذاع صيته، ودخل إلى قلوب الناس وعُرف بالشجاعة والسخاء.

غزوة ابن أبي عامر وغالب الناصري

 وفي عيد الفطر سنة 366 هـ، ذهب ابن أبي عامر بجيشه الى الشمال، والتقى بجيش غالب الناصري، وتحركوا من مدينة “مجريط” (مدريد عاصمة اسبانيا الحالية)، وغزوا معًا النصارى في شمال الأندلس فانتصروا. وقويت علاقة ابن أبي عامر وغالب الناصري الذي رأى شجاعة ونبل أخلاق ابن أبي عامر، ورأى أنه أحق بالحجابة من المصحفي. واتفقا على عزل المصحفي؛ ذلك الحاجب ضعيف الرأي الذي يعيّن أهله وأقاربه في المناصب العليا.

وما رجع ابن أبي عامر إلى قرطبة؛ إلا والخليفة أمر بعزل المصحفي من قرطبة، وعيّن ابن أبي عامر. وما عُيّن؛ إلا وازدهرت قرطبة، وقلَّ الفساد والظلم وأحبه الناس حبًا شديدًا.

زواج سياسي

 ولما رأى المصحفي هذه القوة والتمكّن لابن أبي عامر؛ أرسل إلى غالب ليخطب ابنته لابنه، لكن ما إن سمع ابن أبي عامر بهذا؛ إلا وأرسل إلى غالب يناشده العهد يخطب ابنته لنفسه. فوافق غالب تزويجه، وعقد القران سنة 367 للهجرة.

التدرج في المناصب

انفض الناس من المصحفي، وأصبحت الأنظار كلها لابن أبي عامر. وفي عام 367 هـ، ذهب ابن أبي عامر وغالب الناصري إلى الجهاد في الشمال، وسيطرا على بعض الحصون، وبعد عودتهما أصدر الخليفة أمرًا بجعل ابن أبي عامر الحاكم العام للعاصمة، وتعيين غالب الناصري وزيرًا مساعدًا للمصحفي.

نهاية المصحفي

ثم أصدر ابن أبي عامر أمرًا بإقالة وسجن الوزير المصحفي وأهله. قيل لتلاعبه ببيت المال -والله أعلم بصحة هذا-. ويذكر أن المصحفي أرسل أبياتًا، يستعطف بها ابن أبي عامر. يقول فيها:

هبني أسأتُ فأين العفو والكرمُ؟
إذ قادني نحوك الإذعان والندمُ
يا خير من مُدت الأيدي إليه أما
ترثي لشيخ رماه عندك القلمُ
بالغت في السُخط فاصفحْ صفحَ مقتدر
إن الملوك إذا ما استرحموا رَحموا

فرد ابن أبي عامر ردًا قاسيًا:

الآن يا جاهلًا زلّت به القدم
تبغي التكرم لمّا فاتك الكرم ُ
أغريت بي ملكًا لولا تثبتُه
ما جاز لي عندهُ نطق ولا كلمُ
فايأس من العيش إذ قد صرت في طبق
إن الملوك إذا ما استُنقموا نقموا
نفسي إذا سخطت ليست براضية
ولو تشفّع فيك العرب والعجمُ

ومن شعر المصحفي أنه كان يقول:

لا تأمنن من الزمان تقلبًا
إن الزمان بأهله يتقلبُ
ولقد أراني والليوث تهابني
وأخافني من بعد ذاك الثعلب

وهكذا، طوى ابن أبي عامر صفحة جعفر بن عثمان المصحفي. ثم أصدر الخليفة المؤيد بالله أمرًا عين بموجبه ابن أبي عامر وزيرًا وحاجبًا بدل المصحفي.

مدينة الزاهرة

وفي عام 368 هـ، أنشاء ابن أبي عامر مدينة الزاهرة، في شمال شرق قرطبة؛ لتكون مركز الخلافة منافسة لمدينة الزهراء التي أنشأها عبد الرحمن الناصر، جدُّ هشام المؤيد بالله. فبدأ ابن أبي عامر إنشاءها في سنة 368 هـ، واكتمل بناؤها سنة 370 هــ، ونقل إليها دواوين الحكم، وأنشأ قصرًا كبيرًا هناك حتى أضحت المدينة الأساسية في الأندلس. وفي نهاية سنة 368، أصدر الحاجب بيانًا يمنع دخول أي شخص على الخليفة إلا بإذنه، إذ عيَّن حرسًا حول الخليفة بحجة حمايته، ووصل ابن أبي عامر  أنَّه تفرَّد بالحكم.

قدوم جعفر بن حمدون

محمد بن أبي عامر

استدعى ابن أبي عامر في سنة 370 هـ، فارس المغرب وزعيم البربر؛ جعفر بن حمدون. وكان بينهما صلة قديمة، فنزل جعفر الأندلس، وقرَّبه ابن أبي عامر إليه، ورفع قدره. ولا شك أن هذا فيه تقوية لمركز ابن أبي عامر؛ فجعفر زعيم البربر، الذين سيزداد ولاؤهم لابن أبي عامر بنزول زعيمهم في كنفه.

لكن من ناحية أخرى، رأى غالب وجود جعفر بن حمدون منافسة له، وأن الدولة تستطيع التخلي عنه بغيره، وأنه لم يعد الوحيد المختص بمواجهة العدو؛ فعادى ابن أبي عامر، ودبر له مكيدة. ويقول بعض المؤرخين أن صُبح البشكنسية حرضت غالبًا على قتال ابن أبي عامر؛ لأنها رأت المُلك يذهب من يد ولدها.

صراع الحليفين

خرج ابن أبي عامر إلى غزوة من غزواته، في الصوائف، إلى قشتالة؛ فدعاه غالب إلى وليمة أقامها في قلعة “انية”. ولما حضر ابن أبي عامر حصلت مشادة كلامية بينهما، وسلَّ غالب سيفه وضرب ابن أبي عامر. لكن أحد الحضور تدخل وأعاق يد غالب فانحرفت ضربته. وألقى ابن أبي عامر نفسه من القلعة ونجا من المأزق.

وعاد ابن أبي عامر إلى قرطبة وأعلنت العداوة بينهما، وجهز ابن أبي عامر جيشًا لقتال غالب الناصري. وللأسف الشديد وقع غالب في أكبر أخطائه؛ فاستعان بعدوه الذي حاربه سنين ضد ابن أبي عامر، وأرسل إلى براميرو الثالث -حاكم ليون المملكة النصرانية في الأندلس- يطلب المدد لقتال ابن أبي عامر. وتستطيع تصور فرحة وسعادة براميرو بهذه الرسالة، وأن يرى عدوه الذي حاربه سنين وأذله يرجع إليه طالبًا إعانته.

الحرب ضد غالب

التقى الجيشان؛ جيش ابن أبي عامر وعلى الميمنة جعفر بن حمدون وعلى الميسرة أحمد بن حزم (والد الإمام ابن حزم)، وجيش غالب معه جيش ليون. ومع أن غالبًا كان شيخًا كبيرًا يزيد عمره عن 80 سنة إلا أنه قاتل قتالًا شديدًا. ويقال إنه حينما هاجم قلب الجيش كان يقول (اللهم إن كنت أصلح للمسلمين من ابن أبي عامر؛ فانصرني. وإن كان هو أصلح فانصره). ثم حدث أمر عجيب لو أن الإمام ابن حزم لم يذكره عن أبيه -شاهد العيان- لما صُدق؛ ذلك أن غالب الناصري مشى بفرسه خارج الجيشين، فظن الناس أنه يريد الخلاء، ثم طال غيابه فذهب الجند للبحث عنه. فوجدوه ميتًا بلا أثر ضربة، فعادوا بالبشرى لابن أبي عامر. ولقد انحاز جيش غالب إلى جيش قرطبة فوقف جيش ليون في مأزق.

قاتل جيوش المسلمين جيش ليون، لتبدأ غزوات الممالك النصرانية؛ فحاصر الجيش الإسلامي مدينة سمُوره -التابعة لليون-، واستولوا عليها وما حولها. وتحالف براميرو الثالث مع غرسية ملك قشتالة وسانشو ملك نافار، وعقد تحالف ثلاثي فهزموا ونُصر المسلمين، ورجعوا بالنصر المكلل والفوز العظيم. وحينما رجع ابن أبي عامر أصبح لا يثق بأحد ويخشى الخيانة، فأمر بقتل المصحفي وقيل مات في السجن وأمر بعزل ابن حمدون. فأصبح الرجل الأول في الدولة -بعد الخليفة الذي كان مجرد اسم-، والحاكم المطلق للأندلس.

ويوم رجع منتصرًا منصورًا مكللًا بالظفر الكبير سنة 371، لقب ابن أبي عامر نفسه بلقب ملوكي هو “الحاجب المنصور”. وأصبح يدعى له في المنابر مع الخليفة، ومن ذاك التاريخ عرف بهذا اللقب.

جهاد البربر

وفي سنة 373، أتى جماعة من البربر إلى الحاجب المنصور، وفيهم إخوة “بلكين بن زيري” -أحد الذين ثاروا على الأمويين-. وقالوا للمنصور تعبنا من الثورات ضد المسلمين، وقد عزمنا الجهاد فأذن لنا أن نتوجه نحو القوط نجاهدهم. ففرح المنصور، وأمدهم بالسلاح والعتاد، وعسكروا قرب جيليقية ونشروا الذعر في ليون. فأمر حاكم ليون الجيش بالتحرك ضد هذه العصابات كما كانوا يسمونهم، فتركوا جيش ليون يتوغل حتى هجموا عليه من آخره، وهم يكبرون ويهللون.

غزوة ليون العظمى

عزم المنصور الهجوم على ليون عاصمة “جيليقية”، وكانت ليون من أكثر المدن تحصينًا. فتوجه نحوها وحاصرها حصارًا شديدًا، ودارت معارك لأيام وليالٍ، واستشهد الكثير من المسلمين، ومات الكثير من قواد النصارى. وبعد عناء شديد، نصر الله المسلمين وفتحت ليون، وكانت أول مرة تفتح بعد الفتح الإسلامي. وأمر المنصور أن يصعد المؤذنون، ويكبروا فوق هذه المدينة الجائرة.

فتح برشلونة

محمد بن أبي عامر

وفي عام 374، توجه الجيش الإسلامي نحو البيرة وبسطة، ثم مرسية. واتجه من الطريق الساحلي الشرقي المطل على البحر المتوسط، حتى وصل برشلونة بعد شهرين تقريبًا، ففتحها، ولم يستطع حاكمها بريل الثاني مواجهة المسلمين.

ثورة عبد الله بن الحاجب المنصور

وفي عام 379، ثار حاكم مدينة “سانت ستيفان” عبد الله ابن الحاجب المنصور على أبيه؛ فغضب المنصور غضبًا شديدًا، فحاصر المدينة وفر ابنه إلى حاكم البشكنس غرسية. فأرسل المنصور رسولًا يطلب منه تسليم ابنه لكن غرسية ظن أنها فرصة له، فرفض تسليم الثوار، فتوجه إليه المنصور فقاتله قتالًا شديدًا وهزم البشكنس، وطلب غرسية الصلح فصالحه بشرط أن يعطيه كل الثوار الذين عنده، ففعل. وكان من بينهم ابنه عبد الله فأمر بقتله ومن معه.

غزوة سانت يعقوب

غزوة شنت ياقب (سانت يعقوب) سنة 387. شنت ياقب أي القديس يعقوب، وهو أحد حواري المسيح الاثني عشر، ويرى النصارى أنه كان أسقفًا لبيت المقدس وداعية إلى النصرانية، وكان يدعو ويبشر بالمسيح إلى أن توفي في تلك المنطقة. وتلك الكنيسة -سانت يعقوب- لها أهمية كبيرة لدى النصارى.

رأى المنصور أن تكون الغزوة برية وبحرية؛ فلقد كان الطريق إلى المدينة وعِرًا، وفيه جبال وأنهار. فأعد المنصور الجيش البري في مدينة “سالم”، وأُعد الأسطول البحري في مدينة “قصر أبي دانس”، ومعه العدة والطعام وقوات الهندسة. أمر المنصور أن تبدأ الحملة في 24 جمادى الآخر من نفس العام، وقاد المنصور القوات البرية إلى نهر “دويرة” وأمر السفن أن تدخل النهر وجانب المحيط الأطلسي حتى تشكل جسر يمكن العبور عليه.

فتح المسلمون مدينة “بورتو” التي كانت موضع تجمع القوات البرية والبحرية. وكان سلاح الهندسة يدمر العوالق البسيطة، ويوسع الممرات للجند. وعبر الجيش إلى أن وصلوا حصن بلاي؛ الحصن الذي لم يفتحه المسلمون من قبل لشدة تحصينه. وساروا عبر الأنهار والجبال إلى أن وصلوا إلى شنت ياقب في 2 شعبان من نفس العام، أيْ بعد مسيرة شهرين تقريبًا.

لم يتوقع سكان المدينة أن المسلمين يستطيعون الوصول لها؛ فمضوا إلى الجبال، فدخل المسلمون المدينة من غير قتال يذكر، وغنموا الغنائم الكثيرة التي تركها أهلها. ويذكر أن المنصور مر على قبر القديس يعقوب؛ فرأى رجلًا مسنًا عنده، فسأله المنصور: ماذا تفعل هنا؟ فأجابه الرجل أؤنس صاحب القبر، فأمر المنصور بعدم مس الكنائس والقبر، وتدمير الحصون والقواعد العسكرية والمصانع الحربية، ثم أمر بالرحيل والعودة.

الجانب الحضاري

محمد بن أبي عامر

كان الحاجب المنصور يهتم بالجانب الحضاري والعمراني في البلاد؛ فقد أسَّس الزاهرة، ووسع المساجد وبالذات جامع قرطبة الكبير، الذي أصبح أكبر من أي مسجد أو كنيسة في العالم -في ذلك الزمان-، ولا يزال موجودًا إلى يومنا في إسبانيا، لكنه للأسف تحول إلى كنيسة بعد سقوط الأندلس. وكانت العلوم والتجارة والصناعة مزدهرة في عصر الحاجب المنصور، كما كانت في أيام الداخل والناصر. ولقد كانت قرطبة مركزًا للعلم.

قصص في عهد المنصور

1- الأسيرات الثلاث:

ويُذكر أن المنصور أرسل رسولًا إلى ملك البشكنس زمن السلم والمعاهدة، فأدى الرسول رسالته وأخذ جولة في البلاد. وأثناء هذه الجولة، وجد ثلاث نسوة من المسلمات في إحدى الكنائس، فعجب وسألهن عن ذلك فأجبن أنهن أسيرات.

فذهب الرسول إلى المنصور؛ ليخبره، فغضب المنصور، وأعد جيشًا، وذهب إلى نافار بلاد البشكنس فعجب ملك نافار من هذا الجيش. فقال للمنصور: نحن لا نعلم لماذا جئتم، وقد كان بيننا وبينكم معاهدة على ألَّا نتقاتل، ونحن ندفع لكم الجزية. ورد المنصور بعزة نفس: إنكم خالفتم عهودكم، وحجزتم أسيرات مسلمات. فقال الملك: لا نعلم بهن. فذهب الرسول إلى الكنيسة وأخرجهن. فقال ملك نافار: إن هؤلاء النسوة لا نعرف بهن؛ فقد أسرهن جندي من الجنود وتم عقابه. وأرسل إلى المنصور يعتذر اليه أشد الاعتذار.  

2- الجاسوس:

ويُذكر أن المنصور في إحدى غزواته، كان في مدينة سالم، وكان الجو باردًا والأمطار شديدة وغزيرة. وفي تلك الليلة، أمر المنصور أحد جنوده أن يخرج إلى مكان سماه له. وقال: من مر بك في هذه الليلة تأتي به إليَّ كائنًا من كان. فاستغرب الجندي -في نفسه- من يخرج في هذا البرد القارس.

فمضى الجندي إلى ذاك المكان، وبعد انتظار مر به رجلُ مسن من أهل الذمة. فقال له الجندي: إلى أين أيها العجوز في هذا الوقت؟ فرد العجوز: أريد حطبًا لأهلي ليستدفئوا. فقال الجندي: لا بد أن تأتي معي إلى الأمير. فرد العجوز: وماذا يريد مني الأمير؟ فأجبره الجندي على الذهاب إلى المنصور. فأمر المنصور بتفتيشه، فلم يجدوا شيئًا مريبًا. لكن المنصور أمر بتفتيش بردعة الحمار فوجدوا رسالة إلى العدو، كتب فيها: اهجموا على جيش المنصور في الجهة الفلانية، ونحن سنساعدكم على تلك المباغتة. تملك الجندي الدهشة. وقال للمنصور: وكيف عرفت أن هذا الجاسوس سيمر تلك الليلة؟ فقال المنصور: وهل تنتهز العيون إلا أمثالها!

3- ألفونسو وقبر الحاجب المنصور

ويُذكر أن مولى المستعين بالله بن هود -وهذا في عهد ملوك الطوائف-. يقول: لما ذهبت لمقابلة “ألفونسو” وجدته في مدينة سالم. وقد نصب على قبر الحاجب المنصور سريره، وامرأته متكئة إلى جانبه. فقال لي: يا شجاع -اسمه- أما تراني قد ملكت بلاد المسلمين وجلست على قبر ملكهم؟ قال حملتني الغيرة أنْ قلت: لو تنفس صاحب هذا القبر وأنت عليه، ما سمع منك ما يكره سماعه ولا استقر بك قرار. فهمَّ بي فحالت امرأته بيني وبينه. وقالت: صدقك فيما قال، أيفخر مثلك بمثل هذا؟

موت الحاجب المنصور

محمد بن أبي عام

وفي سنة 392، توفي محمد بن عبد الله بن عامر “الحاجب المنصور”. وهو ابن الستين، وفي طريقه إلى إحدى غزواته في الشمال. كان -رحمه الله- لديه إرادة لا تقهر وعزيمة لا تعرف الكلل. من أجيرٍ في صغره إلى حاكم للأندلس، لم ترَ الأندلس مثله في العزيمة والجهاد وفي الكرم والسخاء.

وحينما توفي -رحمه الله- كُتب على قبره:

آثاره تنبيك عن أخباره
حتى كأنك بالعيان تراه
تالله لا يأتي الزمان بمثله
أبدًا ولا يحمي سواه

عبد الملك ابن المنصور

بعد وفاة المنصور، عُين عبد الملك ابنه حاجبًا للبلاد، ولقب بالحاجب المظفر في السابع والعشرين من رمضان سنة 392. وكان على خطى أبيه حاجبًا للخليفة هشام المؤيد بالله، ويغزو كل سنة ويدير البلاد خير إدارة، ويوقع الهزائم بالنصارى.

عبد الرحمن ابن المنصور

عبد الرحمن بن محمد (شنجول)، بعد وفاة أخيه سنة 399؛ أصبح شنجول حاجبًا للمؤيد بالله. وكان شنجول فاسدًا فاسقًا، شرابًا للخمر فعالًا للزنا، كثير المنكرات، فكرهه الناس.

وأول ما فعله أنه طلب الخلافة. وبعد الضغط على المؤيد بالله أصدر المؤيد بالله قرارًا عين بموجبه عبد الرحمن بن محمد ولي عهده. لكن الأمويين رفضوا وثاروا بقيادة محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر. فمن هو شنجول هذا وما أصله ونسبه؟ إنه ليس أمويًا ولا قرشيًا والحكمُ فيهم، ولم يجرؤ أبوه الذي كان خيرًا منه أن يطلب الخلافة.

سيطر الأمويون بقيادة محمد بن هشام على قرطبة، وقتل شنجول، وتنازع الأمويون أتباع المؤيد بالله وأتباع محمد بن هشام الذي أعلن أنه هو الخليفة. وبدأت ثورات أخرى، ودول بل دويلات جديدة. وصلت لاثنتين وعشرين دولةً. وتمزقت الأندلس، وانتشرت عند الناس المعازف وحب الجاه، وضاعت الجزيرة الخضراء.

المصادر

  1. الأندلس التاريخ المصور، د/ طارق السويدان.
  2. الكامل في التاريخ، ابن الأثير.
  3. قصة الأندلس من الفتح حتى السقوط، د/ راغب السرجاني.
  4. البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، ابن عذاري.
  5. نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، المقري.
  6. تاريخ الأندلس من الفتح حتى سقوط الخلافة في قرطبة، وديع أبو زيدون.

عبدالعزيز المسلَّم

مهتم بالتاريخ الإسلامي.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى